“أتظنّين أنّ الدوقة غلينترلاند مُجرّد شاعرةٍ جوّالة؟ أتظنّين أنّها ستُحدّثكِ عن كلّ صغيرةٍ وكبيرة لو ذهبتِ لسؤالها؟”
“آه، سمعتُ أنّ لديها طفلاً أيضًا.”
مدّت كلوي يدها لتُمسك بحذرٍ بمعصم كيرتيس فوق كمّه. وكما توقّعت، توقّف بصره على يدها، لكنّه لم يُبعدها أو يرفضها.
“حسنًا. قد يبدو كلامي هراءً في نظرك يا صاحب السمو، لكن على الأقل اسمعني.”
“يبدو هراءً بالفعل، لكن سأُحسن إليك وأستمع.”
“لقد نادوني بالعاهرة قبل قليل، أليس كذلك؟ لكن في الحقيقة، إن فكّرنا بالأمر مليًّا، فالكلمة ليست بعيدة تمامًا عن الواقع. لأنّني وافقتُ على أخذ المال منك…”
“هراءٌ محض.”
تغيّر وجه كيرتيس بصرامة، ولوّح بيده كما لو أراد أن يُبعدها.
لم تكن حركته عنيفة، لكن كلوي تمسّكت به بعنادٍ خشية أن تُفلت يده.
ارتعشت وجنته قليلاً، وكأنّ الأمر أصبح مزعجاً لا يُطاق. كان عليها أن تُسرع بالكلام.
“لا! لكن مع ذلك، أن أُنعَتَ بهكذا كلمة… الأمر مُهينٌ ومُجحف. أنا أيضًا إنسانة. وفوق ذلك، كانت لنا ظروفنا الخاصة، أليس كذلك؟”
“…لنا؟”
“آه، أعذرني. قصدتُ: لي.”
يبدو أنّ إشراكه في حديثها جعله ينزعج، كونه من العائلة المالكة. سارعت لتُنهي الموضوع.
“فكّر في الأمر. لو لم أكُن أنا من تزوّجك، بل الدوقة غلينترلاند، ما الذي ستكسبه هي من الزواج بك؟”
رفع كيرتيس ذقنه بتكبّرٍ، كأنّ الإجابة بديهية.
“ستكسبني أنا.”
أحقًا؟ لم تستطع كلوي إخفاء تجعيدة وجهها.
“بما أنّني زوجتك، سأقول لك بصدق: الزواج منك أقرب إلى لعنةٍ منه إلى مكسب.”
تشنّج وجه كيرتيس بدوره، وحدّق بها ببرود ثم نفض يدها بقوّة. كان واضحًا أنّ كلماتها قد جرحته.
لكن إن كان هدفه إبعادها كنوعٍ من الغضب، فقد فشل.
إذ مالت كلوي نحوه وفقدت توازنها، وكادت تسقط، فما كان منه إلا أن أمسكها مجدّدًا وسحبها بقوّةٍ إلى حضنه.
“آه.”
اهتزّ رأسها. وما إن استعادت وعيّها حتى وجدت نفسها بين ذراعيه، وهو يسند ظهرها.
اتّسعت عيناها بدهشة، فوجهه كان قريبًا جدًا منها.
حتى كيرتيس بدا متفاجئًا من نفسه، وبقي جامدًا وهو يضمّها. رمشت كلوي مرّتين قبل أن تهمس:
“…يبدو أنّ أهميّة الرجل في أخلاقه، لا في وجهه.”
“ماذا؟ فجأةً هكذا؟”
“أقصد، رغم هذا الوجه، تسمع من زوجتكَ أنّ الزواج بك لعنة.”
تقطّبت ملامحه بشدّة، ثم دفعها لتجلس على الكرسي في غرفة التحقيق.
ارتطم الكرسي بالأرض بصوتٍ مكتوم، لكنّه على الأقل لم يُسقطها أرضًا. نظر إليها ببرودٍ قاتم وهو يعقد ذراعيه قائلاً:
“إذن، لنفترض أنّ الزواج بي ليس مكسبًا.”
“ليس افتراضًا، بل هو الحقيقة…”
“يكفي.”
“حسنًا. على كل حال، لو كان الشخص مطلّقًا أو لديه طفل، فالزواج مجدّدًا ليس الخيار الأفضل.”
أمال رأسه قليلاً، فقالت بسرعة:
“صحيح أنّ الناس يقولون إنّ المرأة التي لديها طفل عليها أن تتزوّج سريعًا، لكن بالنسبة لها هو أقرب إلى مقامرةٍ كبيرة.”
“ولماذا ذلك؟ …لا، انتظري.”
اتّسعت عيناها. كانت تُفكّر كيف تشرح أنّ الزواج بالنسبة للنساء أشبه بصندوق مليء بالمفاجآت المزعجة أكثر من السعيدة.
لكن المدهش أنّ كيرتيس بدا وكأنّه فهم فورًا.
“لأنّها لا تعرف مَن يكون الرجل، أليس كذلك؟ كم من رجلٍ يضرب امرأته وهو بوجهٍ وديع. ولو كانت المرأة تُحبّ طفلها، فالأمر يُصبح أعقد.”
“تمامًا.”
مسح ذقنه بتفكير، ثم ألقى نظرةً سريعة نحوها.
“إذن، هل تُحاولين كإمرأة أن تُقدّري موقف إيزابيلا لا غلينترلاند أيضًا؟”
“كلامك مهينٌ للغاية من نواحٍ عدّة، لكن لِنترك ذلك جانبًا. ألا يُمكن أن تعتبر أنّني شخصٌ طيّب يملك من الأخلاق ما يجعله يتفهّم الآخرين؟”
“لو كنتِ كذلك، لما قلتِ عني إنني لعنة.”
فتح باب الغرفة وهو يتمتم:
“لنذهب ونسأل الدوقة غلينترلاند.”
ثم نفض يده كما لو تلوثت بشيءٍ قذر.
لم يُلقِ نظرةً خلفه، وهذا ما منح كلوي فرصةً لتضبط قلبها الذي كان يخفق بجنون وتنهض.
‘هل جُننت؟’
رؤية وجه هذا الوغد جعلتني أرتبك لوهلة. هل هذا ما يُسمّونه تأثير الجسر المعلّق أو ما شابه؟
هزّت رأسها بتأفّف، وألقت باللوم في سرّها على الملكة ميلدريد، والدة كيرتيس.
‘جلالتكِ. بحقّ السماء، لماذا صنعتِ لابنكِ وجهًا بهذا الجمال؟ أيُّ فتاةٍ مسكينة ستُدمَّر حياتها بسببه. وطبعًا، أنا هي تلك المسكينة…’
“انتظرني! سأرافقك!”
ركضت خلفه خارج غرفة التحقيق.
لو كان الأمر طبيعيًا، لكان الحرّاس منعوها من المغادرة بما أنّها أيضًا تحت التحقيق.
لكن لم يكن أحد واقفًا هناك. عندها فقط أدركت أنّ كيرتيس تعمّد إبعاد الحرس.
“بطيئةٌ كالعادة.”
هل الظروف تُسانده لأنّه مجرد وقح، أم أنّه يملك وقاحةً استثنائية تجعله يُطوّع الظروف كما يشاء؟
تساءلت كلوي في سرّها، لكن جواب السؤال لم يكن قريبًا.
***
وكما هو متوقّع، لم تُسرع الدوقة غلينترلاند بالإفصاح عن كل شيء فور لقائهما.
“دعني أقابل جلالة ملك إيفانيس. لن أتكلّم إلا أمامه.”
قالت ذلك وهو تسترخي على الكرسي. كلماتٌ تستدعي السخرية.
فالتهمة التي وُجّهت إليها لم تتعدّ قتل خادمة، وحتى ذلك لم يُثبت بعد.
لذا لم تُحبَس في زنزانة، بل وُضعت في جناحٍ فاخر مخصّصٍ للضيوف في القصر الملكي تحت حراسةٍ مشدّدة، وهذا فقط.
“جلالة الملك ليس متفرّغًا إلى هذا الحد يا دوقة.”
“أنا لستُ مجرمةً.”
إيزابيلا لا غلينترلاند لم تعد تحمل ملامحها الوديعة السابقة. عينان حادّتان ونظرة مليئة بالعداء.
مجرد وقفتها، بذراعيها المتشابكتين ونظرتها المتحدّية، كانت كافيةً لتُظهر أنّها ليست بالخصم الهيّن.
“لقد أُخبرتُكِ أنّكِ متّهمةٌ بالقتل.”
“وهل لديك دليلٌ أنّني قتلتُ تلك الخادمة؟”
ابتسم كيرتيس ببرودٍ وأجاب:
“عادةً، من يقول هذا الكلام هو الجاني.”
فتحت فمها لترد، لكنّه استرسل:
“وفوق ذلك، أنتِ متّهمةٌ أيضًا بإهانة العائلة المالكة في إيفانيس. قد تكون أضعف من تهمة القتل، لكنها مؤكّدة. والمفاجئ أنّني وزوجتي من العائلة المالكة. وإهانة العائلة المالكة جزاؤها الإعدام.”
عضّت شفتها السفلى بحدّة.
كانت الماركيزة فلاندر، ومعها أغات مونفيس، قد أفصحا بالفعل أمام الملك بأنّها من دبر هذه الأفعال. لا شك أنّها قد توقّعت هذا.
قد يراها البعض غير حذرة، لكن كيرتيس كان يعتقد أنّها ذكيّةٌ بما فيه الكفاية. فالماركيزة فلاندر لم تكن من النوع الذي يُخبر الحقيقة عادة.
“لكن كلّ هذا أدلّة ظرفيةٌ فقط. لن تُعدموني استنادًا إلى شهادات.”
“ليس الأمر مستحيلاً.”
أجاب بلهجةٍ مُهيبة.
لكنّها لم تتراجع، بل رسمت ابتسامةً ساخرة وقالت بتحدٍّ:
“صحيح. قد تُعدموني على أدلّةٍ ظرفية. لكن حينها سيحصل جلالة ملككم على فرصةٍ أخرى.”
“ماذا تعنين؟”
“شقيقكَ الأكبر، صاحب السمو، لن يُعارض علنًا حين تُعدم دوقة غلينترلاند بتهمةٍ غير مثبتة. لكن بعد حين، قد يتذرّع بأنّك وضعت المملكة في مأزق مع غلينترلاند، ويلقي باللوم عليكَ، بل ويُرسلك إلى هناك.”
عندها لم تستطع كلوي أن تسكت، فالأمر مسّ كبرياءها كجنديةٍ في إيفانيس.
“هذا تجنٍّ مبالغٌ فيه! إنّكِ تصورين جلالته وكأنّه قمامة! وهذا غير ممكن أصلاً…”
ابتسمت إيزابيلا ببرود.
“جلالته، ملك إيفانيس، لا يستحق حتى أن يُشبَّه بالقمامة. لقد دخل غرفتي مخمورًا مرّتين وهو يتوسّلني.”
“أقذر من بقايا الطعام في عزّ الصيف.”
قالت كلوي بوجهٍ متجهّم. أما كيرتيس فقد غطّى جبينه بيده، متنهّدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 90"