من قاعة الحفل حتّى الحديقة، كان جميع الواقفين ينحنون تعبيرًا عن الاحترام. وفي اللحظة التي همّوا فيها بالنهوض، صُدم الجميع بما رأوه.
“يا له من أمر! يبدو أنّ الدوقة الجديدة قد بذلت جهدًا عظيمًا.”
هكذا قال الملك وهو يبتسم، وبجانبه كانت تسير سيّدةٌ فاتنة نادرة الجمال.
إنّها إيزابيلا لا غلينترلاند، دوقة غلينترلاند، والنجمة الحقيقية لحفل الليلة. وخلفها كان سفير غلينترلاند يتبعها غارقًا في العرق.
“أوه…”
أطلق أحد الحاضرين تنهيدةً مشوبةً بالكثير من المعاني. وذلك لأنّ الحفل الدبلوماسي عادةً ما يكون رمزًا للعلاقة الطيبة والصداقة بين الجانبين. ولهذا كان من المفترض أن يدخل الملك أوّلًا، ثم يُستقبل الطرف المقابل باحترامٍ لائق.
وبمعنى آخر، كان يفترض أن تدخل إيزابيلا لا غلينترلاند بصحبة السفير، بعد الملك.
لكنّ الملك دخل وهي بجانبه، كما لو كانت زوجته. وذلك كان إهانةً كبيرة لغلينترلاند.
“…كيرتيس.”
همست كلوي بهدوء إلى الدوق الجالس إلى جوارها. فأجاب الدوق بابتسامةٍ شرسة.
“لو رأى ذلك ناسٌ لا يعرفون لظنّوا أنّه أقام حفل خطبةٍ لنفسه.”
بعض السيدات القريبات منهم أشحن وجوههنّ وكأنّهنّ لم يسمعن شيئًا.
***
“بدأتُ أشعر أنّه لم يكن علينا الحضور إلى هنا.”
هكذا تمتمت ماركيزة فلاندر وهي ترفع بصره نحو الملك الذي أعلن افتتاح الحفل. فردّ عليها وليّ العهد فريدريك الذي كان واقفًا بجوار وليّ العهدة.
“الآن فقط تقولين هذا؟ أمّا أنا، فمنذ الصباح أشعر بالأمر ذاته.”
كان ذلك كلامًا خطيرًا إن سمعه أحد. فشدّت الأميرة بياتريس، زوجة وليّ العهد، كمّه بخوف.
“جلالتك…”
ابتسم فريدريك وهو يضمّ يد زوجته برفق، بعدما رأى حاجبيها السوداوين الرقيقين ينقبضان بقلق.
“المعذرة.”
لكن وليّة العهدة لم تكن تجهل مشاعره.
فالملك، أيًّا كان، لم يعرف يومًا إلا نفسه، وكان قلبه وضيعًا جدًا على أن يجلس في مقام الحاكم.
وكانت الماركيزة فلاندر واثقةً من شيءٍ واحد: الملك الآن في قمّة سعادته. بسبب سببٍ بسيط جدًا.
لم يكن بحاجةٍ إلى تحليل أو شرح؛ فالأمر كلّه لأنّ كيرتيس شان بيرك يُزعجه، وزوجته الدوقة تُزعجه أكثر. سواء كان زواجهما عن حبٍّ أم لا، فهذا لم يعد يهم الملك.
كل ما يريده هو أن يُهين الدوقة التي أهانته أمام الجميع، وأن يجعل الدوق بيرك موضع سخريةٍ بصفته رجلًا لا يُحسن اختيار شريكته.
ولهذا فقط، كان مسرورًا إلى هذا الحد.
أطلقت ماركيزة فلاندر تنهيدة وهي ترمق إيزابيلا لا غلينترلاند بنظرةٍ جانبية.
‘مخادعة.’
شعرها البني المائل إلى الوردي أعطاها مظهرًا ناعمًا ومريحًا. وجهها بدا وكأنّه لا يستطيع أن يؤذي نملة.
لكنها، في نظر الماركيزة فلاندر، لم تكن سوى أبرع المحتالين.
“لو أنّ جلالة الملكة عاشت قليلًا أطول لكان خيرًا.”
كانت تقصد الملكة دو سوليا، والدة فريدريك. فابتسم فريدريك بتنهيدة.
“أعتقد أنّكِ تُبالغين في تقدير والدتي يا عمّتي.”
“لو كان في هذا العالم مزيدٌ من الناس مثل الملكة، لما وُجدت الحروب أصلًا. كانت امرأةً نادرةً حقًا.”
“لكنها موجودةٌ هنا، أليست كذلك؟”
قال فريدريك وهو ينظر إلى زوجته نظرةً مليئة بالحنان. فتوسّعت عينا بياتريس بدهشةٍ، كأنها تسأل: “أنا؟”
الملكة دو سوليا كانت تخشى بشدّة أن يتحدّث الناس عنها بسوء.
تزوّجت الملك الحالي في الثامنة والعشرين من عمرها، وهو سنٌّ كبير لملكة، رغم أنّ مكانتها وحقوقها فاقت أيِّ نبيلةٍ أخرى في زمانها.
والسبب الذي جعلها لا تتزوّج حتّى ذلك العمر بسيط: فقد أُصيبت في صغرها بالحمّى، فتركت ندوبًا في وجهها.
لكن زيجات الملوك عادةً لا تتأثر بالهيئة. ومع ذلك، كان الملك الحالي – وكان وقتها وليّ العهد – يردّد دائمًا خلفها:
-‘لقد تزوّجتُ بسرعة بسبب كيرتيس ذلك الحقير، فلم أستمتع بحياتي كما ينبغي. لكن في النهاية، لم يكن لأحدٌ غيري ليتزوّج امرأةً كهذه بسبب وجهها.’
ومع ذلك، الملكة دو سوليا لم تكره الملك يومًا.
-‘الحاكم يحتاج أحيانًا إلى شيءٍ من التبجّح.’
كانت تقول ذلك دائمًا. لكنّها رحلت بعد سنواتٍ قليلة من جلوس الملك على العرش.
-‘على أيّ حال، إنّه أخوك يا جلالتك. لا تترك للكراهية أن تأكلك من الداخل.’
لكنّ فريدريك كان يتذكّر أنّ الملك حينها سخر وقال: “هل تُظهرين كل هذا التعاطف مع الرجال الوسيمين لأنّ وجهكِ مشوّه؟”
وكان فريدريك حينها في العاشرة من عمره فقط. يتذكّر كيف أنّ الملكة بكت بعد ذلك، ومع ذلك قالت له: “لقد أخطأتُ أنا في حقّ الملك. فلا تغضب من أجلي، يا ولدي.”
“العالم يضمّ أناسًا وُلدوا أشرارًا، ومؤسفٌ أنّ أبي واحدٌ منهم.”
قالها فريدريك وهو يقبض بقوّة على يد زوجته. لم يكن يظن نفسه عظيمًا أو مختلفًا عن البشر.
رفعت وليّة العهد عينيها الواسعتين إليه بخوف. فهي ابنة أوّل أميرٍ من أمراء الحدود، وزعيمة الفصيل الملكي. ضعفها ذكّره بوالدته.
كان زواجهما سياسيًا بحتًا، اختير بعنايةٍ فائقة، ومع ذلك كان فريدريك يتمنّى أن يراها تضحك كثيرًا. لكنه كان يعرف أنّ أكثر من يسلبها ضحكتها هو هو نفسه.
“هل التقيتِ بالدوقة؟”
“…نعم.”
أجابت بياتريس بخجل وهي تهز رأسها. فقد علم فريدريك أنّ الدوقة جاءت بنفسها قبل الحفل بيوم واحد لتقديم التحيّة رسميًا.
“وكيف وجدتها؟ أنا أظنّها إنسانةٌ مثيرةٌ للاهتمام. هل تشاطرينني الرأي؟”
حدّقت بياتريس بعينيها الزرقاوين في زوجها، ثم بعد لحظة صمت أجابت: “نعم.” فابتسم وليّ العهد.
“أتمنّى أن تحسني علاقتكِ بها. وسيكون أفضل لو شعرتِ بالسعادة معها.”
“…نعم.”
ماركيزة فلاندر التي كانت تراقب الزوجين، فكّرت: ‘لا يزال أمامهما الكثير ليتعلّماه.’ لكنها لم نهتم. ما أقلقها حقًا كان حال الدوقة وزوجها.
‘لقد أعطيتُهما بعض التلميحات… لعلّهما استعدّا بطريقتهما…’
ومع ذلك، ظلّت تشعر بالقلق. فالجميع يظنّون أنّ الملك أقام الحفل لمجرّد أن يرهق الدوقة ويوبّخها علنًا.
‘لكن دوقة غلينترلاند تلك، رغم مظهرها البريء، فهي لاعبةٌ بارعة…’
رفعت يدها تمسح جبينها، إذ بدأ رأسها يؤلمها بمجرد التفكير في ما قد يحدث. والأسوأ من ذلك، تلك الثلوج التي أرسلتها الدوقة.
فقد أرسلت كميّةً هائلة من الثلج مع بعض المثلجات.
ربما كان محض صدفة. فهي أوصت بزيارة محلّ المثلجات، وربما أرسلت ذلك كهديةٍ بالمناسبة. لو أرسلت شيئًا ثمينًا لبدا كالرشوة.
لكن المثلجات والثلج كانا يختفيان بسرعة. صحيح أنّهما من الكماليّات، لكن لا يدومان طويلًا، فلا يُمكن أن يثيرا أحاديث كثيرة.
ما لم تكن تعرفه الدوقة أنّ ذلك الثلج كان أثمن ما تحتاجه المركيزة في ذلك الوقت.
حين تلقّته، شعرت كأنّها ضُربت على رأسها، ومع ذلك شعرت بالارتياح. خصوصًا أنّ الملك سألها صباح اليوم: “ألا ترين أنّ الجو حارٌ هذه الأيام؟” دون أن يقدّم لها كوب ماءٍ بارد!
ظنّت أنّها سددت الدين بإعطائها بعض التلميحات، لكنّها وجدت نفسها مدينًا لها مرّةً أخرى. ولهذا كانت تشعر بقلقٍّ شديد.
“خالتي.”
اقتربت في تلك اللحظة أغات مونفيس، برفقة والدتها الكونتيسة مونفيس، صديقة الماركيزة.
“جئتُ لأعتذر عن ذلك اليوم… أنا آسفةٌ حقًا.”
كانت أغات صادقةً وبريئة، وهذا ما جعل الماركيزة تبتسم. ولشدّة قلقها، اغرورقت عيناها بالدموع عندما رأت ابتسامته.
“أيّها السادة! لنرفع كؤوسنا احتفالًا بالذكرى الثامنة والعشرين لمعاهدة الصداقة بين غلينترلاند وإيفانيس!”
قال الملك بصوتٍ عالٍ من الأمام. فرفع النبلاء كؤوس النبيذ وتبادلوا الأنظار والابتسامات.
***
“شكرًا لكِ يا دوقة. لقد استمتعتُ حقًا بحفل الليلة.”
قالت إيزابيلا غلينترلاند، وقد احمرّت وجنتاها قليلًا، وهي تقترب. كان الحفل في أوجه حينها.
كانت الشمس قد غابت، وأُضيئت الحديقة بمصابيح سحريةٍ جميلة. الأشجار المزدانة بأشرطةٍ زرقاء لامعة كانت تتلألأ تحت الأضواء، مظهرةً ثراء إيفانيس.
كان الناس يتنقّلون بين القاعة والحديقة، يتبادلون الأحاديث، ويضحكون، ويرقصون.
كانت كلوي منهمكةً في حديث مع بعض أعضاء إليونورا حين رأت إيزابيلا، استقبلتها بابتسامةٍ عريضة. وكانت إيزابيلا برفقة الملك، إذ كانا قد رقصا معًا للتوّ داخل القاعة.
أيمكن أن يصدّق أحد؟ ملكٌ عجوز يرقص مع دوقةٍ أجنبية في حفلٍّ دبلوماسي!
لم تستطع كلوي أن تقول: “أأصابهُ الخرف؟” فاكتفت بالابتسام والردّ بأدب.
“يسرّني أنّكِ استمتعتِ بالحفل.”
“حقًا. وأنا ممتنّةٌ لجلالة الملك أيضًا.”
قالت إيزابيلا وهي تشبث بذراع الملك الذي رقص معها قبل قليل. فارتجف فم الملك بابتسامةٍ خبيثة.
“صحيح أنّي فشلتُ في التوفيق بين العرسان كما يفعل الآباء، لكن طالما بقيت صداقة بلدينا إلى الأبد، فذلك يكفيني.”
لم تستطع كلوي أن تقول: “هراء!” فاكتفت بأن أجابت سريعًا:
“أنا مدينةٌ بالفضل لجلالتك، ولا يسعني إلا الامتنان.”
“جيّدٌ أنّكِ تعلمين أنّكِ حقيرة.”
تصدّع وجه كلوي الذي كان متماسكًا بابتسامةٍ زائفة حين سمعت ردّ الملك.
التعليقات لهذا الفصل " 77"