كانت وجوه الناس في قاعة الحفل غارقةً في دهشةٍ عظيمة. تساءلت كلوي في نفسها. لأيّ سبب هم متفاجئون الآن؟
هل لأنّ الدوقة، التي ارتقت فجأةً من مرتبة نصف النبلاء إلى العائلة المالكة، باعت هديةً ثمينة ثم تعرّضت لإهانةٍ فاضحة؟
أم لأنّ تلك الدوقة حطّمت قارورةً زجاجية أمام الملك بدعوى الانزعاج؟
وإلّا…
“دوقة بيرك!”
…هل لأنّهم تفاجؤوا من أنّ مستوى الملك أدنى مِمّا تخيّلوا؟
بالنسبة لها، لم يكُن هذا مهمًّا. فبدلاً من أن تسأله: “أيّها العجوز، شَعركَ أشيب، فأين ذهب عُمركَ إذن؟”، حاولت أن ترفع طرفي شفتيها بابتسامة. لكنها لم تنجح.
“جلالتك. كما ذكرت، صحيحٌ أنني أنتمي إلى أسرةٍ مِن الدرجة الأولى بين الفرسان الحائزين على وسام الاستحقاق، غير أنها لم تكُن عائلة ترفٍ أو بذخ، بل انشغلتُ دومًا بالاعتناء بإخوتي الصغار. ولهذا السبب، لم يكُن لديّ عينٌ خبيرة تفرّق بين الأشياء. رأيتُ هذا الوعاء فقط جميلاً لا غير.”
“أتراكِ تتمرّدين الآن لأنّ الملك يحاسبكِ على ذنبكِ؟!”
“لكن، جلالتك، إن كان الأمر كما تقولون، فماذا عن دوق بيرك؟”
توقف الملك فجأةً. عندها صرفت كلوي نظرها عنه وحدّقت في كيرتيس شان بيرك، الذي كان يقف خلفها.
“منذ ولادته وحتى الآن، وهو ابنٌ للعائلة المالكة. وما إن رأى هذا الوعاء الزجاجي حتى حكم عليه بأنّهُ رخيص.”
“…..”
“أتجرّأ وأسأل: ألا يُحتمل أنّ الوعاء قد استُبدل منذ البداية؟”
كانت كلوي ما تزال تتذكّر الحوار الذي دار بينهما آنذاك.
-‘هل المعتاد أن يرسل شخصٌ مرفوض هدية زفافٍ أيضًا؟’
-‘لعلّ هذا سبب رخصها.’
كان كيرتيس قد قال ذلك عندما تحدّث عن وجوب إرسال رسالة شكرٍ على المزهرية.
اشتغل عقلها سريعًا. ربّما كانت المزهرية مبدّلةً منذ البداية، أو أنّ ذاك الخادم قد استبدلها. على كلّ حال، بدا الأمر وكأنّه مكيدةٌ متعمّدة لإذلالها واعتبارها شخصًا حقيرًا.
في الواقع، كانت تتوقّع شيئًا من هذا القبيل. سواء كانت هي أو كيرتيس، فقد ناقشا مسبقًا أنّ الملك على استعدادٍ لفعل أيّ شيء ليفضحها.
ولهذا السبب، قرّرت أن تتحمّل معظم المواقف. فالمبلغ الضخم الذي وعدها به كيرتيس يمكن اعتباره بمثابة تعويضٍ عن الإهانات.
على سبيل المثال، أن يُسكب عليها الشراب عمدًا، أو أن يمدّ أحدهم قدمه ليوقعها أرضًا، أو أن يُطلق كلامًا ساخرًا عنها. بل وحتى أن ترتكب خطأً كبيرًا لتُوصم بأنّها “حقًا ناقصةٌ لأنّها من أصول نصف نبلاء”. كانت قد أقنعت نفسها بوجوب تحمّل ذلك.
فبصراحة، لم يكُن من الخطأ القول إنّها ناقصةٌ بعض الشيء.
لكن المشكلة أنّ الأمر لم يعُد يخصّها وحدها.
منذ البداية، تطرّق الملك إلى أسرتها وأقحم أسماء إخوتها. وهذا معناه أنّها لو سكتت عن الأمر، فسوف يُفضَح إخوتها أيضًا.
لذلك، نظرت نحو كيرتيس. في الحقيقة، كان الرجل على الأرجح يتمنّى أن تتحمّل وحدها وتُنهي الأمر سريعًا، فذلك أيسر وأسرع.
لكن بما أنّ الملك أقحم أسماء إخوتها، لم تستطع أن تترك الأمر. فأرسلت نظرات ملؤها الرجاء.
الملك ودوق غلينترلاند رتّبا هذه المسرحيّة لإهانتها. وفي هذا الموقف، ليس لديها ما تستطيع فعله.
لكن، سواء استطاعت أم لا، كانت ترغب في الدفاع عن نفسها على الأقل. فهي قد تكون مجرّد موظّفةٍ مأجورة في هذه القصة، لكن إخوتها ليسوا كذلك. أرادت أن تفعل أيّ شيء.
لكن المفاجأة أنّ كيرتيس أومأ بخفّة. كانت حركةً دقيقة بالكاد تُرى، لكن كلوي فهمتها فورًا.
“افعلي.”
كان هذا ما يقوله.
“أتشكّين في شؤون البلاط؟!”
كما هو متوقّع، صاح الملك بوجهها غاضبًا وقد احمرّ وجهه. فأجابت بسرعةٍ وهي تستدير نحوه:
“كلا. أنا أشكّ في الدوقة غلينترلاند.”
“الدوقة الكبرى بيرك.”
حاولت إيزابيلا التدخّل، لكن كلوي سبقتها. تقدّمت بين شظايا الزجاج المهشّم تحت قدميها، تصدر أصواتًا خانقة وهي تتكسّر.
“سموك، ستجرحين نفسكِ…”
“كما قال الملك، أنا من نصف النبلاء. لم يسبق أن دُعيت إلى مثل هذه الحفلات، ولا مددتُ رأسي إلى مثل هذه الأوساط. لم تكُن لدي أيُّ علاقاتٍ تسمح لي بالمشاركة هنا.”
دفعت الخادمة التي حاولت منعها، ثم رفعت صوتها عاليًا. فارتفعت همهمة بين الحاضرين.
كان فيليب ديلتان عابس الوجه. بدا مستاءً من تصرّفاتها، وكأنّه يقول: “أهذا شيءٌ تفخر به لتصرخ به علنًا؟”
وربّما، بعيدًا عن الموقف السابق الذي تلقّى فيه هو نفسه صفعة، لم يُعجبه أن تُنقص الدوقة من شأنها وهي زوجة سيّده، بينما هو كبير خدم القصر.
لكن… قريبًا لن تعود حتى خادمه.
“أما هذه المزهرية، فقد استلمتها منذ ثلاثة أسابيع فقط، مع مراسم الزفاف. فهل يُعقل أنّ لديّ الحيلة الكافية لاستبدالها بآخرى مزيفة في هذه الفترة القصيرة، ثم بيعها سرًّا؟”
كان كلامها منطقيًّا. ورغم أنّ أحدًا لم يجرؤ على التحدّث بحضور الملك، إلّا أنّ نظرات النبلاء إلى بعضهم أكّدت أنّ حجّة كلوي أكثر معقولية.
لكن الملك لم يكن سهلًا.
“إذن تزعمين أنّ غلينترلاند دبّرت مؤامرةً وجهّزت مزهريتين من البداية لتهين إيفانيس؟ حتى لو صحّ هذا، فما الداعي لأن يفعلوا ذلك؟!”
حقًا، لم يكن لهم دافع. لكن الملك نفسه كان يملك واحدًا. وكان العجز عن التصريح بهذه الحقيقة مرارةً لا تُحتمل.
فمهما كانت جرأة كلوي، لو قالت له علنًا: “أنتَ تريد أهانتي فقط!”، لاعتُبرت قد ارتكبت جريمةً إهانة الملك وسُحبت من القاعة فورًا.
“هناك شهادةٌ أيضًا أنّه يستحيل أن يكون الأمر خيانةً من البلاط أو تجاوزًا من خادمة. ماركيزة فلاندر!”
انتفضت الماركيزة الوي كانت ممسكةً بالمزهرية الأصلية، ووضعتها على الطاولة، ثم زفرت بتعب وقالت:
“…صحيح أنّه وعاءٌ زجاجي، لكن هذا القدر من الدقّة في النقش لا يمكن أن تطلبه خادمةٌ عاديّة.”
“يمكن التحقّق بالمقارنة أيضًا. أين… ذاك الشخص! رولان، صحيح؟ أنتَ من جهّز أواني هذا الحفل؟ أليس كذلك؟”
توجّهت أنظار الملك نحو امرأة وقفتٌ متوتّرة، هي لورا لو غوتيا، ثم خطت خطواتٍ متردّدة للأمام مبتسمة ابتسامة مصطنعة.
“أنا لورا لو غوتيا. نعم، صحيح.”
قال الملك متظاهرًا باللطف:
“بما أنّه حفلٌ ملكي ضخم، فمن الطبيعي أن تحتاج الأواني إلى لمسة سيّدةٍ متمرّسة. فما رأيكِ بهذه المزهرية؟ كم يستغرق صنع مثلها؟”
حرّكت لورا عينيها بتردّد.
“لقد دعوتكِ لأنّكِ زميلةٌ للدوقة في أيّام البحرية. بما أنّها تظنّ أنّها مظلومة، فستثق بكلام ‘معارفها’. لكن تذكّري، يا كونتيسة غوتيا، أنّ هذا أمرٌ قد يتفاقم إلى قضيةٍ دبلوماسية، فأرجو أن تُعطي حكمًا سليمًا.”
من البداية، لم يكن هناك احتمال أن تقف لورا إلى صفّها. وكما توقّعت كلوي، استجمعت لورا شجاعتها سريعًا وقالت:
“إن كان هناك دعمٌ مالي كافٍ، فهذا مُمكن. فالحقيقة أنّ صانعي الزجاج في تاوايا لم يعودوا محصورين هناك منذ أكثر من مئة عام. في إيفانيس أيضًا، يمكن العثور على صانعي زجاجٍ بارعين.”
“وماذا عن المدّة؟”
“لقد صنعتُ ثمانيةً وثلاثين إناءً زجاجيًّا لمناسبة عيد ميلاد طفلي الأوّل. واستغرق الأمر من الطلب حتى الإتمام أسبوعًا واحدًا.”
ضحكت كلوي في سرّها. أترى أنّها ما زالت تحمل حقدًا منذ أن وضعت لها حدودًا ورفضت صداقتها؟ أم أنّ الملك هو من أوعز لها بذلك؟
“إذن، ما تقولينه يا كونتيسة غوتيا، هو أنّني أملك من الأناقة والقدرة ما يجعلني قادرةً على صناعة مزهريةٍ مزيفة فخمٍ خلال أسبوعٍ واحد فقط، أليس كذلك؟”
جاءت كلماتها مليئةً بالسخرية. عندها، بدأت كلوي تفهم لماذا كانت شخصية كيرتيس مشوّهةً إلى هذا الحد. فالأمر دائمًا هكذا. حِيَل الملك رخيصةٌ وساذجة، بل ويمكن التغاضي عنها.
لكن، إن كانت هذه التهم تُوجّه له مرارًا وتكرارًا، فكيف سيكون الحال؟
لقد مضى شهرٌ واحد فقط على زواجها بكيرتيس.
“كلوي.”
ناداها كيرتيس بصوتّ غاضب واضح. رفعت نظرها إليه. كانت عيناه البنفسجيتان الباردتان لا تزالان بلا تعبير.
“دعني أتكفّل بالحديث.”
لكنه لم يُبدِ رفضًا ولا موافقة، واكتفى بالتحديق فيها بهدوء. هل قصده أن تتوقّف، أم أن تستمر؟ لم تفهم. وإن كان يقصد الأولى، فهو بنفسه سيمنعها.
“أنا… هذا…”
ارتجف صوتها من شدّة الغضب.
لقد رأت من قبل زملاءها حين يتكلّمون بصوتٍ مرتعش في لحظات الغضب أو الحزن، فيظهرون بمظهرٍ ضعيف بدلًا من أن تُبرز مشاعرهم.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، كأنّ حلقها التصق بمؤخرة رأسها. فتح فمها لم يستغرق وقتًا طويلًا، لكنّه بدا لها وكأنّه دهور.
في تلك اللحظة، شعرت بيدٍ تُمسك كتفها بلطف. لم تحتج أن تنظر لتعرف مَن هو.
التعليقات لهذا الفصل " 83"