الوثائق احتوت على تفاصيل عن إيزابيلا أكثر مما توقّعت.
صحيح أنّ كيرتيس قد زرع جواسيس كثيرين في غلينترلاند، لكنّ السبب الآخر كان أنّ إيزابيلا لا غلينترلاند أصبحت حديثًا بارزًا في بلادها أكثر ممّا ظنّوا.
“لِمَ زرعتَ كل هؤلاء الجواسيس في غلينترلاند؟”
“لديهم لقب نبيل. ولأني مضطرّ لأحسب اللحظة المناسبة لأهرب من شقيقي العزيز، فمن الطبيعي أن أبقى على اطلاعٍ دائم بأخبارهم.”
كلماته التي نطقها بلا اكتراث بدت شديدة المكر والإزعاج.
على أيّ حال، ما جعل إيزابيلا محطّ الأنظار لم يكن جمالها فقط، بل أيضًا أنّها صارت فجأةً ابنةً بالتبنّي لملك غلينترلاند.
صحيح أنّه تبنّاها من أجل زواج سياسي بسبب ضعف قوّة المملكة، لكنّ الناس في كل مكان يقدّسون الدماء والأنساب.
غير أنّ الصحف التي حاولت الحفر عميقًا في ماضيها واجهت ضغوطًا من الملك حتى توقّفت وأُغلقت. كثير من تلك المقالات المحظورة كانت محفوظة في الوثائق.
“أليست هذه المعلومات باهظة الثمن؟”
“رخيصةٌ جدًا.”
من النادر أن تجد جاسوسًا يكلف عشرة ملايين سنويًّا. أصدرت كلوي صوتًا قصيرًا ساخرًا وهي تواصل قراءة الأوراق.
على أيّ حال، يبدو أنّ صحف غلينترلاند قد بذلت جهدًا كبيرًا لتقصّي ماضي الأميرة الجديدة.
المقالات المحذوفة المرفقة مع الوثائق حملت عناوين مثيرة للاشمئزاز، مثل: “العاهرة التي بصقت في وجه الكونتيسة، تولد من جديد كأمّ”، إلى جانب رسمة صحفيّة تُظهر إيزابيلا لا غلينترلاند وهي تحتضن طفلاً.
الملاحظات الجانبيّة كتبت عليها تعليقات من قبيل “مقال عن حادثة قديمة”. صار الأمر يوحي وكأنّ ملك غلينترلاند كان بارعًا في طمس تلك الحقائق.
“هذا ما رأيته حتى الآن. ومعه بعض المعلومات المجرّدَة من الصحّة، لكنّها ملحقة.”
في كل الأحوال، المرأة التي بُنيت عليها الدعوى لكونها بصقت في وجه الكونتيسة ظلّت تجذب اهتمام المدن الصغيرة، حتى أنّهم كتبوا عنها وهي تحتضن طفلاً.
بل إنّ بعض الصحف حاولت بشغفٍ معرفة مَن هو والد ذلك الطفل.
فامرأة مثل إيزابيلا، التي كانت في قلب الجدل، لو تزوّجت من أحدٍ أو أنجبت ابنًا غير شرعي، لكان ذلك مادّةً ثمينة للبيع.
“وماذا عن قصة الوقوع في الحب؟”
“هذا من باب التخمين.”
قال كيرتيس ذلك وهو يدفع بضع أوراقٍ أخرى نحوها.
في الحقيقة، حتى ما جرى في حفلة الأمس كان قد يُعتبر مجرّد شائعاتٍ متضخّمة، ولذلك فصل هذه المعلومات على حدة.
“الجواسيس يرسلون شذراتٍ متفرّقة. لكن عندما تجمعها وتراها مجتمعة، تُفصح عن أشياء أخرى.”
كانت كلوي في تلك اللحظة مستلقيةً عرضًا على السرير وهي تتلقّى الأوراق منه. قبل قليل فقط بدّلت ملابسها وارتدت زيّ الحرس الإمبراطوري الذي أوصلته جوليا.
وبما أنّها ارتدت البنطال، استلقت بإهمال على السرير، أسندت وركها إلى الحائط ومدّت ساقيها إلى الأعلى. ويبدو أنّ تلك الوضعية الاسترخائية أزعجت كيرتيس كثيرًا.
“ألا يُمكنني أن أستلقي قليلاً ما دُمنا لسنا في غرفة التحقيق؟ جلالتك جالسٌ متكئًا على سريري أيضًا.”
“أنا أسأل إن كنتِ معتادةً على ذلك حتى قبل الآن.”
الكلمات حملت بين سطورها معنى خفيًا: أنّها كانت دائمًا تُغلق الباب وتعمل على طريقتها.
أجابت كلوي بلا مبالاةٍ وهي تُبقي عينيها على الأوراق:
“الكرسي في مكتب الضبّاط قاسٍ جدًّا، الجلوس الطويل عليه يسبّب آلام الظهر وتورّم الساقين.”
لم يردّ الرجل المتكئ على السرير. لم يكن قصده أن يطلب تعديل جلستها.
فظلّت كما هي، تستعرض الكلمات في الوثائق بأصابعها، تقرأها بتمعّن.
بحسب ما دوّن هناك، أوّل من وجّه التهمة لإيزابيلا كان موظف المحكمة المسمّى بلاك وود. ثمّ تزوّج هذا الأخير في مدينةٍ مجاورة، قبل أن تنتهي قضيّتها بعدة أشهر.
“إذن، سجّل بلاك وود ولادة ابنه بعد خمسة أشهر من زواجه.”
“صحيح.”
وبذلك، فالطفل لم يُعتبَر ابنًا غير شرعي.
غير أنّ الزواج تمّ في مدينةٍ أخرى، ولذلك أرفقوا فقط شهادة زواجٍ مختصرة. وعلى تلك الشهادة كان اسم الزوجة: بيل بلاك وود.
“الصحفي الذي كتب هذا المقال خمّن أنّ تلك بيل بلاك وود ما هي إلا إيزابيلا لا غلينترلاند. خاصة وأنّ إيزابيلا زارت تلك المدينة في الفترة نفسها.”
هذا ما كان مكتوبًا أيضًا في الوثائق.
بل إنّ إيزابيلا تغيّبت عن جلسات المحكمة المُتبقية بحجّة المرض، مِما أجّل سير القضية.
آنذاك، اعتقد الجميع أنّها مريضةٌ بالفعل لأنها لم تخرج من بيتها.
“لو كانت حاملًا، فهذا مبرّرٌ كافٍ.”
“لكن، هل هذا ممكنٌ أصلًا؟”
سألت كلوي بدهشة.
فالوثائق نفسها تُظهر أنّ العلاقة بين إيزابيلا وذلك الموظّف كانت علاقة عداوةٍ طويلة.
القضية استمرّت أكثر من عامين، وكانت إيزابيلا تُفلت من الحكم عبر إثارة عواطف الشباب النبلاء أو جذب تعاطف الناس.
لكن بلاك وود لم يتراجع، حتى نجح في فرض غرامةٍ عليها في النهاية.
“مع أنّها أخطأت فعلًا… أليست هذه عداوة أبدية؟ كيف يتزوّجان؟”
“ربما مازوخية.” أجاب كيرتيس بلا مبالاة، مشيرًا إلى الأوراق.
فعلاً، ما بين الوثائق لم يكن كافيًا للجزم بأنّ بيل بلاك وود هي نفسها إيزابيلا لا غلينترلاند.
“لكن مجرّد أنّ موظف محكمة فضّل أن يتزوّج في مدينةٍ أخرى بعيدًا عن مكان عمله، فهذا غريبٌ بحد ذاته.”
“ولهذا بالذات الأمر مريب. بلاك وود لم يُخبر أحدًا بزواجه. ولا حتى أقام حفلًا بسيطًا بعده، مع أنه كان معروفًا وذو سمعةٍ طيبة في منطقته.”
أمالت كلوي رأسها بتفكير.
“إذن بحسب التسلسل الزمني، بلاك وود اتّهم إيزابيلا، ثمّ بعد عامين من النزاع… لنفترض أنّهما وقعا في الحب.”
“….”
“وبعد شهرين من انعزالها قدّم هو طلب الزواج. وبعد خمسة أشهر، سجّل ولادة الطفل.”
“مع ملاحظة أنّ تنفيذ الغرامة كان بعد ثمانية أشهر من الزواج. حينها حضرت إيزابيل للمحكمة بدون اعتراض وتلقّت الحكم بهدوء.”
لو صحّ هذا، فهذا يعني أنّها تزوّجت بعد اكتشاف حملها، وأنجبت ثم عادت لتلقّي العقوبة من دون ضجّة.
كلام كيرتيس بدا منطقيًا، لكنه ظلّ عصيًا على التصديق.
كيف وصل الأمر بين عدوّين لدودين إلى الزواج؟ هل كانت فعلًا كما قال: مازوخية؟
مهما يكن، أشار كيرتيس إلى ورقةٍ أخرى.
“وهذا الجزء. أترينه؟”
“أوه.”
فتحت كلوي عينيها وهي تقرأ. كانت الوثيقة رسالةً من ملك غلينترلاند إلى الممالك الخمس المطلة على بحر ساروبا. يطلب فيها التعاون للقضاء على قرصان البحر بارثولوميو، الذي يعيث فسادًا هناك.
طلب معروف للجميع، لكن غالبًا ما يُرفض لأنّ الضرر الأكبر كان على غلينترلاند فقط.
غير أنّ كيرتيس لفت نظرها إلى اسم المبعوث الذي حمل تلك الرسالة في جولةٍ على الممالك الأربع الأخرى. كان بلاك وود.
“مهما كان ما حصل، فالخيوط تشير إلى أنّ الملك أمسك بزمام الزوجين كليهما. والأدهى أنّ مكان ابن بلاك وود مجهولٌ حاليًّا.”
“إيه؟!”
هل يمكن أن يصل الملك إلى هذا الحد؟ رفعت كلوي عينيها إلى كيرتيس بدهشةٍ. فابتسم ابتسامةً غامقة.
“بالمناسبة، الكونتيسة التي بصقت إيزابيلا في وجهها… كانت مرضعة الملك. وذلك الشاب كان ابنها الذي أنجبته في أواخر عمرها.”
“آه؟”
اكتملت الصورة.
المرضعة العجوز رأت كيف أنّ فتاةً وضيعَة، ابنةً غير شرعيّة، أهانتها وأذت ابنها المدلّل، ثمّ سلبت قلب موظفٍ المحكمة أيضًا.
بل أنجبت منه وعاشت معه في رخاء.
بالنسبة إليها، كان ذلك أمرًا لا يُطاق. ربما اعتقدت أنّ حتى الموظّف المخلص قد سقط في فخّ تلك العاهرة.
كأنّ مشهدها وهي تهرع باكيةً إلى العاصمة لتشكو للملك ارتسم أمام عيني كلوي.
“لكن أليس من المفترض أن يُعاقبها الملك؟ كيف يجعلها أميرةً بالتبنّي؟”
“ربما كان وجهها جميلاً أكثر مِما يُحتمل.”
أجاب كيرتيس ببرودٍ، لكنه ارتبك قليلًا حين قابل نظرات كلوي وهو مستلقٍ، فسعل متصنّعًا.
“أعني… كان وجهها مناسبًا ليُستغلّ في صفقات الزواج الخارجي.”
“أنا لم أقل شيئًا.”
“ومن قال إنكِ قلتِ؟”
ومع ذلك، ظلّت هناك ثغراتٌ غير مفهومة، حتى مع كل تلك الوثائق والاستنتاجات المعقولة.
التعليقات لهذا الفصل " 92"