هل وُجدت مقولة: “مَنْ يعيشُ بالسوء ينل العقاب، ومَنْ يعيشُ بالخير ينل الثواب” لأجل مثل هذه اللحظات؟
كيرتيس شان بيرك خطر بباله أنّه لو كان في الماضي لاعتبر هذا التفكير غبيًّا، لكنه سرعان ما اقشعرّ من الفكرة. ومع ذلك فقد كانت حقيقة. الوضع الحالي لم يكن مبالغًا فيه إذا قيل إنّه نتيجةٌ لما جَنَته كلوي لِي دافيد بيرك من فضلٍ وعلاقاتٍ حسنة راكمتها خلال فترةٍ قصيرة.
كيف ذلك؟
***
كاميو باسيلور، التي بدت في لحظةٍ كأنّها اندفعت بشجاعةٍ كبيرة، جلست في غرفة التحقيق منكمشةً تمامًا وهي تتمتم بصوتٍ مرتجف من الخوف:
“أعتذر. سنعوّض ثمن العقد من متجرنا.”
“ما الذي تقوله.”
كيرتيس ابتسم برضا.
“لن أحمّلكم المسؤولية. وأبلِغي السيدة باسيلور بأنّ بيرك يتذكّر أنّ متجر باسيلور يحفظ وفاءه لزبائنه، وسأنتظر منهم جواهر أجمل في المستقبل.”
أومأت كاميو برأسها وكأنّها فرِحت، مؤكّدًا مرّةً أخرى أنّ كلوي شخصٌ يجهل تمامًا الكماليات، ومشيرةً في الوقت نفسه إلى أنّ كلام لورا لو غوتيا كان فارغًا.
“صحيح أنّ صنّاع الحِليّ في تاوايا موجودون أيضًا في إيفانيس، لكن بلوغ هذا المستوى من الصنعة في فترةٍ قصيرة أمرٌ مستحيلٌ تمامًا.”
وكان ذلك كذبًا بالطبع. كذبة ارتجلتها لتكسب ودّ الملك في حينها. وفي الواقع، لم يكن منزل غوتيا قد طلب مثل تلك الأواني أصلًا.
وقد أكّدت ثيودورا ذلك. فهي، على طريقة الفوج الثامن سيئة الصيت، توجّهت مباشرةً إلى قصر غوتيا وأرهبت الكونت غوتيا بأساليبها الخاصّة، وانتزعت منه اعترافًا بأنّه لا يوجد في بيته مثل تلك الأواني.
وطبعًا، عملية التحقّق تلك لم تخلُ من أسلوب الفوج الثامن المعتاد، الذي يقضي بقلب وتحطيم كلّ ما تقع عليه الأعين.
“بعد أن قلبنا قصر غوتيا رأسًا على عقب، تبيّن لنا أنّ تلك الأواني غير موجودة.”
“وما طريقة التحقّق؟”
“كسّرنا كلّ الأواني الفخارية في المنزل لنتأكّد إن كان بداخلها شيءٌ من الزجاج.”
“هكذا إذًا. السيدة غوتيا… بيرك سيتذكّر غوتيا.”
بمعنى أنّ عليها أن تتذكّر ماذا يعني المساس باسم بيرك. وجه لورا لو غوتيا الذي ارتعد خوفًا وهي تغادر، رسمه رسّامو الكاريكاتير الذين كانوا ينتظرون أمام مبنى الحرس طوال الليل.
“أما بالنسبة للخادمة؟”
“لقد تمّ التعرّف على أليشا، التي كانت تعمل في مغسلة القصر الملكي في غلينترلاند، من قِبل الخادم الذي كانت على علاقةٍ به. البقعة الكبيرة على ذراعها تطابقت.”
“ينبغي أن نرسل تعويضًا إلى غلينترلاند.”
قال ذلك دوق بيرك، ثم رمق ثيودورا بنظرةٍ سريعة. لم تُبدِ سوى حركةٍ طفيفة بشفتيها. فرأى كيرتيس أنّ من المناسب أن يقدّم وعدًا بدلًا من المدح.
“سأزور عائلة تورنيا قريبًا. ما الذي تحبّه السيدة والدتكِ؟”
“أعتذر، لكن زيارةٌ واحدةٌ لا تكفي.”
“منذ متى بدأ الفوج الثامن يفاوض قادته؟”
“أرجو المعذرة، لكنّك لم تعود قائد الفوج الثامن يا سيدي. ثمّ إنك لطالما قلت لنا خلال خدمتك: ‘إذا واتتكم الفرصة فاغتنموها إلى أقصى حدّ’.”
يا لها من جرأة! ومع ذلك فهي لم تكذب. كيرتيس ابتسم ابتسامةً خفيفة.
“إذن أزورها مرةً وأدعوها مرة. يمكنكِ الانصراف.”
وحين وصل الأمر إلى أغات مونفيس، بدا الموقف كأنّه مشهدٌ من دراما رخيصة.
“…لم أكن أقصد أن أقف في صفّ، هيك، الدوقة المصونة. كُهك… لقد أردت فقط أداء واجبي كالحارس الملكي، شهق، لا أكثر.”
كيرتيس قرّر أن يمنحها ما أرادت. فأدّى دور “الرجل السيّئ القاسي” بإتقان.
“أشكركِ، عريف مونفيس. لقد ساعدتني كثيرًا. يؤسفني أنني لم أتمكّن من تلبية رغبتكِ، لكنني أحبّ زوجتي.”
“هيييينغ…”
وبينما كانت تغالب دموعها على وجهها، انهارت على الطاولة باكيةً. وهكذا اضطرّ كيرتيس أن يسمح لنويل مونفيس بمغادرة العمل مبكّرًا، إذ كاد مبنى الحرس الملكي يغرق بدموع أخته.
“نويل، خذ أختكَ إلى المنزل.”
ومهما يكن، فإنّ تحوّل طريقة تعامل أغات من مخاطبة كلوي بـ”تلك المرأة” إلى “الدوقة المصونة” كان تطوّرًا كبيرًا برأي كيرتيس.
أما فيما يخصّ ماركيزة فلاندر…
“كنتُ أعلم من البداية أنّ تلك المرأة ستفعل شيئًا كهذا.”
لقد تعاونت بإيجابيةٍ تامة. روى أنّ إيزابيلا لا غلينترلاند جاءت إليها مباشرةً بأمرٍ من الملك، وذلك قبل يومٍ واحد فقط من زواج كيرتيس وكلوي. أي أنّ الأمر كان مدبّرًا منذ ما قبل الزفاف.
-‘أتيتُ ألتمس مساعدتكِ، يا ماركيزة فلاندر، كبيرة وجهاء إيفانيس.’
“هكذا قالت! كبير الوجهاء؟ يا للمهزلة.”
-‘لقد أخبرني جلالته أن أذهب إلى حضرتكِ. أعذريني.’
كادت أن تسألها: هل جئتِ في مهمّة جلب الثلج؟ لكنها كتمت نفسها وفتحت الرسالة التي أعطته إيّاها. وبعد أن أنهت قراءتها، شعرت برغبةٍ في ضرب أخيها.
إيزابيلا لا غلينترلاند قدّمت لها إناءً من الزمرد الأخضر بوجهٍ مرتبك كأنها تفهم مشاعرها.
-‘عثرَت خادمتي عليه خلال تجوالها في عاصمة إيفانيس، وعادت مسرعةً لتخبرني.’
“لابد أنّ الخادمة ماتت.”
“لقد سألتُ عن هويتها، فأجابت بأنّها لا تستطيع البوح. وأغلب الظن أنّها الخادمة المقتولة.”
قالت ذلك الماركيزة بوجهٍ متكدّر وهي تنظر إلى إناء الزمرد الموضوع في منتصف غرفة التحقيق. الإناء، كدليل إثبات، كان لا يزال أنيقًا وجميلًا.
“يبدو أنّكِ لم تصدّقها.”
“قد لا يُعجب المرء بهديةٍ من بعثةٍ أجنبية، لكن لا يمكن لعاقلٍّ أن يبيعها علنًا بهذه الطريقة. لا يمكن أن تُبقي إلى جواركَ امرأةً بمثل هذا التصرّف وأنتَ في كامل وعيّك.”
كان تقييمًا دقيقًا. كيرتيس ابتسم كاشفًا عن أسنانه.
“برأيكِ، في أيِّ مرحلةٍ بدأ شقيقي التدخّل؟”
عندها وضعت الماركيزة يدها على جبينها وتنهدت. وأخبرته أنّ إيزابيلا أعادت الإناء إلى الملك مسرعةً بعد ذلك.
غضب الملك بشدة: “أيُعقل أنّ كيرتيس ذلك الوقح باع الإناء؟” لكن إيزابيلت توسّلت إليه بإخلاصٍ حتى هدّأته.
-‘خشيتُ أن أتسبّب في مشكلةٍ دبلوماسية جسيمة، لكنّ جلالته أخيرًا قدّم لي اسم ماركيزة فلاندر، قائلًا إنكِ حكيمةٌ وموضع قدوةٍ للجميع، وواحدةٌ من كبار وجهاء البلاط، وأنكِ ستجدين الحلّ الأمثل.’
ثمّ ابتسمت لها ابتسامةً رقيقة بريئة.
الماركيزة، وهي يسترجع تلك الابتسامة الساحرة الخالية من الشرّ، ضربت الطاولة بقبضته.
“لولا أنّه أخي، لكنت سكبت ماءً باردًا على وجهها!”
“لكنّكِ لم تستطعِ فعل ذلك.”
“…كيرتيس.”
تأمّلته الماركيزة بعينين حزينتين.
“هل تعلم أنني أعاني من الحرّ الشديد؟”
“…لم أكن أعلم.”
“لقد ظلّ أخي أكثر من عشرين عامًا يمسك بي ويتركني كقطعة ثلجٍ بين يديه.”
“لولا زوجتك، لقضيتُ الأسبوع الماضي كله في معاناة. لكن بفضلها شعرتُ ببعض الراحة. ولهذا أقصّ عليك كل هذا.”
“…..”
اشتاق كيرتيس فجأةً إلى سيجارة كان يدخّنها في ساحة الحرب. كلمات الماركيزة كانت بمثابة إقرار بأنّ الملك متورّطٌ بعمق، لكن من دون رفع الأمر إلى العلن.
وضع خطًا واضحًا: “إلى هنا ينتهي ثمن المثلّجات والثلج.” وهذا جعله يشعر بالتعقيد.
“إنها حقًّا فضيحة أن ترتقي امرأةٌ وضيعة الأصل فجأةً إلى مقام دوقة وتتصرف هكذا.”
أما فيما يتعلّق بالسفير اللورد أوسلو، فقد كاد كيرتيس ينفجر ضحكًا.
كان من فرعٍ جانبي لأسرة أوسلو، عُيّن من غلينترلاند إلى إيفانيس. وظنّه كيرتيس شخصًا قانعًا هادئًا يعيش في بحبوحةٍ بسيطة. لكنّ الحقيقة أنّه لم يكن سوى فاشل استسلم مبكرًا لطموحاته.
“جاءت تمثّل غلينترلاند، فكيف تجرؤ على ارتكاب عملٍّ أحمق كهذا؟!”
قال إنّ إيزابيلا لا غلينترلاند لم تحترمه أو تستشيره قطّ منذ قدومها إلى إيفانيس، وإنّ ذلك أغاظه لدرجة أنّه دسّ جاسوسًا في حاشيتها. ومن خلاله عرفوا عن الخادمة التي جرى التخلّص منها.
اللورد أوسلو تردّد كثيرًا فيمن يجب أن يبوح له، ثمّ مع بداية الحفل الكبير هرع إلى كيرتيس شان بيرك وأخبره فورًا. ولهذا غاب عن الحفل قليلًا.
شهادة سفير غلينترلاند بأنّ دوقة غلينترلاند استخدمت خادمةً ورمت بها على ضفاف نهر إيفانيس.
طبعًا، كان كيرتيس قد علم بهذا مسبقًا عبر ثيودورا، لكن وجود شهادةٍ أخرى متقاطعةٍ جعل الأمر أكثر ثِقلاً.
“أرجو أن تنقل الأمر بحكمةٍ إلى جلالة ملك إيفانيس. وكذلك إلى غلينترلاند.”
قال ذلك وهو ينظر بخنوعٍ إلى ردّة فعل كيرتيس، فما كان من الأخر إلا أن خطرت له فكرةٌ شريرة.
“برأيكم، كيف يجب أن نعاقب إيزابيلا لا غلينترلاند؟ أودّ سماع مشورتك.”
“أحرِقوها بالنار!”
هل يريدها حرقًا كـ ساحرة؟
لكن مثل هذه القضايا تتوقّف في النهاية على رأي المعنيّ الأول. فاستدعى كيرتيس كلوي لو دافيد بيرك.
وعندما دخلت غرفة التحقيق، كان رأيّها مختلفًا عن رأي اللورد أوسلو.
“ما رأيكَ أن نستمع إليها أولًا؟”
هل قررت دوقة بيرك، التي شعرت فعلًا بمعنى المثل “مَنْ يعيش بالخير ينل الثواب”، أن تحيا حياتها كالطيّبة الساذجة؟
التعليقات لهذا الفصل " 87"