الفصل 62 :
عند تلك الكلمات، أسرع الدوق الجالس أمامها ليغطي فمه بيده.
لم يُعرف هل كان ذلك لأنه وجد الأمر مضحكًا، أم لأن كلام كلوي كان صادمًا للغاية.
لكن بما أنّ السؤال لم يكن يستدعي جوابًا، تابعت كلوي حديثها.
“أيعقل أن يُعامِل دوقٌ زوجتَه المحبوبة كما يُعامَل جنديٌّ مبتدئ لم يمرّ حتى بفترة تدريب؟ أنت جنرال برتبة عميد، ألا تملك ذرّةً من السخاء؟”
قالت ذلك وهي تلوِي طرف فمها، ثم انحنت قليلًا، ومدّت إصبعها لتضغط مرارًا على كتفي الدوق المثبّتة عليها نجوم الرتبة.
“لو أنّ هذه النجوم حصلتَ عليها بفضل دمائك النبيلة فقط، لَما كنتُ لأقول مثل هذا الكلام. أليس كذلك؟”
إنه أسلوبٌ معروف في تقريع الجنود: “يا هذا. أنا أقول هذا حرصًا عليك. كيف وأنت تعرف الأمر جيدًا تتصرّف هكذا؟”
“ماذا؟ هل انزعجت؟ إذًا تنحَّ عنها.”
‘كأنها تقول: إن لم يُعجبك، فطلِّقني.’
رفعت كلوي كتفيها، ولوّحت بيدها اليسرى.
كان الخاتم يلمع تحت أشعة شمس الصباح.
“أأُعيدهُ إليك؟”
في تلك اللحظة، رفع الرجل الذي كان يغطي فمه رأسه لينظر إليها.
ارتعش طرف فمه طويلًا، ثم خرجت كلماته.
“لو كان ذلك ممكنًا، لامتثلتُ منذ زمن لأمر جلالة الملك.”
“يا لهذا… تكلّمتَ بلهجةٍ عاميّة.”
“لقد تجاوزتُ الحدّ. أعتذر، كنتُ أنا الوقح.”
“…..”
“لا تقولي مثل هذا ثانية.”
ما الأمر؟ للحظة شعرت كلوي أنّ نبرته صارت لطيفةً على نحوٍ مبالغٍ فيه.
امتدّت يد كيرتيس فجأةً، وأمسك بذراعها ليجذبها نحوه على غفلة.
لم تجد وقتًا لتقول حتى: “أأأ…”
وسقطت مباشرةً في حضنه.
“آه…”
وحين استعادت وعيّها، وجدت نفسها وقد جلست بين رجليه تمامًا.
يا للعار!
وبينما كانت تحاول غريزيًّا أن تتملّص من بين ذراعي كيرتيس، شدّ الرجل ذراعيه حول ظهرها وهمس في أذنها:
“اثبتي قليلًا. هناك أناسٌ بالفعل.”
حرّكت عينيها سريعًا، فإذا ببعض نوّاب وزير المالية يراقبون المشهد بفضول من وراء أشجار الحديقة.
كانت وجوهًا مألوفةً لديها بحكم نقاشاتهم حول ميزانية الحرس الملكي.
كانت شبه راكعةٍ بين ذراعيه، فتكلّفت تثبيت صوتها وقالت:
“غيّر الوضع قليلًا…”
لكنها سرعان ما ندمت.
إذ تنفّس الرجل باندهاش وهو يهمهم: “آه.”
ثم ما لبث أن نظر إليها في حضنه، ورفعها بجرأةٍ إلى ركبتيه مباشرة.
فوجدت كلوي نفسها أكثر التصاقًا به.
أمّا هي، فكان عقلها قد اختلط تمامًا رغم أنّ جلستها فوق فخذيه كانت ثابتةً ومستقرّة.
‘مجنون! هذا المعتوه! ما الذي يفعله الآن…؟’
“أتظنّ أنّي سأصفح عنك بهذا؟ أتركني فورًا…”
“آسف.”
تجمّدت دون وعيّ، ورفعت رأسها لتنظر إليه.
كان كيرتيس يبتسم.
“جرحتني كلماتكِ قبل قليل، ففعلتُ هذا بدافع الغضب.”
“…ذلك…”
ما الذي يقوله؟ أهو تمثيلٌ ليسمعهم الآخرون؟
لكن صوته لم يكن عاليًا ولا متصنّعًا.
وبينما كانت هي مضطربةً بين ذراعيه، تابع كيرتيس:
“أنتِ على حق. أنا تعهّدتُ دومًا باحترامكٍ، لكنّي غفلت لحظة. غضبكِ طبيعي. لكن أخبريني…”
“…..”
“ألا ترين أنّه خسارة أن تُهدرِي واحدةً من ثلاث فرصٍ بهذه الطريقة؟”
تحرّكت كلوي بقلق، إذ كانت أذناها تحكّها من شدّة القرب.
ربما بسبب همساته التي لامستها، وربما بسبب أولئك النواب الذين لا يزالون يتهامسون من وراء الشجر.
“لدي أخت، ليا، تعرفها جيدًا. دائمًا تقول شيئًا.”
“..…”
“تقول: ‘من يُكثر التقتير، يخسر كل شيء’.”
كتم الرجل ضحكته طويلًا، ثم أخيرًا انفجر بها، وأسند وجهه على كتفها.
ارتبكت كلوي وحاولت التملّص، لكنه ضمّها أكثر وهمس:
“ابقي هادئة.”
“لكن، الآن…”
“لهذا السبب لا أستطيع تركك حتى أمام جلالة الملك.”
كانت كلماته المنخفضة، فمالت كلوي لتنصت رغم نفسها.
وتابع:
“كيف أستطيع أن أُلقي بدوقةٍ تعاندني بهذا الشكل أمام الملك؟ لذلك، سواء كان يونغ التنّين أو فيكتور القائد الأعلى، فلا بد من استخدام كل الأوراق.”
‘أي أنّه إن تركها وشأنها من أجل راحته، فقد يتورّط هو أيضًا في كارثة.’
رمشت كلوي بعينيها وفتحت فمها:
“أ- أما أنا…”
لكن الرجل، وهو ما يزال يضمّها، ضغطها أكثر على فخذه وقال مبتسمًا:
“جلالة الدوقة، المعذرة، إن استمريتِ بالتحرّك هكذا فسأقع في حرجٍ شديد.”
“!”
كانت كلوي في السادسة والعشرين.
لم تدخل علاقةً جديّة من قبل، لكنها لم تكن ساذجة.
ففهمت المعنى فورًا.
“آه! أتركني!”
لكنه لم يُفلتها.
بل شدّها أكثر، حتى لامست شفتاه أذنها من غير قصد.
“أقسم بشيءٍ واحد.”
فجأةً تغيّرت نبرته. بدا مختلفًا.
وأغمضت كلوي عينيها بدهشة.
“مهما فكّرتِ عني، فلن أقدّمكِ لأخي كفريسة. إن وصلت الأمور لذلك، فكما قلتِ أنتِ، الذهاب إلى غلينترلاند أفضل.”
“..…”
“هل فهمتِ؟”
الغريب أنّ كلماته بدت كأنها تسبح بينهما بلا هدف، كما لو أنه لا يوجّهها إليها وحدها.
“آه…”
وبينما كانت تحدّق، التقت عيناها بنواب الوزير المتطفّلين من وراء الأشجار.
‘أجل، إذًا هذا كلّه من أجل أن يُسمعهم…’
فمدّت يدها بحذر، ولفّت ذراعيها حول عنقه.
“!”
توقف الرجل عند إحساسه بها تشدّه.
وهمست هي بخفوت:
“يسرّني أنّ العميد قد فهم كلمات الدوقة.”
“.…”
ارتجّ جسده قليلًا وهو يضحك بصوتٍ مكتوم.
فشدّت أصابعها الملتفّة خلف رقبته أكثر وهمست:
“ما العمل الآن؟ لا يزالون يراقبون.”
شعرت بحركة وجهه ملاصقًا لأذنها، لم تعلم أكان يبتسم أم لا.
ويا للعجب… قبل لحظاتٍ كانت تلعنه سرًّا بأقذر الألفاظ، أمّا الآن فقد أحسّت لوهلة أنّه من حسن حظها أن يكونا متعانقَين.
فحين يتعانقان، لا يستطيع أيٌّ منهما رؤية ملامح الآخر.
لكن كيرتيس شان بيرك لم يكن رجلًا يرضى بما تريد.
إذ حرّر يدًا واحدة ورفعها لينظر إليها مباشرةً.
“!”
‘هل يريد فقط أن يذكّرها كم هو رئيسٌ مزعج؟’
فشدّت كلوي ذراعيها حوله ثانية، لكنها ارتبكت وسرعان ما أفلتته.
نظر إليها بفضول، ثم قرّب وجهه حتى لامسها وهمس:
“ما رأيكِ يا جلالة الدوقة؟ أترضين إن ركع عميدٌ تافه كهذا أمامكِ كنوعٍ من فحص الانضباط؟”
“…في حديقة وزارة المالية؟”
“هممم. قد تكون طريقةً ممتازة لنشر شائعةٍ أنّ العميد بيرك قد جنّ بحب دوقته الجديدة.”
“فعلاً تبدو مجنونًا. جلالة العميد، هل تدرك أنّ ثيابك تلطّخت بالطين الآن؟”
أخفضت رأسها، محاوِلة إخفاء وجهها المتورّد، وتنهدت.
ضحك الرجل مكتومًا وهو يراها.
لم يكن بين شفاههما سوى بُعد مفصل إصبع.
مع كل كلمةٍ تنطقها، كان نفسها الحارّ يلامس شفتيه.
فشعر وكأن الزمن يبطؤ.
هي لم تكن تعي الأمر، لكن كيرتيس أدرك أنّ هذه اللحظات وهو يعانقها غريبةٌ ومدهشة.
لم يقف بهذا القرب من أحدٍ قطّ… سوى والدته.
حتى الغبار الذي لطّخ ملابسه كان أمرًا لا يُحتمل في العادة.
وأيّامًا أخرى كان ليدفعها بعيدًا فورًا.
لكنه الآن… كان محض اندفاع.
‘عميد.’
في البداية ضحك لمّا خاطبته بتلك الرتبة.
‘آه، صحيح. هناك بندٌ في العقد يسمح بذلك. فلِم لا نجرّب؟’
لكن فجأة…
‘عميد. هل تحبّني؟’
ارتجّت أعماقه بشيءٍ غريب لم يشعر به من قبل.
كل كلمةٍ أخرى كانت تقولها جعلته يخفض رأسه بشدّة.
وربما ظنّت أنّه أسقطه تعبًا، لكنه كان يقاوم ألّا ينظر إلى أسفل جسده.
لم يفهم الوضع.
بل أوشك أن يظنّ أنّه كان يبتعد عن النساء طيلة عمره لأنه ربما… كان مازوخيًّا؟
لكن سرعان ما نفى الفكرة.
يكفي أنّ كلمتها: ‘أأعيدهُ إليك؟’
كادت تُفجّره من الداخل.
إذًا، المسألة أنّه فقط…
غير معتاد.
ولهذا شعر هكذا.
ففكّر: ‘حين أعتاد الأمر، سيزول.’
ولهذا جذب كلوي ليضمّها إليه.
كلوي لو دافيد بيرك. المرأة التي تحمل الاسم نفسه الذي يحمله هو.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 62"