“أعتذر. هذه هي ثيودورا دو تورنيا، ملازمٌ في فوج الجيش الملكي الثامن. وهي تتولى حاليًا حراسة الدوقة إيزابيلا لا غلينترلاند.”
“….”
“إنها أيضًا شخصيةٌ عهد إليها جلالة الملك شخصيًا بحراسة دوقة غلينترلاند.”
حملق الملك بعينيه.
“دوق بيرك!”
لكن كيرتيس لم يتردد.
“الملازم تورنيا. قدّمي تقريرك.”
“….”
حرّكت ثيودورا عينيها خلف عدسات نظارتها بتردّد، وكأنها تتساءل إن كان الوقت مناسبًا للكلام.
الملك بات الآن يظهر ارتباكه علنًا، ينظر تارةً إلى إيزابيلا لا غلينترلاند وتارةً إلى ثيودورا، متوتّرًا مِما قد يخرج من فمها.
“كما قال دوق بيرك، أنا أتولى حراسة دوقة غلينترلاند.”
“….”
رمقها الملك بنظرةٍ حادّة. فقابلت ثيودورا تلك النظرة ثم حوّلتها إلى كيرتيس، وفي الوقت نفسه أرسلت له نظرةً تقول: ‘إيهيو، اللعنة. سعيد الآن؟’
ابتسم كيرتيس بخفوتٍ. وكان ذلك هو الجواب. تنفست ثيودورا كأنها تزفر وتابعت:
“الوفد القادم من غلينترلاند إلى إيفانيس يتألف من ستةٍ وأربعين شخصًا، بما في تلك الخادمة. لكن إحدى خادمات الدوقة اختفت قبل أسبوعين.”
“افتراء!”
قاطعت إيزابيلا لا غلينترلاند.
“لم ينقص عدد وفد غلينترلاند ولا شخصٍ واحد!”
“العدد صحيح.”
أوجزت ثيودورا بسرعة:
“لكننا، أنا وكل أفراد الحرس، تأكدنا أن الخادمة المسؤولة عن ترتيب جناح الدوقة قد تبدّلت. الخادمة السابقة اختفت، وتبين أنها كانت تعمل في مغسلة القصر الملكي في غلينترلاند قبل أن تنضم إلينا.”
“إنها هي نفسها!”
“ألا تسمعين؟ ملازم تورنيا! لا تهيني البعثة الدبلوماسية بالتخمينات!”
لكن من أجاب الملك لم تكن ثيودورا بل كيرتيس مجددًا.
“جلالتك. تلك البعثة قد تكون في هذه اللحظة نفسها تُهين زوجة أخيك، دوقة البلاد، ولا أظن أنني بحاجةٍ لتذكيركَ بذلك.”
الملك الذي كان وجههُ محمّرًا منذ قليل، أصبح شاحبًا كالجير. عينيه تحركتا بارتباك، ثم التفت سريعًا إلى إيزابيلا لا غلينترلاند.
“دوقة غلينترلاند. ما الذي يحدث هنا؟”
بهذه الجملة الواحدة اتضح للجميع في القاعة أنّ الملك قد انساق مع افتراءات إيزابيلا من غير أن يعرف حتى إلى أين وصل تدخلها.
يا للأهانة. ومع ذلك، فهذا هو ملك إيفانيس.
فالمراتب، حين يجلس معتوهٌ على القمة، تُرغم حتى الحكماء على الانحناء.
لذلك لم يجرؤ أحدٌ على الكلام أو تبادل النظرات، بل اكتفوا في سرّهم بالتحسر.
أما إيزابيلا لا غلينترلاند، فقد بدت مختلفةً تمامًا عن الملك. إذ سرعان ما استعادت هدوءها، وأجابت بابتسامةٍ لطيفة:
“أولًا، أرفع اعتذاري لجلالة ملك إيفانيس. بالفعل، بعد سماعي لما قيل، قد يكون الأمر صحيحًا. لكنني، رغم كوني دوقة، لا أستطيع أن أتذكر ملامح أو تفاصيل كل خادمةٍ لدي.”
“….”
“إن كانت الخادمة قد تغيّرت، فلا بد أن أحدهم وظّف أخرى جديدة مراعاةً لراحتي. ثم إن كانت خادمةً في مغسلة القصر، فربما رغبت في بدء حياةٍ جديدةٍ هنا، في هذه المملكة الثرية.”
لسانها مدهونٌ بالزيت.
كانت ثيودورا تعلم ما الذي جرى لتلك الوصيفة، لكنها أدركت أن ذكر ذلك الآن لن يجلب سوى الشفقة على الخادمة البائسة، ولن يغير مصير دوقة غلينترلاند.
“أرجو المعذرة. هل تأذن لي جلالتكَ أن أتحدث؟”
ظهر صوتٌ آخر فجأةً، بينما كان الملك وكيرتيس يتبادلان نظراتٍ حادّة. أكثر من ارتبك حينها كان ماركيزة فلاندر. فالشخص الذي خرج مترددًا لم يكن سوى كاميّو باسيلور.
“ومن تكونين أنتِ الآن؟”
سأل الملك بنفاد صبر. فانكمشت المرأة المتوسطة العمر، مترددةً، قبل أن تقول بخجل:
“أنا صائغة الأحجار الكريمة لدى ماركيزة فلاندر، وابنة عائلة باسيلور الثانية.”
“…. تكلّمي.”
ردّ الملك بتثاقل، غير مرتاح، بعد أن تجرّع صفعةٍ أغات في وقتٍ سابق.
كاميّو، رغم ضعف جسدها وصوتها الرقيق، تكلّمت هذه المرة بوضوحٍ وبصوتٍ عالٍ.
“هل تعلمون أن الزمرد، أيّ حجر الإيميرالد، هشٌّ للغاية؟”
تبادل الجميع النظرات بدهشة. التفتت كاميّو إلى ماركيزة فلاندر، التي أدركت فجأةً أنها لا تزال ممسكةً بمزهرية الزمرد.
“صاحبة السمو الدوقة، هل تسمحين أن أستعير قلادتكِ قليلًا؟”
حين وافقت، خلعت كاميّو القلادة برفق، ورفعتها. كانت قلادة مورغنايت وردي، محاطةً بماساتٍ، تتلألأ تحت أضواء القاعة.
“يُدعى هذا بالحجر المورغنايت. لكنه في الحقيقة من نفس تركيب الزمرد، مختلفٌ فقط في اللون. يسمّونه أيضًا الزمرد الوردي.”
يا ترى، هل تحوّلت المناسبة إلى محاضرةً عن الأحجار الكريمة؟
وفي اللحظة التالية، ألقت كاميّو القلادة على الأرض بكل قوتها.
تكسّر الحجر وسط القاعة بصوتٍ مدوٍّ.
“آه!”
“يا إلهي!”
تصاعدت صيحات الدهشة، لكن صوت صراخٍ واحدٍ بدا مألوفًا بشكل خاص. كانت كلوي التي كتمت ضحكتها بصعوبة، بعدما عرفت أن صاحبة الصرخة هي السيدة باسيلور نفسها، وكأنها تصرخ نيابةً عنها: “كم تساوي تلك القلادة!”
تناثر البريق الوردي على الأرض كنجومٍ صغيرة.
وبينما يحدّق الجميع بالمنظر، وقفت كاميّو هادئة تبتسم، وكأن شيئًا لم يكن.
“إن كان بينكم من يضع قلادة زمردٍ حقيقية ويرغب بإعارتها، أستطيع أن أريكم المشهد ذاته. لكنني أعلم أن لا أحد سيفعل.”
زمجر الملك:
“وما الذي تحاولين قوله هنا؟ أفي إيفانيس، أمام عيني ملكها، تريدين نشر عادة كسر الأشياء الثمينة؟”
انحنت كاميّو احترامًا.
“جرأتي فقط لأقول إن صاحبة السمو الدوقة لم تكن تدرك قيمة مزهرية الزمرد تلك.”
يا إلهي. كيف ستُعوَّض تلك الخسارة؟
وبينما كان بعض الحاضرين يتساءلون بقلق إن كانت السيدة باسيلور سيُغمى عليها، واصلَت كاميّو حديثها بهدوء وكأنها لم تسمع شيئًا.
“من لم يتعامل مع أشياء ثمينةً من قبل، لا يعرف قيمتها. على الأقل، من باع تلك المزهرية واستعملها كغطاء، لو كان يملكها حقًا، لتظاهر بحرصهِ عليها أمام الجميع. ولكان احتفظ بها في يده. هكذا يُفترض أن يفعل من يخفي شيئًا غاليًا.”
كانت كاميّو قد شهدت الموقف منذ بدايته، وأدركت أنه لا يُعقل أصلًا.
فمزهرية مصنوعةٌ من الزمرد تعني أن صاحبها غنيٌ بشكل يفوق الوصف. زمردٌ بهذا الحجم لا يُستعمل لمجرد وضع الزهور فيه.
“حين سمعتُ أن أحدهم صبّ الماء في المزهرية لاستخدامها، كدت أفقد الوعيّ. لو كانت حقًا من الزمرد، لكان على الخادم أن ينصح بالاكتفاء بمشاهدتها. أيّ تصرّفٍ آخر لا يليق.”
صار وجه فيليب ديلتان، كبير الخدم، شاحبًا.
خادم القصر الأعظم لا يعرف حتى كيف يتعامل مع مزهرية زمرد؟ كلمات كاميّو أوحت بأنّ الأمر مستحيل، إلا إن كان متواطئًا.
كما أنها أوضحت أن الدوقة لم تكن على علمٍ بالأمر أبدًا.
لكن إيزابيلا لا غلينترلاند تدخلت بنبرةٍ هادئة:
“وهل لم يخطر ببالكِ أن شخصًا كان يتظاهر بجهله، لأنه يعرف مُسبقًا أنها ليست حقيقية؟”
تبدلت ملامح كاميّو من اللطف إلى الصرامة، وهي تحدّق بإيزابيلا.
“أكرّر كلامي. أنا صائغة عائلة باسيلور، وقد صنعتُ مجوهرات الماركيزة فلاندر منذ كانت طفلة. صناع شارع بابيتين يعرفونني جيدًا.”
“….”
“وفي إيفانيس هذه، لا يوجد صائغ زجاجٍ قادرٌ على صنع مزهريةٍ بهذا الحجم والجودة في أقل مِن أسبوع.”
ساد القاعة صمتٌ مطبق.
عندها، تدخلت ماركيزة فلاندر ليُنهي الموقف.
“جلالتك. أظن أن الاحتفال لم يعد ممتعًا. أرجو أن تأمر بإنهائه.”
فاغتنم الملك الفرصة، وهو الذي كان متوتّرًا طوال الوقت، وصرخ.
“انفضّوا! انتهى الحفل!”
لكن كيرتيس شان بيرك لم يسمح للملك أن يدفن الأمر وكأنه لم يحدث. صوته ارتفع مجددًا.
“جلالتك. بصفتي عميدًا في حرس المملكة الملكي، أطلب الإذن باعتقال دوقة غلينترلاند بتهمة القتل.”
“قتل؟!”
عمّت الدهشة وجوه الجميع، حتى الملك.
هزّ كيرتيس كتفيه ببرود.
“هناك ما لم يتسنَّ للملازم تورنيا أن تذكره. الخادمة التي اختفت من وفد غلينترلاند وُجدت جُثتها منذ أيامٍ على ضفة نهر إيفانيس.”
“ماذا…!”
تراجعت إيزابيلا خطوةً إلى الخلف، لكن ثيودورا أمسكت بذراعها. واصل كيرتيس بوجهٍ بارد.
“جريمة قتل ارتُكبت بحق عضوٍ في بعثةٍ دبلوماسية داخل إيفانيس. وباسم الحرس الملكي، نعتقل دوقة غلينترلاند بصفتها شاهدةً أساسية ومشتبهًا بها.”
“أنا لستُ الفاعلة! أهناك دليل؟”
لكن لم يقابلها سوى النظرات الباردة.
“الشاهد الرئيسي هو السفير الدبلوماسي لغلينترلاند، اللورد أوسلو.”
عندها التفتت الأنظار إلى الدبلوماسي الذي كان واقفًا طوال الوقت في زاوية القاعة، بوجهٍ مكدود. كان يتصبب عرقًا، لكن نظراته نحو إيزابيلا حملت ارتياحًا خفيًا.
تأوّه الملك: “إيخ…”
الآن، أدرك كل الحاضرين أنّ الملك كان مجرد أداةٍ بيد دوقة غلينترلاند لإذلال زوجة أخيه.
فصرخ الملك في النهاية: “افعلوا ما تشاؤون!”
ارتجف جسد إيزابيلا وهي تحاول الإفلات. لكن الأوان قد فات.
اقترب كيرتيس شان بيرك منها بخطواتٍ هادئة، ومدّ يده إليها.
“تفضلي.”
لو أن غريبًا رأى المشهد من بعيد، لظن أنه يطلب منها رقصة، لا أن يقتادها إلى الاعتقال. ولهذا بدا المشهد أكثر إذلالًا.
التعليقات لهذا الفصل " 86"