الرجل أبدى انزعاجَه بعصبيّة، لكن كلوي استمرّت في الإشارة إلى ما كان يثير قلقَها.
“لكن إنْ تركنا الأمورَ هكذا، فستكون لديها عُيوبٌ كثيرة تجعلها غير صالحة. هناك الكثير من الفتيات السليمات.”
“لكن لا أحد سيكون يائسًا مثل امرأةٍ احتُجِز طفلُها كرهينة. على أيّ حال، كلّها مجرّدُ تخمينات. التفاصيل لن نعرفها إلّا إن فتحت هي فمَها.”
“هممم.”
وضعت كلوي الأوراقَ بجانبها ثم تمدّدت على السرير على جنبها وهي مكتوفةُ الذراعين.
على أيّ حال، كان الاثنان بحاجةٍ إلى اعتراف إيزابيلا لا غلينترلاند. لكن وفقًا لافتراض كيرتيس، كان احتمالُ أن تدليَ بشهادةٍ لصالحِ الدوق وزوجتِه ضئيلاً جدًّا.
فإن كان طفلُها محتجزًا كرهينة، فذلك أوضح.
ففي اللحظة التي تُغضِب فيها ملكَ غلينترلاند، ستصبح أسرتُها في خطرٍ مهما كانت نتيجةُ الأمر.
“بارثولوميو هو مفتاحُ هذا الوضع.”
“تكلّمي.”
كان صوته يوحي: ولماذا تظنّين ذلك؟ كما لو أنّه معلّمٌ يختبر تلميذَه. لكن، بما أنّها عملت طويلًا كمساعدةٍ له، فقد باتت خبيرةً بهذا النوع من الاستنتاجات.
“إيزابيلا لا غلينترلاند ذكرت تيريزمانيا وكاتراكت.”
بما أنّها كانت مستلقية، أحسّت كلوي بأنّ القميصَ الفضفاض الذي انزلق حتى عنقها مزعجٌ للغاية. رتّبته بخفّةٍ وهي تتابع:
“وكلتاهما أيضًا متاخمتان لبحرِ ساروبا حيث ينشطُ ملكُ القراصنة بارثولوميو. ولهذا فالإبادةُ هناك يُمكن أن تتمّ فورًا. لكن يبدو أنّهم يتكاسلون عنها.”
“تابعي.”
“لكن المساعدةَ التي يُمكن لسموّك أن أن تعرضها عليها ليست مغريةً بقدر ذلك. بل لو أراد سموّك أن تجني نتيجةً تُرضي ملكَ غلينترلاند على الأقل، فسيَلزم أن تتزوّج بها.”
قالت ذلك وهي تشدُّ ضفيرةَ شعرها لتصفيفِها.
لكن كان هناك مُشكلٌ واحد: كيرتيس كان يجلس متكئًا تمامًا بجوارها.
صفع!
شعرُ كلوي الكثيف ارتدَّ على وجه كيرتيس.
“آه.” قالت كلوي متفاجئةً وهي تنظر إليه.
كيرتيس، الذي جلسَ بلا حراكٍ وتلقّى ضربةً من شعرها على وجهه، عبس بشدّةٍ ثم نظر إليها.
والأنظارُ التقت، وبمسافةٍ بالغة القُرب. إلى درجة أنّ أنفاسَه الدافئة لامست شفتيها.
تضيّقت حدقتُه الأرجوانيّة، وكلوي ارتجفت.
“أعتذر.”
قالت ذلك وهي تُحرّك نصفَ جسدها لتتمدّد على السرير شبهَ منبطحة. فسقطت ساقُها التي كانت مسنَدة إلى الجدار على الفراش بصوتٍ مكتوم.
وفي تلك اللحظة، بينما عيناها ما تزالان ثابتتين على وجه كيرتيس، مدّت يدَها. ارتعش هو وأمسك معصمَها بغتةً.
“ماذا.”
“آه.”
رمشت كلوي بعينيها.
“شعري عالقٌ بوجه سموّك…”
كيرتيس أيضًا، وكأنّه لم يفهم الوضع للحظة، رمش بعينيه عدّة مرّاتٍ وهو يحدّق بها. انعكست عيناه الأرجوانيّتان تحت أضواء السحر الحمراء في غرفة المساعد.
دون أن تُحوّل نظرَها عن عينيه، مدّت كلوي يدَها بحذرٍ وسحبت خصلةَ الشعر الأزرق الداكن العالقة على خدّه.
“…لقد عَلِقَت.”
تحوّلت عيناه من النظر إليها إلى النظر إلى الشعر بين أصابعها.
انتظرت كلوي حتى يستوعبَ الموقف ثم أضافت بخفّة:
“لأنّ سموّك لا تُحبّ ذلك.”
ماذا؟ في تلك اللحظة، احمرّ وجهُ كيرتيس فجأةً.
‘ما هذا؟’
كان الاحمرارُ سريعًا لدرجة أنّ كلوي ذُهلت.
غضب؟ لا. الجميع يعلم أنّ سيّدَها إذا غضب جمدَت ملامحُه، وإذا اشتدّ غضبُه ابتسم ابتسامةً بالغة الجمال.
فلماذا وجهُه متورّدٌ بهذا الشكل…؟
وحين وصلت كلوي إلى هذا الحد من التفكير، احمرّ وجهُها أيضًا. فالحرجُ والارتباك ينتقلان أحيانًا بلا سبب. وهي لم تختبر ذلك من قبل.
وبالطبع، فوجئت بنفسها وهي تجتاحها موجةُ خجلٍ غير مسبوقة.
“دع… دعني.”
‘هذا المشهد مألوفٌ… لكن أين رأيته؟’
لكن عقلَها كان مشوَّشًا أكثر من أن يُحلّل. فكيف لها أن تفهم الموقف إن كانت لا تدري حتى لِمَ تشعرُ بالخجل؟
لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا: كان لا بدّ أن تتحرّر من يده.
المشكلة أنّها كانت مستلقيةً بشكلٍ غير ثابت على السرير. وذراعُها عالقة. حتّى لو تمايلت يدُها، فسيبدو الموقف هزليًّا في نظره.
“آسفة…”
قالت وهي تسحب يدَها، ففاجأها كيرتيس بأن أطلق معصمَها بسهولةٍ غير متوقّعة.
سهولة؟ لا، بل بفتورٍ غريب. وبينما جلست هي بسرعة إلى الوراء، كان هو يحدّق في يده ثم بدأ يفرك وجهه بعنف.
“اللعنة…”
لكن أُذنَيه ظلّتا حمراء.
جلست كلوي بتوتّرٍ وهي تتفاداه بنظرها ثم نهضت متوجّهةً إلى المكتب.
وحين عادت من الحمّام بمنديلٍ مبلّل، كان الرجل جالسًا كمن فقدَ كلَّ حافز، مثنيًا ركبةً واحدة.
“ما هذا؟”
كان ينظر إليها بغضبٍ مُفتعل أشبه بغضب زوجةِ أبٍ لا تُطيق ابنةَ زوجها. فكزّ ذقنَه كما لو كان عين جوزة، والضجرُ بادٍ على فمه.
“لأنّ الملازم نويل ليس هنا.”
“ماذا؟”
“يدُك الآن بلا قفّاز.”
ناولتْه المنديلَ بإشارةٍ برأسها، فأخذه ونظر إليها بدهشةٍ مستهزئة.
لكنّها لم تقل: ‘حسنًا، حتّى وأنا أخدمُك تتذمّر.’ بل قالت بهدوء.
“إن لم تحتاجه فسآخذُه مجددًا.”
“….”
لكنّه رغم ذلك مسح وجهه بعنفٍ شديد، بل وحتى أصابع يديه بين الفراغات. ثم رمى المنديل في زاوية الغرفة.
‘انظري إلى أخلاقِه…’ تمتمت في سرّها وهي تلتقط المنديل.
فبادرها بسؤالٍ غاضب: “لماذا تلتقطينه؟”
نظرت إليه متجهّمة.
“لأنّ هذا المكان غرفتي، وإن لم تلتقطه فليس هناك غيري من يلتقطه.”
حينها فقط، نظر حوله مدركًا أنّه في غرفة المساعدين.
ثم غيّر ملامحَه فجأةً ونهض بخطًى سريعة وانتزع المنديلَ من يدها.
“أعطيني.”
‘هل ستموت لو قلتها بلطف؟ ثم إنّه بيدك أصلًا…’ لكنها كتمت ذلك ولوّحت بيديها.
غادر بسرعة إلى المكتب، وبقيت هي وحدها.
تنفّست عندها الصعداء.
“يا للجنون…”
تمتمت وهي تدفن وجهها بين كفّيها، ثم شدّت على وجنتيها. “مجنونة، مجنونة!” لكن الألم لم يغطِّ على خجلها.
“كدتُ أرتكب خطأ…”
الآن اتّضح لها الموقف: نعم، هناك لحظاتٌ فجائيّة قد تجعل رجلًا وامرأةً يريان بعضَهما كجنسٍ آخر.
‘إذن… نحن الاثنان وقعنا في لحظةِ انجذاب؟ لا أصدّق…’
فالناس كانوا يقولون إنّها والدوق وقعا في الغرام أثناء العمل سويًّا.
لكن كلوي كانت تظنّ أنّه بينها وبين هذا الرجل لن يكون هناك شيءٌ كهذا أبدًا. كيف لا، وهو ليس إلّا رئيسًا بغيضًا تتمنّى أن تُبرحه ضربًا.
“ولِمَ شكله هكذا بالضبط…؟”
دفنت وجهها في السرير وهي تتلوّى. ” كله هذا بسبب جلالةَ الملكة ميلدريد! حقًّا!” حتّى اسم الراحلة ذكرته بغيظ.
فكيف يكون رجلٌ بالغَ الحساسيّةً كهذا قد خُلقَ بهذا المظهر الذي يُضلّل الآخرين؟ مرّتين في يومٍ واحد!
لقد دخلت هذا الزواج بجدّيةٍ كبرى، لكن… اللعنة.
“آه!”
كادت تظنّ أنّه يُعجب بها.
“آآآه!”
صفعت الوسادة بعنف حتى تطاير الريش منها.
وما جعلها تشعر بالإهانة أنّها أدركت أنّ كيرتيس ربّما كان في الوضع نفسه، فهي قد رأته وجهُه محمرًّا حين غادر.
فذلك يعني أنّه شعر بالشيء نفسِه.
فأرادت أن تصرخ: لا! ليس صحيحًا! أنا لا أحبّك! وأنتَ لا تحبّني! هكذا يجب أن يكون!
نعم، كيرتيس شان بيرك ليس سوى مجنون، رئيسٍ بغيض، أو سيّدٍ جائرٍ لا يُنقذها من جحيم العمل الليلي.
لطالما نظرت إليه قائلةً في سرّها: ‘أيُّ شقيّةً ستعيش مع هذا الرجل؟’ ثم حين أصبحت تلك الشقيّة بنفسها، قالت: ‘أيُّ أحمقٍ سيواعد هذا الإنسان؟’
ولا شك أنّه هو أيضًا فكّر الشيءَ نفسَه عنها.
ومع ذلك، لحظةً مضت، شعرت كلوي بقليلٍ من الاضطراب تجاهه.
ورغم أنّها تراجعت بسرعة كالسنجاب الذي يهرب من فخّ، فإنّ حقيقةَ أنّها أوشكت أن تنخدع كانت صادمة.
‘يا إلهي… يجب أن أتماسك. وإلّا سأدمّر حياتي.’
ولم تمضِ لحظات حتى تأكّدَت صحّةُ حدسها.
“…ضاقت الغرفة فجأةَ.”
هذا ما قاله كيرتيس شان بيرك بعد أن عاد ونظر إلى غرفة المساعدين.
لقد شعر هو الآخر بالاضطراب للحظة.
ثم استعاد وعيّه، ونظر إليها بغثيانٍ من نفسه. فلهذا قال ما قال.
التعليقات لهذا الفصل " 93"