بِصفتِها جُنديّةً فخورةً من إيفانيس، كان على كلوي أن تتعامل مع هذه الأزمة بهدوءٍ واتّزان.
فالأصل في الحرب ليس استعراض القوّة، بل هو التقدير والخطة.
وفي كتاب إرشادات إدارة الجيش الذي ألّفه داميان ليام، وهو من الكتب التي يجب على كلّ جنديٍّ في إيفانيس قراءتها، وردت العبارة التالية:
“إنّ استخدام القوّة ليس سوى وسيلةٍ من وسائل عديدة لتحقيق الهدف. لذا، قبل اللجوء إلى استعراض القوّة، يجب أوّلًا إقناع العدوّ لإحباط غايته، وإن تعذّر ذلك، فعلى المرء أن يلجأ إلى الوسائل الدبلوماسيّة والمعاهدات وما شابهها لردعه. فاستعراض القوّة يجب أن يكون دائمًا آخر الحلول.”
لذلك، قرّرت كلوي أن تبدأ بالإقناع.
“لا، أقصد أنّي فقط أردتُ أن تعتاد على شعري، بل وتمتدّ العادة لتشمل شعرَ آنساتٍ أُخريات أيضًا، كي تسير علاقتك العاطفيّة بسلاسة…”
“لكن كي اعتاد عليهنّ، لا بُدّ أن أقترب منهنّ. أتّفق معكِ تمامًا.”
“لكن، أليس من الممكن أن نؤجّل هذا إلى وقتٍ آخر…؟”
“في كتاب داميان ليام إرشادات إدارة الجيش، ورد أنّه يجب أن يتحرّك الجيش كما يتحرّك الماء في مجراه.”
يا للأسف، فقد كان القائدُ العدوّ يستشهد بالكتاب ذاته الذي تستند إليه كلوي. اللعنة! إنّ المشكلة أنّ داميان ليام عبقريٌّ تكتيكيّ أكثر من اللازم.
سواءٌ شعرت كلوي باليأس أم لا، واصل كيرتيس حديثه:
“عادةً ما تُفسَّر تلك العبارة بمعنى أنّ الأمور يجب أن تسير بسلاسةٍ طبيعيّة، لكنّ هناك تفسيرٌ آخر أيضًا. فحين يبدأ الماء بالجريان، لا يمكن إيقافه، وإذا حاولتَ حبسه قسرًا، فإنه سيفيض في النهاية. ومن هذا المنطلق، فإنّ ما يجري الآن ليس سيئًا أبدًا.”
‘ما هذا الجنون! كلانا متضرّر هنا!’
فكّرت كلوي بسرعةٍ محمومة. ولحُسن الحظ، كان هناك وسيلة دبلوماسيّة أخرى يمكنها الاستعانة بها في هذه الحالة.
“جلالتك، هل تذكر العقد؟”
“أتذكره، وما به؟”
“في العقد، ورد أنّ كلوي أمبرويز لا يجب عليها أن تدخل المساحة الشخصيّة لكيرتيس شان بيرك دون إذنٍ طوال فترة العقد…”
لكنها توقّفت فجأة. لحظة، مهلاً… لم يُذكر أيُّ شيءٍ عن العكس!
لقد حذّرها الجميع من التوقيع على العقود دون قراءة، وهي الآن ترغب في قتل نفسها السابقة التي لم تصغِ لتلك النصيحة.
‘هل يُعقل أنّ المجنونة هنا أنا؟’
لقد ندمت أشدّ الندم على توقيعها عقد انضمامها كضابطةٍ تحت إمرته، وها هي الآن تقع في الفخّ نفسه مرّةً أخرى لأنها لم تراجع الشروط بدقّة.
بينما كانت غارقةً في اضطرابها، ابتسم القائد العدوّ، أيّ كيرتيس، وأجابها بهدوء:
“بمعنى آخر، يحقّ لي الاعتراض فقط إن اقتحمتِ فراشي دون إذن. لكنّ ما يحدث الآن قائمٌ على التوافق، أليس كذلك؟”
“متى قلتُ إنّي وافقت؟!”
“ربّما يُمكن تسميته نصيحةً… أو توجيهًا.”
كان الرجل عنيدًا إلى حدٍّ يثير الجنون. لا سبيل للخروج من هذه الأزمة بالطريقة المعتادة. أدركت كلوي هذه الحقيقة بوضوحٍ مؤلم.
‘يبدو أنّه لا مفرّ من اللجوء إلى استعراض القوّة.’
قالت بتصميمٍ وهي تنهض فجأة من السرير:
“آه، هذا لا يُجدي نفعًا إذًا. حسنًا، ما رأيك أن نذهب إلى مكتبك يا جلالتك؟ يا للعجب، ما أجمل هذه الزهور!”
ثم مشت بخفّةٍ وخرجت من الغرفة، بينما كان الرجل يسير خلفها بخطواتٍ متراخية، ويداه في جيبيه، كأنّه يريد أن يرى إلى أين ستصل.
دخلت كلوي المكتب وهي تصفر بنبرةٍ هادئة، ثمّ اقتربت من المزهرية الموضوعة في وسط الغرفة لتشمّ الزهور.
“رائحتها جميلة. يبدو أنّ إدارة الزهور في القصر تعمل بجدٍّ هذه الأيام؟”
“ومتى بدأتِ تهتمّين بزهور مكتبي إلى هذا الحدّ؟”
“منذ اليوم فقط، بفضل دوقة غلينترلاند! فجأةً أصبحتُ أرى المزهريات في كلّ مكان، هاها…”
ثمّ أخذت المزهرية قائلة:
“أفكّر في وضعها في غرفة النوم. هاها.”
“افعلي ما تشائين.”
كانت قد أعدّت ذريعةً مسبقًا خوفًا من أن يمنعها، كأن تقول: “آه، لا أرتاح للنوم في غرفة جلالتك الكئيبة…” لكنّها لم تحتج إلى ذلك.
أخذت المزهرية بسرعةٍ وسارت نحو غرفة نوم الدوق، وفتحت الباب.
كانت الغرفة في غاية النظافة والترتيب، تُحافظ عليها الخدم دائمًا رغم أنّ صاحبها نادرًا ما يستخدمها.
لقد كانت نظافتها مبهرة إلى حدّ أنّ كلوي نفسها، رغم دخولها إليها بدافعٍ خفيّ، لم تستطع إلا أن تُبدي إعجابها.
“يا للعجب… واسعةٌ ونظيفة!”
شعرت ببعض الغيظ رغم ذلك.
‘إذا كانت بهذه الروعة، لِمَ لا تعطيني إياها بدلًا من تركي أختنق في غرفة الضباط الضيّقة!’
قال الرجل من خلفها بنبرةٍ هادئة:
“يبدو أنّ الغرفة راقت لكِ، هذا مطمئن.”
لكن لم يكن الوقت مناسبًا للثرثرة، فصوته وهو يقترب ويشبك ذراعيه جعل قلبها يقفز فزعًا. حاولت تدارك نفسها ورفعت صوتها مصطنعةً الحماسة:
“أوه، طبعًا! واسعةٌ ونظيفة! ممتازةٌ جدًا!”
ثمّ سارت بخطواتٍ متصنّعة…
“آه!”
تعثّرت – عن قصدٍ بوضوح – بالسجادة، وألقت المزهرية على السرير.
تشببب!
تناثر الماء والزهور على الفراش بصوتٍ بائس. صرخت كلوي بصوتٍ مبالغٍ فيه.
“آه! يا إلهي، ماذا فعلت!”
‘هاه! انظر إلى هذا! هذه هي استراتيجيّتي في استعراض القوّة ضدّ مهووسي النظافة!’
ثم التفتت نحوه مبتسمةً بتوتر.
“آه، ما العمل الآن؟ لقد ارتكبتُ… خطأً صغيرًا؟”
كان الرجل المائل على الباب، بذراعيه المتشابكتين.
“خطأ.”
“نعم! خطأ!”
هتفت بفخرٍ مصطنع.
“يبدو أنّه لا حلّ يا جلالتك. عليك أن تنام في قصر الدوق. أمّا أنا، فبما أنّي مجرّد مساعدةٍ تابعة، فسأعود إلى غرفة الضبّاط لأنام هناك!”
لم يُجب الدوق، بل تقدّم نحوها حتى وقف أمام السرير، ناظرًا إلى البقعة المبلّلة، وقال بهدوءٍ غامض:
اقترب منها بخطواتٍ بطيئة. تراجعت لا شعوريًّا، لكنّه تقدّم بنفس القدر الذي ابتعدتْه.
‘يا للسخرية، المشهد الآن عكس تمامًا ما كنتُ أتمنّاه…’
وفي لحظةٍ خاطفة، وجدت ظهرها ملتصقًا بالجدار.
تفاجأت بشدّة وهي تحدّق به، فابتسم كيرتيس ابتسامةً ملتوية وقال:
“ولِمَ كلّ هذا الخوف؟ قلتِ إنّه مجرّد خطأ.”
ثمّ أسند يده على الجدار بجانبها.
فشلت استراتيجيّة استعراض القوّة. وبما أنّ فشل استخدام القوّة يعني الهزيمة، فقد وجدت كلوي نفسها على وشك أن تدفع ثمن تلك الهزيمة… بمشاركة الفراش مع المنتصر.
لكن حتى المهزوم له آخر وسيلةٍ يلجأ إليها.
“جلالتك.”
“تكلّمي.”
“ألم تقل إنّك تحبّ النظافة؟”
قرّرت أن تستدرّ عطفه… أو بالأحرى تستدرّ نظافته!
لكن كما يحدث في أغلب حالات الهزيمة، تمّ تجاهل توسّلها تمامًا.
“ألم تقولي إنّ عليّ أن أتحمّل؟”
ابتسم بسخرية وهو يردّ عليها. شعرت كلوي باليأس.
“لا، أقصد…”
فركت وجهها بيديها في إحباط.
“لم أقصد أن تصل الأمور إلى هذا الحدّ…”
اللعنة! لو كنتُ أعلم أنّ هذا سيحدث، لما سكبتُ الماء على السرير أبدًا!
لم تكن تعلم تمامًا لماذا يتصرّف كيرتيس هكذا، لكنّها شعرت أنّه يستمتع بمضايقتها.
ولم تتوقّع أبدًا أن تكون رغبته في إزعاجها أقوى من حرصه على النظافة، لكن، إذا فكّرت بالأمر، فربّما كان هذا جزاء ما اقترفته هي نفسها. لقد بدأتْ بالمشاكسة أولًا.
‘اللعنة… كان عليّ أن أتحمّل!’
‘هل أستخدم إحدى رغباتي الآن؟’
ففي العقد، كان هناك بند يقول: “يجب على كيرتيس شان بيرك أن يُلبّي أيّ طلبٍ تتقدّم به كلوي أمبرويز ثلاث مرّاتٍ خلال مدّة العقد.”
‘لكنّي استخدمتُ واحدةً بالفعل…’
لقد استخدمتها مرّةً سابقة في لحظة غضب، وإن استخدمتها الآن فستكون المرّة الثانية.
‘قلتُ من قبل إنّ من يُفرّط في الفرص يندم… لكن هل يستحقّ هذا الموقف أن أُهدر عليه الثانية؟’
غطّت وجهها بكلتا يديها وهي تُصارع قرارها.
الجواب جاء سريعًا: نعم، يستحق.
لكنّ شعورًا غريبًا تسلّل إليها، وكأنّ أحدًا يُمسك برقبتها ويسألها: ‘هل هذا كلّ ما لديكِ؟’
وكأنّ هناك شيئًا آخر لم تُدركه بعد.
وفي تلك اللحظة، سمعَت صوتًا متردّدًا يخترق أذنها:
“الملازم… هل تبكين؟”
رفعت رأسها بدهشة، ونظرت أمامها. وهناك، رأَت مشهدًا لم تَرَه في حياتها قطّ.
عيني كيرتيس شان بيرك البنفسجيّتين، متّسعتين حقًا بدهشةٍ صادقة، لا تنظران إلا إليها.
التعليقات لهذا الفصل " 96"