“سموّ الدوقة الكبرى، هل سبق لكِ أن جئتِ إلى غلينترلاند؟”
قالت إيزابيلا ذلك وهي تلتقط أنفاسها بعد أن أنهت الرقصة مع كيرتيس.
‘راتب أربعين ألف سينغ، ويجب أن تُعيل بهِ أسرةً من أربعة أفراد دون الوالدين، فهل السفر إلى الخارج أمرٌ ممكنٌ أصلاً؟’
بدلًا من أن تجيب هكذا، ابتسمت كلوي.
“كلا. يؤسفني القول إن آفاقي ليست واسعةً إلى هذا الحد.”
“أفهم. لقد اندهشتُ كثيرًا عندما جئتُ إلى إيفانيس.”
“ولماذا ذلك؟”
ابتسمت إيزابيلا برفق.
“قد يبدو كلامي غريبًا، لكن غلينترلاند بلدٌ فقيرٌ للغاية.”
‘أنا لستُ خبيرة، لكن أن يقلّل شخصٌ من شأن بلده هكذا فذلك كفيل بأن يجعل سفير غلينترلاند يُصاب بالفزع.’
وبينما كانت كلوي تفكّر هكذا، أدارَت عينيها تتفحّص المكان. ولحسن حظها، لم يكن السفير أوسلو من غلينترلاند، الذي كان يحاول قبل قليل الحديث معها بكل حماس، موجودًا بالجوار. تابعت إيزابيلا حديثها:
“الهدوء من محاسن بلدنا، لكن لكونه كثير الجبال وقليل السهول، ومعظمها يجاور البحر، فالزراعة صعبةٌ جدًا. فالأرض مالحة.”
“لكن سمعتُ أن لديكم الكثير من الطرق البحرية على خلاف إيفانيس، وموانئكم مزدهرةٌ أيضًا.”
قاطع كلام كلوي، التي كانت تحاول جاهدًة رفع شأن غلينترلاند، صوتُ الملك. ملامحه تنطق بالتهكّم، وكأنه يقول: ‘أليس بيتكِ فقيرًا أيضًا؟’
“سمعتُ أن عائلتكِ ليست غنيّةً كذلك يا دوقة.”
ارتجف طرف فم كلوي.
“لا شك في ذلك.”
نعم. نحن فقراء. فما الأمر؟
الفقر ليس أمرًا مُخزيًا. هكذا ترى كلوي.
والداها لم يكونا يهتمان كثيرًا بأمور البيت، ومع ذلك كانا يُرسلان كل ما يحصلان عليه من دعمٍ بسيط من الجامعة مقابل أبحاثهما إلى المنزل.
وبالنظر إلى طباع والديها، فقد كان ذلك بحد ذاته أمرًا عجيبًا. لم يكونا يعرفان كيف كسب المال، ولم يعرفا سوى الدراسة. أُناسٌ طيبون لكن سُذّج، يجهلون أمور الحياة.
وبصراحة، كان من العجيب أصلًا أن يتزوج هذان الاثنان وينجبا أطفالًا.
المنزل الموجود في شارع لو مارتين كان ميراثًا من جهة والدها. منزلٌ صغير اشتروه مستندين إلى المعاش الذي مُنح مع لقب فارس من الدرجة الأولى.
وقد وُلدت كلوي وترعرعت في ذلك المنزل، ومنذ صغرها تولّت شؤون البيت بدلًا من والديها. فهي كانت أقدر وأسرع منهما بكثير، إذ لم يكن لهما أيُّ مهارةٍ في كسب المال.
“أرى أنكِ تجيبين بصراحة، مِما يعني أن ظروفكِ لم تكُن سهلة. سمعتُ أيضًا أنكِ كنتِ المسؤولة عن عائلتكِ. لا بد أن وضعكِ الحالي يبعث على الرضا الكبير.”
‘تظن أنني سعيدة؟ يبدو أنكَ أنتَ مَن تنعم بالرضا، لا أنا.’
كادت كلوي أن تضحك باستهزاء من كلام الملك، لكنها كظمت غيظها وأجابت بنبرةٍ هادئة:
“إن فضل جلالتك عظي، فقد خدمتُ في البحرية ولم أعِش بنقص، كما لم يكن إرسال إخوتي إلى المدارس أمرًا صعبًا.”
لكن في الحقيقة، لم يكن الحال بتلك السهولة. فالوفرة كلمةٌ لم تعرفها أسرة أمبرويز.
ذهاب إيريك إلى الأكاديمية العسكرية الملكية كان بسبب المنحة، لكن أيضًا لأن ذلك خفّف من أعباء المعيشة. أما ليا، الطالبة في كلية الحقوق بمدرسة العاصمة الثانوية للبنات، فكانت تُكابد الليل والنهار لتحافظ على منحتها. بل إنها أرادت أن تعمل وتساهم في مصاريف البيت، لكن كلوي منعتها.
“أخي الأصغر مباشرةً، إيريك، يحصل على منحة التفوق الأولى في الأكاديمية العسكرية الملكية. وأما أختي الثانية، ليا، فهي تحتل المرتبة الأولى طوال العام في كلية الحقوق بمدرسة العاصمة الثانوية للبنات.”
أثار هذا الفخر المفاجئ دهشة الحاضرين، إذ إن التفوق في الأكاديمية العسكرية الملكية ليس أمرًا يسيرًا حتى على أنجب أبناء النبلاء. ومدرسة العاصمة الثانوية للبنات ليست أقل شأنًا.
لقد أثمرت مساعي كلوي حين أثنت أختها ليا عن ترك الجامعة من أجل عملٍ زهيد، وأقنعتها بأن التخرج سيعود عليها بفرصٍ أفضل.
أما آيريس، فقد بدأت في مدرسة، لكن زيارات الطبيب صارت مُكلفة، فاستأجرت لها كلوي معلّمةً خاصة. كلوي نفسها كانت تتناول وجباتها الثلاث في مطعم البحرية، بينما كانت ليا تشتري الخضار الذابلة من السوق بقطعٍ معدنية زهيدة لتصنع حساءً يكفي لأسبوع كامل.
وفي المساء، وبعد أن تتعب آيريس من دروسها مع المعلمة، كانت كلوي تُشغلها بقولها: “هيا بنا نلعب لعبة الحبال!” فتضحك الفتيات الصغيرات وهن يركلن ويلعبن بحبال مضفورة.
ربما يراها البعض حياةً بائسة، لكنها لم تكن مدينةً لأحد. ولم تشعر كلوي بالخجل، بل كانت فخورةً بإخوتها الذين يجتهدون ويثابرون دون شكوى.
وكانت ممتنةً بالفعل، حتى على تعليمه إياها الخط الملكي الرسمي. فقد استخدمته لتكسب مالًا إضافيًا عبر كتابة رسائل شكر لزبائن المتاجر الكبرى.
هكذا بدت حياتها أمام الناس غير ناقصة. ابتسمت كلوي برقةٍ وهي تقول ذلك للملك.
“…على أيّ حال، لا يُقارن وضعكِ السابق بثروة الدوقة الكبرى، أليس كذلك؟”
قال الملك ذلك بنبرةٍ ساخرة، وكأنه لم يرضَ بأن تحول حديثه عن فقرها إلى مدحٍ لإخوتها. فأومأت كلوي برأسها.
“لم يكن بمقدوركِ شراء قلادةٍ أو خاتم مثل ما تضعينه الآن.”
فأجاب كيرتيس الذي كان يقف وراءها يراقب الملك وإيزابيلا.
“لقد وعظ الكثير من الحكماء أن الثراء المادي ليس كل شيء، ومع ذلك هناك دومًا من لا يرون للحياة قيمة إلا بوجود الكماليات. وأنا واحدٌ من هؤلاء الضعفاء، ولذلك أشعر بسعادةٍ عظيمة لأنني أستطيع أن أزين امرأةً قادرة على أن تكون جميلة حتى دوّن جوهرةٍ واحدة.”
كان كلامه مطولًا، لكن مغزاه كان واضحًا.
‘أتعيّرها بأنها عاشت بلا مجوهرات؟ أنتَ تبدو كمجرد سطحيٍّ تافه.’
كاد الملك العجوز أن ينفجر غيظًا، لكنه تمالك نفسه وضحك ضحكةً متصنّعة وقال وهو يعقد يديه خلف ظهره.
“إذن، كيف ترى يا دوق ما لم تعرفه أو تحظَ به من قبل؟”
“أخوكَ الصغير قاصرٌ عن إدراك مغزى جلالتكِ العميق. فلتمنحني توجيهًا.”
‘كفّ عن المراوغة وتكلم بوضوح. يضايقني هذا اللفّ والدوران.’
وبالفعل، بدا أن الملك لا ينوي الاسترسال أكثر. نظر إلى إيزابيلا لا غلينترلاند، التي لم تزل تبتسم، ثم عاد يواجههما.
“يبدو أن الدوق أغرى الدوقة الكبرى بأطماع لا طائل منها. لقد وُجِّه إلينا اتهامٌ بأنها ارتكبت خطيئةً جسيمة بحق غلينترلاند.”
“آمل أن الأمر لا يتعلق بحفل الزفاف.”
لن يُثير الآن موضوع الزفاف مجددًا، أليس كذلك؟ سأل كيرتيس الملك، فالتفت الملك إلى إيزابيلا وسألها:
“دوقة غلينترلاند، سمعتُ أنكِ أرسلتِ هدايا إلى الزوجين الدوقيين.”
أجابت إيزابيلا بانحناءة مهذبة.
“هذا صحيح. لقد أرسلتُ اثنين وثلاثين هدية، من بينها مزهريةٌ زمردية يمكن القول إنها كنزٌ وطني لغلينترلاند.”
“وهل تسلّمتها الدوقة الكبرى؟”
مزهريةٌ زمردية. كلويي تعرفها. فأومأت برأسها.
“نعم.”
-‘لكنها كانت رخيصة.’
تذكّرت قول كيرتيس البارد عنها.
‘هل يُحاسبوننا على قبولها؟ أم يعتبرون أننا ابتزّنا بلدًا فقيرًا؟’
لكن لم يكن هذا هو الأمر.
“أين تحتفظين بها الآن؟”
“بالاحتفاظ بها تعني…”
قاطعها كيرتيس وأجاب بدلًا منها:
“لقد وُضعت على مائدة الطعام في مقر الدوقية هذا الصباح.”
وكانت نظراته تقول بوضوح: ‘وما شأنك بمزهريةٍ رخيصة؟’
ابتسم الملك كما لو أنه كان ينتظر هذه الإجابة وقال:
“ماركيزة فلاندر، أحضِرها!”
ارتجّت القاعة الكبرى. حتى الذين لم يسمعوا الحوار من بدايته، لم يسعهم تجاهل دخول الخدم واصطفافهم.
وبوجهٍ متحسّر، تقدّمت ماركيزة فلاندر إلى وسط القاعة، حيث تجمعت الأنظار كلها عليها، ثم أشارت بيده.
فما كان من الخدم إلا أن جاؤوا بمزهريةٍ خضراء.
اثنتان.
مزهرَتان متطابقتان تمامًا مع تلك التي دخلت مقر الدوقية. اتسعت عينا كلوي دهشة، وأخذ الحضور يتهامسون. قالت الماركيزة بوجهٍ يفيض بالخيبة.
“لقد ورد بلاغٌ بأن المزهريات التي أهدتها الدوقة غلينترلاند للزوجين الدوقيين معروضةٌ للبيع في متجرٍ فاخر بشارع بابيتين.”
أضافت إيزابيلا:
“لقد خشيتُ أن تتحول إلى قضية ٍخطيرة، ولذلك تصرّفتُ بحذر. وكنتُ قد ذكرتُ سابقًا أن تلك المزهريات أقرب إلى كنزٍ وطني، ولا يُمكن أن يُشتبه فيها. وعندما تحقّقت بنفسي، وجدتها متطابقة.”
وهكذا كان الملخّص:
أحد أعضاء وفد غلينترلاند المرافق لإيزابيلا مرّ في شارع بابيتين، ولاحظ في واجهة متجرٍ فاخر تلك المزهرية. وعلى الفور بدأ التحقيق.
‘كيف وصلت المزهرية، التي كانت هديةً للدوقة الكبرى، إلى هناك؟’
لم يكن يُمكن أن تكون مزيّفة، فهي لم تخرج من خزائن كنوز غلينترلاند قط.
وقد حاول صاحب المتجر طويلًا التنصّل من ذكر مصدرها، لكنه أقرّ أخيرًا أنه اشتراها حديثًا وبسعرٍ باهظ من أحد تجار المسروقات المتخفّين كأصحاب متاجر تحف.
أما التاجر فقد قال إنه ابتاعها من خادمةٍ أنيقة المظهر. وبرّر ذلك بأن الخادمات يسرقن أحيانًا من بيوت النبلاء ويبعن ما سرقن ثم يهربن.
تعهّد الملك بالتحقيق شخصيًا مع التاجر. وعندما ضُيّق عليه، اعترف أخيرًا:
“كانت الدوقة الكبرى نفسها قد أمرت خادمتها ببيعها. وقد قبضت ثلاثة ملايين سينغ.”
ارتفعت أصوات الدهشة من كل مكان. ابتسم الملك ابتسامةً حزينة وهو ينقر على الطاولة حيث وُضعت المزهريتان وقال:
“كان عليكِ أن تطالبي بسعرها الحقيقي يا دوقة كبرى. فقيمة هذه المزهريات تزيد عن ثلاثين مليون سينغ.”
التعليقات لهذا الفصل " 81"