قيل إنّ الملك كان يتردّد كثيرًا إلى قصر الضيوف الملكي بحجّة مواساة الدوقة غلينترلاند بعد فشل خطبة الزواج.
ومن بين تلك الزيارات، لم تُحصَ المرّات التي تظاهر فيها بالسكر وانهار فوق إيزابيلا، أمّا مرّتا صعوده إلى سريرها كما قالت بنفسها فهما مؤكدتان.
“تحمّلتِ ذلك؟”
ابتسمت إيزابيلا ساخرًا من سؤال كلوي.
“وهل يُعَدّ ذلك شيئًا كبيرًا لامرأةٍ لديها طفل؟”
عند سماع تلك الكلمات، تبادلت كلوي النظر بينها وبين كيرتيس.
فرفع كيرتيس كتفيه بلا مبالاة. لقد كان تلميحه قبل قليل للدوقة بأنّه يعرف أمر الطفل المخفيّ، رسالةً صريحة بأن تستسلم وترحل.
لكنّ الأمر بدا أنّه لم يزد الدوقة إلّا إصرارًا.
“سواء أكان لديها طفل أم لا، فهذا أمرٌ مهم!”
“يا صاحبة السمو، الدوقة الكبرى.”
أرجعت إيزابيلا شعرها الكثيف خلف كتفيها وأسندت ذقنها إلى كفّها بخفّة.
وكان ذلك الوضع مثيرًا وساحرًا إلى درجة أنّ كلوي نفسها كادت أن تفتتن بجمالها للحظة.
“صاحبة السمو، من المدهش أنّكِ لا تزالين عزباء، أليس كذلك؟”
“عفوًا؟ ماذا تعنين؟ أنا مع هذا الذي بجانبي…”
لكن إيزابيلا قاطعت كلامها.
“يا صاحب السمو الدوق. كانت الدماء التي لطّخت الفراش الملكيّ مشهدًا مثيرًا حقًا. ويبدو أنّ الكثير من الناس، بدءًا من جلالة الملك، قد انخدعوا بذلك. لكن أنا لا أنخدع بمثل هذه الأمور.”
“ماذا تعنين؟”
“مهما يكن، حتى لو كنتما متزوّجين، فلو كان بينكما حبٌّ حقيقي، لما ترك الرجل أمر نومه مع حبيبته مشاعًا لتخمين الآخرين.”
“ذلك…”
“حتى إن كان زواجكما قائمًا على المصلحة المتبادلة، فالأمر لا يختلف. من المألوف أن يكتب النبلاء عقودًا ثمّ يتزوّجون. وهناك الكثير من الأزواج الذين ينامون في سريرٍ واحد رغم أنّهم لا يحبّون بعضهم.”
“نحن أيضًا…!”
لكنّ كلمات كلوي المتوسّلة ذابت في ابتسامة إيزابيل الساخرة.
قهقهت إيزابيلا برأسٍ مائل إلى الوراء كما لو أنّ الأمر يثير سخريةً بالغة، ثم أضافت:
“مسألة الحب ليست جوهرية. إن كان هناك تقاسمٌ لفراشٍ واحد، فلا حاجة إلى أن تُعلّق البطّانية بهذا الشكل المكشوف، بينما يعجّ القصر بجواسيس الملك. كان بإمكانكما بكل بساطةٍ أن تختفيا في الغرفة ثلاثة أيام، تُلبّيان نزواتكما، ولا تخرجان منها.”
“…..”
“بالنسبة لي، لم أرَ في ذلك إلا صراخًا للعالم كلّه بأنكما لم تناما معًا.”
‘هل هذه هي بصيرة امرأةٍ لديها طفل؟’
فقدت كلوي القدرة على الرد.
أمّا كيرتيس فظلّ بلا تعابير. وبما أنّه لم يتكلّم، خمّنت أنّه لم يفكّر في الأمر من قبل أصلًا.
أخذت إيزابيلا كأس ماء من على الطاولة بجانب كرسيّها، شربت رشفةً ومسحت فمها.
“لست أعلم لماذا تفعلين ذلك وأنتِ متزوّجةُ برجل ثريّ ورفيع المكانة، إضافةً إلى أنّه حسن المظهر.”
بدا الأمر مضحكًا ومستفزًّا لدرجة أنّ كلوي لم تتمالك نفسها من شدّ فكّها وتغيير ملامحها إلى انزعاج ظاهر، لتلتقي مرّةً أخرى بنظرة كيرتيس.
لكنّ الفرق هذه المرّة أنّه بدا كما لو أنّها تستطيع أن تفهم ما يجول في ذهنه.
كانت نظراته تقول: ‘أرأيتِ؟’
وإيزابيلا التي راقبت هذا التبادل بينهما، ابتسمت برفق.
“حين طُلِب مني الزواج من ذلك الرجل، لم أستطع سوى أن أفرح أنّه ليس رجلاً كبيرًا مقزّزًا. لكن تبيّن أنّ هذا كان تفاؤلًا سابقًا لأوانه.”
“إن اعترفتِ بذنوبك، فسأسعى على الأقل لأن تنفصلي تمامًا عن أخي.”
“يا صاحب السمو الدوق.”
أجابت إيزابيلا وهي تحافظ على ابتسامتها.
“لا حاجة لبذل الجهد. أنا لا أحب سوى الأمور المؤكّدة.”
“…..”
“لقد أخبرتني بالكثير بفضل دوقة كبرى شبّهت جلالة الملك بمجرّد نفايات طعام، لكن لا يزال ليس لدي ما أقوله لكما.”
ولِمَ بدا أنّ تلك الابتسامة الحادّة قد فقدت كل طاقتها فجأة؟
“سواء قُتلتُ هنا بالأدلّةٍ الظرفية، أو صرتُ مجرمةً تعترف بخيانتها وتلطّخ شرف أسرة الدوق، أو حتى نجوت وعدت إلى غلينترلاند، فلن ينتظرني هناك سوى الموت. النتيجة واحدة.”
أصبحت كلوي في حيرةٍ وارتباك.
فكّرت مليًّا، وتوصّلت إلى أنّ إيزابيلا على حق. حتى إن اعترفت، فستصبح مجرمةً في إيفانيس.
وحتى إن عادت إلى غلينترلاند بريئة، فلن تلقى إلا الموت كما قالت.
فماذا يمكن فعله إذًا؟
في تلك اللحظة، فتح كيرتيس فمه.
“أليست سولياريا ما تحتاجينه؟”
فجأة؟ ما هذا الكلام؟
لكن المدهش أنّ ابتسامة إيزابيلا قد تلاشت تمامًا من على وجهها.
رمشت كلوي بدهشة، وعمّ صمت المكان للحظة قبل أن يواصل كيرتيس:
“سولياريا ليست أرضًا أحتاج إليها. وحتى ملك غلينترلاند لا يحتاج إليها إن لم أكن أنا فيها. إنّما الذي يغريه هو ثروتي، والمستقبل المزدهر لسولياريا بفضلي.”
“..…”
“لكن أنتِ، أنتِ مِن يرغب في سولياريا.”
-‘إذن أعِدها.’
-‘إن كنت تكرهني، فلتُعد سولياريا إلى غلينترلاند على الأقل.’
كان هذا الجزء الوحيد الذي أثار فضول كيرتيس في الحوار السابق أثناء رقصتهما.
فملك غلينترلاند لا يحتاج إلى أرض ستُرهقه إن عادت إليه. وهذا يعني أنّها كانت رغبةً شخصية لإيزابيلا.
بهذا الفهم صار الأمر منطقيًّا، حتى لو كان طفلها رهينة.
لكن بالطبع لم يكن بوسعه قول ذلك علنًا أمام زوجته الدوقة الكبرى، التي ما زالت تنظر إليه بتعابير حمقاء.
هل كان هواه أن يُحوّل الناس إلى حمقى؟ أم أنّه ليس كذلك؟
هزّ كيرتيس رأسه ليطرد أفكاره.
“إن كنتِ ترغبين، أستطيع أن أتنازل عن لقب كونت سولياريا. بل يمكنني أن أمنحه لكِ شخصيًا. فهو حقٌّ ملازم لطفلي.”
“…..”
“لكنّكِ لا تريدين سولياريا حقًا. قولي ما تريدين بوضوح، وسأساعدكِ.”
هنالك فقط، تراخت ملامح وجهها المتجمّد. ومع ذلك، ظلّت عصيّة.
“يا صاحب السمو دوق إيفانيس. لو كنتَ على الأقل دوق تيريزمينيا أو كاتراكت، لوقفتُ إلى جانبك بحماسة.”
“…..”
“لكن للأسف لست كذلك. لذا، لن أعطيك جوابًا قاطعًا.”
اعتدلت إيزابيلا في جلستها، وضعت ساقًا فوق الأخرى، وأسندت يديها فوق ركبتها.
ولم يكن صعبًا على كلوي أن تدرك أنّها لا ترفض تمامًا، بل تميل إلى قبول التفاوض.
“سأخبركما بشيءٍ واحدٍ بدلًا من ذلك.”
“قولي.”
“قبل قليل تظاهرت أنّني وحدي من يعرف الحقيقة، لكن على الأرجح فإنّ جلالة الملك أيضًا صار يشكّ في أنّكما لم تناما معًا.”
قطّب كيرتيس جبينه، فقالت إيزابيلا ببرود.
“إنّ منصب رئيس الخدم يكشف أكثر مِمّا يُظن. ويُقال إنّكما لم تشتركا في سريرٍ واحد منذ ليلة الزفاف.”
“حتى لو خمّن أخي ذلك، فلن يكون أمرًا جللًا…”
“يا صاحب السمو، قلتُ إنّني سأخبركما بشيءٍ واحد، لكنّكِ أجبرتني أن أقول شيئين.”
كان أسلوبها وكأنّها تعتبرهما حمقى، لكن لم يجرؤ أيٌّ منهما على الاعتراض.
فقالت ببرود وهي ترى وجوههما المكمّمة:
“هناك فرقٌ بين مجرّد ظنّ شخصيّ وبين شهادة رئيس الخدم. إن لم يُحلّ هذا الأمر، فستنفجر الفضيحة القادمة على لسانه.”
اشتعل وجه كلوي بحرارة.
ولم تحتج إلى النظر إلى الرجل بجانبها لتعرف أنّ تعابيره لا تختلف كثيرًا عن وجهها.
***
لم يفتح كيرتيس فمه مجددًا إلا بعدما عادا إلى مكتبه.
فلا يزال التحقيق مستمرًّا، وبالتالي لم يستطيعا العودة إلى قصر الدوق.
ولو شئنا الدقّة، لكان كيرتيس قادرًا على العودة، لكن من الواضح أنّ ما سمعه من إيزابيلا شدّه ومنعه.
وبصوت عالٍ قال: “لن أترك الدوقة الكبرى وحدها في مكتب المساعدين.” وهكذا قرّر أن يبيت هناك هو أيضًا.
فجلس الاثنان في مكتب كلوي الخاص.
أسند كيرتيس ظهره إلى سرير كلوي وهو جالس على الأرض. وبالطبع لم يجلس على البلاط مباشرة، وإلا لظنّت أنّه فقد عقله.
بل فرش البطانية الصغيرة التي يوزّعها الحرس الملكي للعمل الليلي على السجّاد، ثم قال:
“لدى تلك المرأة ابن.”
“ذكرتَ ذلك.”
“عمره خمس سنوات، ويُرجَّح أنّه محتجزٌ كرهينة.”
ارتسمت الدهشة على وجه كلوي، لكنّها لم تُفاجَأ تمامًا، إذ كان هذا ضمن التوقّع.
وبحسب ما أوضح كيرتيس بهدوء، فإنّ دوقة غلينترلاند كانت بالأصل من النبلاء الساقطين.
صحيح أنّها من السلالة الملكية، لكنّها كانت من فرعٍ بعيدٍ جدًّا، حتى أنّ صلتها بملك غلينترلاند الحالي لا تتعدّى ستة عشر درجة قرابة.
كانت والدة إيزابيلا ابنةَ عائلةٍ نبيلة سقطت مكانتها. ورغم أنّها جميلة، فإنّها كانت فقيرةً بلا سند، فصارت عشيقةً لأحد النبلاء.
وبعد وفاة زوجته الأولى تزوّجها، لكن بما أنّ إيزابيلا وُلدت قبل أن يصبح الزواج رسميًّا، فقد ظلّت تُعامَل معاملةً سيئة.
وبالرغم من أنّ جمالها مكّنها لاحقًا من الزواج، إلا أنّ زوجها كان شيخًا مسنًّا للغاية.
ولم يطل الأمر، إذ توفّي بعد نصف عامٍ فقط، ولم يترك لها أيّ ثروة.
وفي النهاية، انتقلت إيزابيلا إلى مدينةٍ أخرى، وبدأت هناك حياةً مختلفةً كليًّا.
فلم تكتفِ بإغواء رجالٍّ متزوّجين، بل عاشت كعشيقةٍ مقابل النفقة. وإذا ملّها أحدهم، انتقلت إلى آخر.
وكان من بين الرجال الذين ارتبطت بهم ثلاثةٌ على الأقل معروفين علنًا.
حتى أنّها نجحت في إغواء شابٍ من عائلة كونت، وحصلت على وعدٍ بالزواج، لكن والدته صفعتها، فلم تحتمل وردّت بالبصق عليها، فرفعت عليها قضيّة.
والمفاجئ أنّ إيزابيلا وقعت في الحب آنذاك… مع الإداريّ في المحكمة الذي كان يتولّى مقاضاتها.
التعليقات لهذا الفصل " 91"