كان أكثر من بدت عليه الحيرة هو اللورد أوسلو، سفير غلينترلاند.
لقد أُوفد من غلينترلاند إلى إيفانيس قبل عشر سنوات، وبما أنّ غلينترلاند لم تكن دولةً ذات شأنٍّ كبير في إيفانيس، فقد أمضى وقته في راحةٍ وهدوء.
“صاحبة السمو الدوقة غلينترلاند، لو أنّ مثل هذا الأمر وقع، ألم يكن يجدر بكِ أن تستشيريني؟”
يبدو أنّ إيزابيلا أقدمت على هذا الأمر دوّن أيّ استشارةٍ معه.
أما الملك فقد ألقى نظرةً على اللورد أوسلو وهزّ رأسه بوجهٍ متألم.
“كان عليكَ أن تكون أكثر حذرًا، أيها السفير. فمهما يكن، الدوق كيرتيس شان بيرك هو أخي.”
لم يكُن بوسعه البوح بذلك لأنّه قد يُصبح عارًا على العائلة المالكة. وبالطبع، لم يستطع أحدٌ الاعتراض على كلام الملك.
أضافت إيزابيل قائلة:
“لقد فكّرتُ فقط في وضع اللورد أوسلو الذي سيبقى هنا بعد رحيلي. وإن كان في الأمر تقصير، فأنا أعتذر.”
لو كانت فكّرت حقًّا، لكان من المنطقي أن تستشيره.
لكنّ الأمر يجري أمام ملك إيفانيس. ثم إنّ القضية تضخّمت كثيرًا بحيث لم يعُد السفير قادرًا على معالجتها. تراجع اللورد أوسلو بوجهٍ مشوّه تمامًا أمام الجميع.
عندها تحدّثت الماركيزة دو فلاندر الواقف إلى جواره.
“لقد أجرينا التحقيق بأقصى سرعة. أحضرنا المزهرية التي كانت في الدوقية وقارنّاها، فوجدنا أنّ واحدةً زجاجية، والأخرى مزهريةٌ من حجر المالاكيت من جبل تاوايا.”
“إنّها المزهرية التي أُهديت إلى جلالة ملك غلينترلاند منذ ثلاثين عامًا. في الواقع، حين كانت احتمالية أن يُفضي هذا الاجتماع إلى زواج ملكي قائمة، أعطاها لي، لكن لم يتحقّق ذلك، فأرسلتها كهدية.”
تلقّت إيزابيلا الكلام بطبيعية وأكملت:
“لقد أمرتُ إحدى خادماتي أن ترسلها عبر إدارة القصر كهدية زفاف، ويُمكنكم التأكد من ذلك.”
أجابت الماركيزة بوجهٍ متشنج:
“لقد تحققنا من ذلك منذ زمن. ومثل هذه القضايا عادةً ما يُحقّق فيها الحرس الملكي، لكن بما أنّ الدوق بيرك متورط، فقد أجريتُ التحقيق بنفسي.”
‘آه، لهذا السبب…’ تمتمت بعض سيدات البلاط القريبات منهن.
في تلك اللحظة تدخّل كيرتيس.
“إذن، ما الذي تريدون قوله جميعًا في النهاية؟”
كان الرجل يبعث بأشدّ أجواءٍ مهيبة رأتها كلوي في حياته. وقف أمامها حاجزًا إيّاها عن أنظار الآخرين، وأمسك بخفّة معصم زوجته مانعًا إيّاها من الكلام.
لم يفعل سوى أن أمسك معصمها برفق، لكن لسببٍ ما أدركت كلوي تمامًا ما يدور في ذهنه.
‘إذن هذه هي الخطة التي دبّرتها هذه السلالة اللعينة.’
تصلّبت كلوي.
أطلقت الماركيزة دو فلاندر تنهيدة وأكملت:
“لا أظن أنّ الأمر يستدعي أن يتدخل الدوق بنفسه. لقد وردت شهادةٌ مجهولة تقول إنّ اادوقة بيرك باعت المزهرية بنفسها.”
“لكن الدوقة كانت معي طوال الوقت منذ يوم الزفاف.”
“لا يُعقل أن تخرج الدوقة بنفسها لتبيعها. أليس كذلك يا دوق بيرك؟”
“يُقال إنّ إحدى خادمات الدوقية هي من باعتها.”
“هل لديكَ دليلٌ أنّها خادمةٌ تابعة للدوقية؟”
“أنا لا أعلم!”
ضحك الملك ضحكةً كبيرة وأضاف ساخرًا:
“لكن يُقال إنّ إحدى خادمات الدوقية اختفت منذ مدةٍ. ما رأيكَ في ذلك؟”
كانت كلوي تقف خلف كيرتيس فلم تستطع رؤية وجهه، لكنّها تخيّلته جامدًا كما يفعل عند تفقد جنوده.
“لقد فكّرتُ أنّ اادوقة بيرك قد تجد هديتي ثقيلةً على نفسها. لكن…”
أطلق كيرتيس ضحكة منخفضة. لم يُبالِ بكاءها المصطنع. أما الملك فأكمل الحديث:
“إنّ هذه السيدة من أسرةٍ نالت لقبًا ثانويًا حديثًا، وأسرتها لم تعتد على الترف. أليس من الممكن أنّ هذه الهدايا الفاخرة أيقظت في نفسها نوعًا من الطمع؟”
“جلالة الملك.”
جاء صوت كيرتيس حادًا كالسكين.
“تلّمحون إلى أنّ الدوقة، ذات الأصل المتواضع، رأت هدية غلينترلاند ثمينة، فباعتْها خفيةً وتمّ كشفها. أهذا ما تريدون قوله؟”
“دوق، ليس عليك أن تقول الأمر بهذا الشكل.”
ابتسم الملك بخبث.
“لنقل مثلًا إنّ هديةً أرسلها منافسٌ جميل قد تُثير ضيق الزوجة. أليس كذلك؟ قولي لنا رأيكِ يا دوقة.”
توجّهت الأنظار إلى كلوي.
كانت بلا تعبير. ليس لأنّها تحاول إخفاء إهانة أو أنّها تبذل جهدًا لتتماسك، بل لأنّها ببساطة لم تعرف ما يجب أن تقول.
في نفسها، رغبت أن تسأله: ‘أيّها العجوز، هل جننت؟ ما هذه المهزلة؟ أنت تعلم أنّ الأمر ليس صحيحًا، فلماذا؟’
لكنها بالطبع لم تستطع أن تقول ذلك.
“أعتذر، جلالة الملك.”
ظنّت أن صوتها سيرتجف، لكنّه خرج ثابتًا على غير توقّع.
دفعت كيرتيس بخفّة جانبًا، وعلى الرغم من أنّه بدا أنّه لن يتحرك أبدًا، إلا أنّه تنحّى بسهولة.
لم تنظر إليه، بل صوبت نظرها نحو الطاولة حيث كانت المزهريتان.
“إذن واحدةٌ من هاتين المزهرّيتين مزيفة، وهذه المزيفة أُحضرت من منزلي؟”
“منزلكِ؟ نعم، في الوقت الحالي على الأقل.”
وكان في كلامه سخرية تقول: “هل هو منزلكِ حقًّا؟”
‘سخيف. ما دامت أوراق الزواج تحمل اسمي فهو منزلي.’ لكنها لم تستطع قول ذلك.
“عادةً لا يُمكن لأحدٍ أن يخرج شيئًا من منزل الدوقية دون إذن سيدته، حتى أنا. لكن إن صحّت هذه الحادثة، فهي إهانةٌ دبلوماسيةٌ عظيمة لغلنترلاند، لذا لم أستطع التغاضي عنها.”
‘هذا الحقير يعرف، ومع ذلك يتصرّف هكذا؟’ شعرت كلوي بالرغبة في الصراخ.
لكنها فقدت حتى الرغبة في الرد حين رأت فيليب ديلتان يتقدّم بانحناءةٍ أنيقة.
قال الملك بابتسامة ماكرة:
“لقد طلبتُ من كبير خدم الدوقية، بكل احترام، أن يحضرها لي.”
انحنى فيليب ديلتان وقال:
“دوقتي الكريمة، أعتذر، لكن من أجل شرفكِ أنا من اقترح أن يجلب بالمزهرية للمقارنة.”
‘ذلك الخادم الوغد.’ كان يحمل ضغينةً ضدّها، ولا شك أنّه وجد الفرصة لينتقم. وإن لم يكن، فبما أنّه جاسوس الملك، لكان تصرّف بالطريقة ذاتها.
سأل الملك وهو يتجوّل قرب الطاولة.
“هل كانت المزهرية مزيفةً منذ البداية؟ أم أنّها استُبدلت في وقت لاحق؟”
“لقد وضعتها في المخزن فحسب. لكن بما أنّها كانت أثمن هدية، فقد قامت الدوقة بتفقّد جميع الهدايا بنفسها واحتفظت بتلك المزهرية قربها دائمًا.”
“دائمًا؟ إذن هل يُحتمل أن تكون استُبدلت لاحقًا؟”
“الأمر أنّ منزل الدوق يدخلها الكثير من الناس، وغرفة الدوقة نفسها يدخلها الخدم للتنظيف والتزيين…”
“إذن، لو رأيتُ المزهرية صباحًا ثم عادت مساءً وقد استُبدلت، هل كنت ستلاحظ الفرق؟”
“أعتذر، بصري ليس حادًا بما يكفي ليميز بينهما.”
“بيتر! لقد كنت خادمًا في القصر الملكي، لا يُمكن أن يكون بصرك ضعيفًا! خدم القصر الملكي لا يدخلونه دون نظرٍ ثاقب!”
وربّت على كتفه. فارتبك الخادم.
“أنا… فيليب يا مولاي…”
“المهم! إن كان حتى شخصٌ ذو نظرٍ ثاقب لم يستطع التمييز، فهذا يعني أنّها مزيفةٌ بمهارةٍ عالية!”
حاول الحاضرون جميعًا أن يمدّوا أعناقهم لرؤية المزهريتين.
كانتا متشابهتين جدًا. حتى كلوي التي اعتادتهما لأكثر من عشرة أيام لم تستطع التمييز بدقّة. الفرق فقط في نقاء اللون وبعض الشوائب الداخلية.
“إذن، جلالة الملك يرى أنّني أطمع في هذه الهدية الثمينة، فبعتها، أهذا صحيح؟”
“إن شئتِ قول ذلك.”
“ومع ذلك أحضرتم مزيفة مطابقةً لها.”
لم يعجبه نبرتها الهادئة، فقطف الملك بلسانه.
“يا دوقة، أنا لا ألوم السيدات إن أخفين مالًا عن أزواجهن.”
“…..”
“لكن عليكِ أن تعرفي حدودكِ! فبينما يخاطر الدوق بزواجه منكِ مسببًا حرجًا لغلنترلاند، تذهبين أنتِ وتتصرفين بهذه الطمع الحقير!”
في ذهن كلوي، أعادت ترتيب قائمة الأشخاص الذين تتمنى أن تضربهم.
مبروك يا دوق كيرتيس شان بيرك. لقد تراجعتَ الآن إلى المركز الثاني.
“سمعت أنّكِ خدمتِ في البحرية والحرس الملكي ليل نهار؟ لكن مع ذلك اشتهرتِ بالبخل!”
ترددت لحظة. هل عليها أن تتحمّل؟ نعم، كان عليها أن تتحمّل. فقد كان الصبر على الملك شرطًا ضمنيًا في عقد زواجها من كيرتيس شان بيرك.
لكنها لم تستطع كبح غضبها.
تقدّمت نحو الطاولة ودَفعت المزهريتين بإصبعها. على الرغم من أنّها رأت المزهرية لأكثر من عشرة أيام، لم تستطع تحديد الحقيقية.
“أيّهما الأصلية؟”
أشارت الماركيزة دو فلاندر بحذر إلى اليمنى.
لكن كلوي نقرت بخفّةٍ على اليسرى. تنغ. خرج صوتٌ رنّان صافٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 82"