بسبب ما جرى في الليلة الماضية، ظلّت أجواء الحرس الملكي منذ الصباح مضطربة.
الصحف أخفت قصة الملك، لكن الحرس الملكي مكوَّن على أيّ حال من النبلاء. وكثيرٌ منهم سمع بما جرى بالأمس من آبائهم أو إخوتهم وأخواتهم، فانتشرت الهمسات في كل مكان.
ثمّ إنّ بطل القضيّة، العميد بيرك، أقام منذ الليلة الماضية غرفة تحقيق في قاعة تدريب الضباط التابعة للحرس الملكي، يستدعي فيها الناس للتحقيق واحدًا تلو الآخر، وهذا ما زاد الطين بلّة.
“ألا يبدو غريبًا أن يتركوا الحرس الملكي ويستعينوا بالفوج الثامن؟”
“في الأساس، الحرس الملكي لم يتمكّن من حماية دوقة غلينترلاند، لذا أصبح الأمر كذلك.”
“لكن مع ذلك، الفوج الثامن….”
تباينت الآراء في الأجواء المشوَّشة. فهناك من اعتبر الأمر مجرّد قيل وقال، وهناك من رآه قضيّةً دوليّة.
ثمّ…
“لماذا وحده العميد يجعل زفافه صاخبًا، بينما الجميع يتزوّجون في هدوء؟”
كان من الطبيعي أن يوجد مَن ينظرون إلى الأمر باستياء.
“أحمم.”
استيقظت كلوي بعد أن غفت كيفما اتّفق في غرفة المساعدين، وكان ذلك في وقتٍ مبكر.
‘لقد كان الأمر شاقًّا بالأمس بسبب الحفل.’
إنّها لعجيبةٌ عادةُ الجسد، فالعيون تفتَح من تلقاء نفسها. وزيادةً على ذلك، يبدو أنّ النوم على سرير غرفة المساعدين بعد غيابٍ طويل جعل جسدها متيبّسًا.
لحسن الحظ، أنّ جوليا أحضرت لها بسرعةٍ ثوب نوم بعدما سمعت أنّها لن تتمكّن من العودة إلى القصر مساء أمس، فتمكّنت على الأقل من النوم براحةٍ نسبيّة.
“همم….”
لم يكن أحدٌ في مكتب كيرتيس المتّصل بغرفة المساعدين. فطالما وُجدت غرفة التحقيق، فالأرجح أنّ معظم الأعمال تُعالَج هناك مع الدوق.
حتى نُويل عاد إلى منزل عائلته مونفيس بسبب أغات، فأصبح المكتب هادئًا للغاية.
‘ربما لا يجدر بي الذهاب إلى المطعم لتناول الفطور.’
فتحت كلوي بحذرٍ باب المكتب. فوقف عريفًا من الحرس وضعه كيرتيس للحراسة وألقى التحية: “آه، سموّكِ.” كان وجهًا مألوفًا لها.
أولئك الحرس الذين كانوا يتهامسون في الممرّ الممتدّ من أمام المكتب إلى الدرج، والواصل بين أروقة الحرس الملكي وباب المبنى الرئيس، توقّفوا عند سماع وقع الأقدام، وانحنوا جميعًا بتحيّة احترام.
بادلتهم كلوي التحية بخجل، ثمّ وقفت عند الباب نصف المفتوح وسألت العريف:
“أخبرني، ما حال التحقيق الآن؟”
“ما زال مستمرًّا يا سموّكِ.”
“ألم حان دوري بعد؟”
“على الأرجح لم يحن بعد. عندما يحين دوركِ، ستصلكِ رسالةً من غرفة التحقيق، فالأفضل أن تستريحي إلى حينها….”
لم يكن سؤالها شيئًا عظيمًا. فالتحقيق استمرّ منذ الليل حتى الصباح بلا انقطاع، ومن الطبيعي أن تنتظر كلوي، كونها إحدى الشاهدات المهمّات.
إلا أنّها، باعتبارها الضحيّة من جهة، وعضوًا أصيلًا في الحرس الملكي ومن ثمّ دوقةً كبرى من جهةٍ أخرى، كان مكان انتظارها هو غرفة المساعدين لا غير.
لكن يبدو أنّ ذلك لم يَرُق لبعضهم.
“عاهرة.”
قالها أحدهم. وعلى الفور عمّ الصمت المكان كما لو أُلقي دلو ماءٍ بارد.
توقّفت كلوي، ونظرت لاشعوريًا نحو الممرّ.
كان مكتب العميد في الطابق الأوّل بوسط مبنى الحرس الملكي، والممرّ الطويل الممتدّ إلى البوّابة الرئيسة يحيط به رواقان واسعا النطاق.
كان هناك كثير من الحرس واقفين، ولهذا لم يكن بالإمكان تحديد مَن تلفّظ بتلك الكلمة.
“….”
صمتت كلوي للحظة، ثمّ أدارَت رأسها. فهي توقّعت أن يظهر مَن يعاديها علنًا بعد ما جرى البارحة. أليس الجميع قد رأى كيف أهانها الملك بنفسه؟
وهكذا، لم يعُد المهمّ حقيقةً ما جرى.
المرأة التي يسعى الملك إلى دفنها بأيِّ ثمن. تلك هي الصورة التي تهمّ أكثر.
صحيح أنّ حادثة إناء الزهور كُشِف أنّه سوء فهم، لكن مَن يهتم؟ فالناس كثيرًا ما يتجاهلون الحقيقة إذا تعارضت مع ما يرغبون فيه.
بل إنّ البعض اعتقد أنّها دبّرت بخبثٍ لزرع شخصٍ ما وتحويل سهام الشبهة نحو دوقة غلينترلاند.
“أعتذر أيّها العريف، هل يُمكنكم إحضار وجبةٍ من مطعم الحرس إلى غرفة المساعدين؟”
أرادت كلوي فقط تناول فطورها. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي تطلب فيها أن يُرسل الطعام إلى الغرفة عندما تكون مشغولة، فقد كانت تفعل ذلك كثيرًا في أيّام كونها مساعدة.
وكان المطبخ دائمًا يلبّي هذه الطلبات بسرعة، علمًا بأنّ الضبّاط المساعدين ومنهم العميد بيرك مشغولون جدًّا.
لكنّ حتى هذا لم يُنظَر إليه بعين الرضا الآن.
“انظروا إلى صاحبة السموّ، تخرج من المكتب بملابس النوم وكأنّها في قصرها!”
تكلّم أحدهم ثانيةً، هذه المرّة جهارًا. وقد تعرّفت كلوي على المتحدّث، كان أحد القادة الذين تعرف وجوههم. أمّا العريف الواقف عند الباب فقد بدا عليه الارتباك الشديد.
“سموكِ… الأفضل أن تدخلي الآن.”
“…نعم. أُلغِي ما طلبتُه للتوّ.”
كادت أن تتنهّد في ضيق، لكنّها كتمت نفسها وهمّت بالعودة. لكن في تلك اللحظة….
“النقيب أنري.”
جاء صوتٌ مألوف. التفتت كلوي بغير وعيّ. كان إيزرا، ولم تكن تعلم بوجوده هناك.
“ماذا هناك؟”
“بما أنّ وجهك يثير اشمئزازي منذ زمن، فلنُنهِ الأمر بمبارزة.”
“ماذا؟ هل جننتَ يا ملازم؟”
“لا، لم أجنّ.”
وما إن أنهى كلماته حتى سدد إيزرا لكمةً سريعة. فوقع النقيب على الأرض محدثًا ضجّة، فارتفعت أصوات الحرس المحيطين بالدهشة.
“أيها الأحمق! إيزرا دوب-اكغ!”
لم يُكمل النقيب نداء اسم إيزرا حتى تلقّى لكمةً أخرى في بطنه، فبدأت مواجهةٌ عنيفة.
“أنتم في الفصيلة الثانية، هل جنّ الجميع؟”
“الذي جُنّ هو قائدكم! ماذا؟ تقول ذلك أمام مكتب القائد؟”
“وهل أخطأت؟”
“لو كان كلامكَ صحيحًا، فأنتَ لا تساوي شيئًا ولا حتى بعوضة!”
“أيّها الوغد، لطالما كرهتُك!”
وتحوّلت الشرارة إلى شجارٍ جماعي بين أفراد الحرس الذين كانوا بينهم عداواتٍ قديمة. فتملّك كلوي الذهول.
بانغ!
دوّى صوت إطلاق نارٍ مفاجئ، فتجمّد الجميع في لحظة. ووجّهوا أنظارهم نحو مكتب العميد.
هناك وقف العريف يتفحّص صدره وقد سُلب سلاحه دون أن ينتبه، وبالقرب منه كانت الدوقة الكبرى ممسكةً بالمسدّس، تنفخ دخانه لتبعثر أثر البارود.
“أ… هل جننتِ يا ملازم؟!”
صرخ النقيب أنري، الذي كان قبل لحظاتٍ يسخر وقد تلقّى اللكمة في وجهه.
فقد اخترقت الرصاصة الجدار بجانب رأسه تمامًا. ولو انحرفت قليلًا لأودت بحياته.
لكنّ كلوي التي أطلقت النار أجابت بهدوء:
“النقيب أنري ديبرو. أنا هنا لستُ ملازمًا، بل الدوقة الكبرى.”
اشتعل وجه النقيب غضبًا، غير قادرٍ على التمييز هل هي سخريةٌ أم توبيخ على عصيانٍّ صارخ.
“هذا…!”
لكنّ إيزرا الذي كان يُمسك بياقته منعه من الانقضاض عليها.
وفي النهاية دخلت الفصيلة الأولى من خارج المبنى وضبطت الموقف. فتوقّف الشجار، وجرّوا المتقاتلين واحدًا تلو الآخر.
ظلّت كلوي واقفةً بالسلاح في يدها طوال الوقت، وعندما مرّ إيزرا وهو مُمسَكٌ من قبل جورج، التقت عيناها به.
“لماذا فعلتَ ذلك؟”
سألته مباشرة، فابتسم إيزرا ساخرًا.
“لماذا يا سموّكِ، هل أزعجكِ الأمر؟”
ثمّ انفجر ضاحكًا بجنون، غير عابئ بالدماء التي سالت من شفته. بدا كمجنون تمامًا.
أمّا جورج الذي كان يجرّه من عنقه، فأدار إصبعه بجانب رأسه كإشارةٍ واضحة: ‘هذا الرجل فقد عقله.’
وبقيت كلوي تحدّق طويلًا في صديقها الذي يُسحَب بعيدًا، قبل أن تغطي وجهها بيديها وتضحك.
ثمّ اعتذرت للعريف الذي أوشكت دموعه أن تنهمر وهو يقول مرتجفًا: “سموكِ، هل يمكنني استعادة سلاحي….”
كان الأمر كلّه عبثيًّا، لا يُصدَّق. ومع ذلك، لم تفهم لماذا وجدت نفسها تضحك.
***
…وكانت هذه القصة سبب صيام الدوقة الكبرى كلوي لو دافيد بيرك حتى مجيئها إلى غرفة التحقيق.
بعد أن استمع كيرتيس إلى كل شيء، أدار رأسه ببطء نحو الجندي المكلّف بالحراسة في الغرفة.
كانت نظرته تسأله لماذا لم يُبلَّغ بالأمر. أو بالأحرى:
‘أجرؤتَ على إخفاء التقرير؟’
فصرخ الجندي بفزع:
“إنّ القائد الأعلى فيكتور قال إنّ العميد مشغول، وتعهّد هو بالتصرّف بنفسه، وطلب ألّا أبلّغكَ حتى انتهاء التحقيق….”
“إن لم تُسلَّم نتيجة التحقيق قبل السادسة مساءً، فقل له إنّي سأتصرّف بنفسي.”
“أمرك، سيدي!”
وأسرع الجندي بالخروج، وكأنّه مقتنعٌ أنّ كيرتيس شان بيرك سيخنقه لو تأخّر في التبليغ.
“ألَن تغادر عملك اليوم؟”
“أودّ ذلك، لكن يبدو أنّ النقيب ديبرو لا يُحبّ أن يراني أذهب.”
وبينما كان يجمع التقارير أمامه ببطء، بدا وكأنّه على وشك دفن الحرس الملكي كلّه تحت أرض ساحة التدريب.
مدّت كلوي يدها بسرعة وأمسكت بيده.
“ما الأمر؟”
تراجعت بخوف أمام عينيه الحادّتين، وسحبت يدها.
‘هو الذي أمسك بيدي مرارًا من قبل دون تردّد.’
أرادت الاعتراض بغيظ، لكن الدوقة غلينترلاند كانت أسبق بالكلام.
التعليقات لهذا الفصل " 89"