“هل بدأت الآن فقط تفهم قلبَ الدوقة المسكينة التي كانت تُضطرّ للعمل ليلًا هنا؟”
قالت كلوي بتذمّرٍ متعمّد وهي تتذكّر ضيق المكان، فيما ألقى عليها كيرتيس نظرةً جانبية قبل أن يجيب باستهزاء.
“لستِ الوحيدة التي عملت ليلًا.”
“هذا صحيح. لكنك يا صاحب السمو دوق….”
قالت ذلك وهي تشير بذقنها نحو مكتب الدوق، تقصد الحمّام وغرفة النوم الصغيرة الملحقة به.
عندما تضطر كلوي إلى العمل ليلًا ولا تستطيع العودة إلى منزلها، كان عليها أن تستحم في حمّام الحرس الملكي لكونها ضابطةً مرافقة. أمّا الدوق فبإمكانه الاستحمام في الحمّام الملحق بمكتبه.
طبعًا لم يكن حمّام المكتب واسعًا على نحوٍ خاص. لكن مجرّد كونه خاصًّا به وحده يمنحه راحةً لا تُقارن.
أما غرفة النوم، فهي أيضًا لم تكن فسيحة، لكنها كانت أوسع بكثيرٍ من غرفة كلوي، وفيها حتى طاولةٌ صغيرة لتناول الطعام.
للوهلة الأولى قد تبدو تلك الغرفة عاديةً كبقية مرافق الحرس الملكي، لكنها في النهاية جزءٌ من القصر الملكي، وهذا يمنحها شيئًا من الفخامة.
وقد سمعت كلوي ذات مرّةٍ الملازم نويل يقول إنّ تلك الغرفة يمكن مقارنتها بجناحٍ في فندق “لافين روز” الفخم في العاصمة إيفانيس.
وفوق ذلك، كانت تعرف أنّ هذا الرجل لم يَنَم يومًا في تلك الغرفة ولو لمرةٍ واحدة. فقد كان يقول إن النوم في سرير قصر الدوق أنظف وأكثر راحة.
ومهما كان الوقت متأخرًا، كان يعود لينام هناك ثمّ يأتي صباحًا إلى العمل من جديد.
حين كانت مساعدة، كانت تظنّه مجرّد إنسان غريب الأطوار، لكن بالتفكير مجددًا، لم يكن الأمر بلا منطق. فمهما كان مقرّ الحرس الملكي، فإن القصر مليءٌ بعيون الملك.
قصر الدوق لم يكن آمنًا بالكامل، لكنه يبقى أهدأ وأكثر راحةً من هنا.
أما من وجهة نظر كلوي، فكان الأنسب ألا يعمل ليلًا أصلًا.
“لا أعلم، لكن كلما فكرت في الأمر يزداد غضبي. أضف أنّني أنام على سريرٍ مخصّصٍ للسجناء!”
“…هذا سرير سجناء؟”
“لم أكن أعلم من قبل. لكنني اكتشفتُ ذلك مؤخرًا.”
وكان ذلك صحيحًا.
فقد عرفت الأمر حين فتِشَت مركز الاحتجاز الخاص بكبار الضيوف بسبب إيزابيلا لا غلينتراند.
المظهر والحجم كانا متشابهين، لكن ما أكّد لها ذلك هو الوسادة. حين تمدّدت قليلًا على أحد أسِرّة الاحتجاز بدافع الفضول، أحسّت بذلك الإحساس المألوف من ليالي العمل الطويلة.
‘إنّه طَعم السهر المعتاد…!’
نعم، لقد كان السرير نفسه.
وللتأكّد، قارنت بين سرير الاحتجاز وسرير غرفة المساعدين، فكانا متطابقين تمامًا.
“أتعلم؟ أشعر بالحزن فجأة.”
قالت كلوي وهي تتظاهر بمسح دمعة، متخيّلةً نفسها سجينةً بجرم كونها مساعدة، محبوسةً في “زنزانة” غرفة المساعدين في “سجن” الحرس الملكي.
لكنها لم تُرد أن تقول كلّ ذلك بصوتٍ عالٍ.
“أما أنت فسريرك واسعٌ ومريح.”
عند قولها ذلك، انتفض كيرتيس فجأةً بطريقةٍ غريبة. ما الأمر؟ كلوي قطّبت أنفها.
“بدلًا من أن تشفق على مساعدةٍ تنام فوق سرير سجناء…”
“…فلتنامي على سرير المكتب إذن.”
هذه المرّة، فتحت كلوي عينيها بدهشةٍ كمن يسمع شيئًا مجنونًا.
“أنا؟”
“وأعرف ما ستقولينه بعدها، لكن بصراحة…”
قاطعها كيرتيس بسرعة، لكن كلوي لم تصمت.
“معك؟”
أشارت إليه بأصبعها، ثمّ إلى نفسها، فصار وجهه يحمرّ ويزرقّ بالتناوب. أما هي فاكتفت بهز يدها.
“أنا أفضّل النوم وحدي.”
“لكنّكِ كنتِ تشكين من سرير السجناء.”
“وأراهن أنك أيضًا ستفضّل ذلك.”
قطعت كلامه بسرعة. ربما لم يكن يُدرك ما يقول، لكنها كانت تعرف.
“لن تنام معي على أيّ حال.”
“…..”
“هل تستطيع النوم فعلًا؟ أنت الذي لا تسمح لي حتى بفكّ شعري في الغرفة.”
فنظر إليها بحدة.
“أخبرتُكِ. هذا…”
“أعرف، أعرف.”
لوّحت بيدها.
“أعرف ظروف سريرك وفلسفتك في النظافة. لا أنوي انتقادك.”
“..…”
“أقصد أنه لا داعي لاقتراحّ لا تعنيه.”
لكن المدهش أنّه لم يرد فورًا بل تردّد. بدا واضحًا أنّه ما زال يفكر في ما قالته إيزابيلا لا غلينترلاند عن النوم معًا.
“ليس أنّني لا أعنيه…”
وقبل أن يكمل، أجابته كلوي بالفعل لا بالكلام.
فقد أسرعت بفكّ الشريط المربوط عند طرف ضفيرتها، ونشرت شعرها الطويل أمامه متعمدة.
وبينما كانت تمرّر أصابعها خلاله بقوة، تراجع كيرتيس خطوتين إلى الوراء. فابتسمت كلوي بخفة.
“أنت تبالغ.”
“ماذا؟”
“هل أنا وباء؟”
“…ليس هكذا.”
لكن الواقع أنّ نظراته لم تكن تُخفي نفوره، وكأنّ شعرها الطويل وباءٌ قاتل.
هكذا هو، لم يكن مُمكنًا أن يتغيّر فجأةً. حتى لو قال مئة مرّة أمام الناس إنه يحبّها، فالواقع يظهر حين ترى رد فعله لمجرّد أن تفك شعرها.
‘الطريق ما زال طويلًا.’
حتى لو لم تذكر إيزابيلا دماء الفراش، كان سينكشف أمره عاجلًا أم آجلًا.
ذلك الانبهار العابر الذي أبداه سابقًا لم يكن إلا لأن كلوي بدت نظيفةً تمامًا بشعرٍ مضفورٍ بإحكام.
لحظة ضعفٍ صغيرة، أو تساهل قصير.
لكن ها هو الآن يجزع لمجرّد خصلة شعر، فيبدو الأمر مثيرًا للشفقة.
“على كل حال، فهمت قصدكِ. أردتُ فقط أن أقول إن الليل قد تأخر.”
يا للغرابة! منذ متى صار يلاحظ تأخّر الليل وهو “آلة العمل الليلي”؟ بدا الأمر سخيفًا.
كان كيرتيس يبدو مختلفًا جدًا هذه المرّة: متوترًا، متلعثمًا. كل ذلك بسبب بعض الشعر المتساقط؟
بل حتى حمرة وجهه قبل قليل قد تكون لنفس السبب.
لماذا إذن؟ قبل لحظاتٍ كانت تنوي قول: “أشكرك على لطفك، لكن لا داعي لذلك.” لكن فجأةً غلبتها رغبةٌ طفولية في المشاكسة.
فنظرت إليه بحدةٍ، ثمّ ببطء دفعت خصلة شعرها إلى كتفها الأيسر وتقدّمت خطوتين نحوه.
“…ماذا؟”
تراجع خطوةً أخرى وهو ينظر إليها بريبة. لكنها لم تتوقف. ابتسمت أوسع واقتربت حتى صارت تحت ذقنه تقريبًا.
“ماذا تظن غير ذلك؟”
وفي اللحظة نفسها أمسكت شعرها بكلتا يديها كطفلة تعبث بخصلاتها.
فتفاجأ الرجل.
“!”
لكنها لم تكن شريرةً لتؤذيه أكثر. فكّرت للحظة أن تلقي شعرها على عنقه، لكنها خافت أن يُغمى عليه.
ألم يبدُ وجهُه شاحبًا فعلًا؟
‘يا لها من تصرّفاتٍ طفولية.’
أثار منظره ضحكها، لكنها رأت أنّ الأمر كافٍ.
فعادت ولَفّت شعرها الطويل بإحكام وجعلته كتلةً متدلّية كعقدة قرب أذنها. فصُدم كيرتيس بما رآه.
“أنا طيبة القلب، لذا سأتوقف هنا. فهمت؟”
ظلّ مذهولًا وهو يراها تصنع تلك العقدة التي بدت كعُجينةٍ ملتوية.
كلوي نقرّت بلسانها.
لا أحد يعلم أنّ هزيمة بطل الحرب يمكن أن تتحقق بهذه السهولة. كان ذلك سرًّا قوميًّا في يدها.
‘بضع خصلات شعرٍ تكفي لإسقاطه باكيًا.’
“حبيبي.”
ارتجف مجددًا عند الكلمة، وعاد البريق قليلًا إلى عينيه. فوضعت كلوي ذراعيها على صدرها وبّخته قائلة:
“الأفضل أن تقول كلماتٍ لا تعنيها أمام الآخرين فقط. أما الآن، فلن تنجح في أيّ علاقةٍ ما لم تعالج هذا أولًا.”
“علاقة؟”
ردّد كيرتيس الكلمة بدهشة. رفعت كلوي كتفيها.
“ألم تقول إنك ستدخل علاقة حب؟ متى بالضبط؟”
“أنا؟”
“هذا مضحك.”
حدّقت به بعيون غاضبة وكأنها تقول: ألم تنسَ العقد بيننا؟ فتنهّد كيرتيس ومسح وجهه بيديه.
رفعت كلوي حاجبيها بدهشة وهي تنظر إليه.
“بصراحة، لو لم تفسد إيزابيلا لا غلينترلاند الأمر في الحفل الكبير، لكنّا على الأقل حددنا بعض المرشحات.”
“مرشحات؟ لأيِّ شيء؟”
“لأيِّ شيءٍ برأيك؟”
أجابت كلوي بسخريةٍ. عندها فقط فهم كيرتيس، لكنه فتح فمه مذهولًا.
“لا يُصدَّق. إذن، تريدين أن تختاري أنتِ شريكة حياتي؟”
“وما المانع؟”
“هل هذا ممكنٌ أصلًا؟”
ثم بدأ يتمتم لنفسه: “لا عجب أنكِ تتصرّفين كمن لا يملك ذرةً من الفطنة…”
رمقته كلوي بحدة، ولما بادرها بسؤال: “لماذا؟” ردّت متجهّمة.
“وهل ستختار أنت؟ أنت الذي لا تحتمل حتى شعرةً من رأسي؟”
“متى قلتُ…”
“عليك أن تختار سريعًا، وإلا سأظل عالقةً في هذا الوضع.”
التعليقات لهذا الفصل " 94"