عندما تعودُ بذّكرياتها، فإنّ الرّجل الّذي يقف الآن أمام عينيها، هو نفسُه المسؤولُ الّذي حاصرَ كلوي إلى أن أوصلها لمرحلة الجنون.
ما حدث بينهما كان عاصفًا إلى حدّ أنّها انشغلت عن التفكير به، لكثرة ما اضطرّا إلى مسايرة بعضهما على الرّغم من عدم توافقهما.
إلى درجة أنّها، وقد فقدت أعصابها، جعلته يركع… بل وانتهى الأمر بالزّواج.
والآن، بعد أن هدأت الأوضاع قليلًا، لم يُدرَ بعد: هل عاد إلى طبيعته؟ أم أنّ الضّغط المتواصل من الملك جعله ينفجر غضبًا؟ أم ربّما ما أثار انزعاجه فجأةً أنّها تتحدّث في الحديقة بغير انقطاع؟
‘من ذا الّذي يعرف ما يدور في رأس هذا الإنسان؟’
المؤسف أنّ كلوي، على الرغم من كونها من البحريّة، لم تدرك بعدُ تمامًا مدى فوضى الانضباط في الحرس، وإن كان بوسعها تخمين ذلك قليلًا.
لذا فـ”كيرتيس شان بيرك” في ذهنها، لم يكن سوى ‘المسؤول الّذي يثور فجأة بلا سبب’، بعكس ما يتصوّره هو عن نفسه.
وفوق ذلك، كان كيرتيس الآن، على غير عادته، قد انقلب مزاجه بكلمةٍ منها، وراح يثور غضبًا.
وهكذا، ففي هذه اللّحظة على الأقلّ، لم يكن كيرتيس شان بيرك سوى التّجسيد الدّقيق لتقييمها فيه، لا أكثر ولا أقلّ.
وفي مثل هذه الأوقات، وبناءً على خبرة الأشهر الثّلاثة الماضية، فالجواب واضح: أن تعتذر وحسب.
هل يُعقَل أن يوبّخها الآن وقد أصبحت دوقة؟
لذلك بادرت كلوي قائلة:
-‘أعتذر. إن أخبرتني بذلك فسأُصلح الأمر.’
لكن ردّه جاء كالصّاعقة:
-‘هل يجب أن أُخبركِ لتعرفي؟’
شيءٌ يثير الجنون حقًّا.
يا صاحب السّمو الدوق.
ألديّ موهبة قراءة الأفكار؟ كيف لي أن أعرف إن لم تقل؟
لو كان جورج مكانه لكانت قد شتمته في الحال، لكن بما أنّه الدّوق فقد تماسكت.
لحسن الحظّ، لم يتصرّف كضابط تحقيقٍ سابق يسألك: “اذكري جميع أخطائك”. بل كرّر ما سبق أن قاله.
“أهذا كلام يُقال أمام الآخرين؟”
‘أيّها المجنون، هذا قلته قبل قليل…’
لكنّها إذ اعترفت بأنّها أخطأت فعلًا، شدّت على أسنانها وردّت:
“…أعتذر. سأُصلح الأمر.”
“…أتمنّى ألّا تكرّري مثل هذا الخطأ بعد الآن.”
نعم، هذا ما كنتُ سأقوله أصلًا. صدقًا. غير أنّ كلوي، وهي واقفةٌ في الحديقة بوضع الانتباه، خطر لها فجأةً:
لكن، يا صاحب السّمو.
أهذا كلامٌ يليق أن تُوجّهه إلى زوجتك الّتي تزوّجتَها عن حبّ؟
في الماضي، كانت ستبتلع جميع كلماتها. فالمكان جيش، وفي الجيش الرّتبة سيّدة الموقف، وكلوي ليست سوى مُساعدة. بينما العميد المجنون الّذي أمامها يحمل نجومًا على كتفيه.
لكن…
“لديّ ما أودّ قوله.”
“…قولي.”
لقد تغيّر الوضع. صار عند كلوي الآن ما هو أعلى شأنًا من النّجوم.
“العميد بيرك.”
اتّسعت عيناه البنفسجيّتان دهشة. تُراه أدرك أنّها كانت ستلحق بـ”العميد بيرك” كلمة “أيّها المجنون” لكنها أمسكت نفسها؟
تظاهرت بالهدوء وسألته:
“هل هذا كلامٌ يليق أن تقوله لي؟”
“…ملازم؟”
ارتبك صوته واضحًا. أمّا هي فوضعت يدها على خاصرتها باستهانة، وطوت ذراعيها بعد أن كانت واقفةً بصرامة.
“لقد اتّفقنا أن يعتبر كيرتيس شان بيرك كلوي أمبرويز أعلى منه مرتبة، وأن يُعاملها بأقصى درجات الاحترام.”
لو لم تكن صادقة لصاح، لكنّه صمت، يحدّق فيها مذهولًا. فبدلًا من انتظار جوابه، نادت اسمه.
“كيرتيس.”
“…..”
“كيرتيس شان بيرك. بخلافك، قد أفتقر للّباقة، لكنّني أملك الحدّ الأدنى من الأصول. لذا لن أطلب منك أن تركع.”
ارتسمت على وجهه الوسيم تنهيدةٌ مشوّشة لا تليق به. لا بدّ أنّه شعر بالحرج. متى في حياته سمع في وسط القصر: “يا عديم الذّوق، لا أصول لك، لكنّني الطيّبة أصفح عنك”؟
“ألم نتّفق أنّك إن طلبتُ شيئًا فعليك أن تُجيب ثلاث مرّاتٍ بلا شرط؟”
حقًّا، كان هناك بندٌ في العقد يقول:
<إذا طالبت كلوي أمبرويز، فعلى كيرتيس شان بيرك أن يلبّي طلبها ثلاث مرّاتٍ أيًّا كان، طيلة مدّة العقد.>
بعد صمتٍ طويل، أومأ كيرتيس بتردّد. عندها أشرقت ابتسامةٌ على وجهها.
“سأستعمل واحدةً اليوم.”
في سنّ الثّامنة عشرة، دخلت كلوي الجيش بدافع راتبه الثّابت، لكن لم يكن الجيش مناسبًا لها من البداية.
فذلك النّظام العمودي جعل حياتها جحيمًا بعد توزيعها على الوحدة أكثر من أيّام التّدريب.
ليالٍ كثيرة كانت تبكي فيها من الظّلم، وأختها ليا تواسيها قائلة:
-‘أعرف أنّكِ عصبيّة يا أختي، لكن تحمّلي قليلًا. إن صبرتِ، سيسعد الجميع. وإن أردتِ الصّراخ من الغضب، فتريّثي، واصبري.’
ثمّ كانت تضيف:
-‘لكن، إن شعرتِ أنّكِ تختنقين، فاتركي الجيش. لا أريد أن تصابي بمرضٍ من كبت الغضب.’
لذلك صبرت. من أجل كلام أخواتها الحنون. وصارت الخدمة أهون قليلًا.
لكنّ الحقيقة أنّها كانت تتحمّل فقط وتُقنع نفسها بأنّها بخير.
أمّا الآن؟ لم تعُد مضطرّةً أن تصبر. فاختارت ألّا تفعل.
لو رأت ليا هذا الموقف، لقالت بدهشة:
‘أتهدرين واحدةً من الفرص الثّلاث على هذا؟ بجدّ؟’
لكنّها كانت ستردّ:
‘وما شأني؟’
“خطوتين إلى الأمام.”
لم تتوقّع أن يذعن كيرتيس بسهولة. لكنّه فاجأها بابتسامةٍ باهتة، واقترب منها بخطوات.
هو رجل لا ينكث عهده، لكن لم يخطر ببالها أن يطيع بهذه السّرعة.
غير أنّها سرعان ما ندمت. طوله الفارع أجبرها أن ترفع رأسها لتنظر إليه.
‘هذا مزعجٌ حقًّا.’
“اجلس هناك أوّلًا.”
أشارت بذقنها نحو مقعدٍ في الحديقة. ضحك بغير تصديق، ثمّ جلس. أمّا هي فوقفت أمامه وذراعاها مطويّتان.
“كنتُ أريد أن أقول منذ زمن: إن كنتَ ستوبّخني، فعلى الأقل لا تُناديني دائمًا بـ’الملازم’.”
“الملازم؟”
“أم تُريدني أن أناديكَ دائمًا بـ’صاحب السّمو الدوق’؟”
حين أعاد الكلمة باندهاش، لم تحتمل وهاجمته بحدّة. وقد استوحت أسلوبها منه تحديدًا.
كانت تقلّد نبرة كيرتيس شان بيرك الباردة المستعلية حين يأمر الآخرين. توقّف لحظة، ثمّ ابتسم بلا وعيّ، كأنّه انبهر.
حقًّا… لولا أنّه سمع لتوّه مَن كانت تُوبَّخ تجرؤ أن تُشير إليه هكذا، لما صدّق.
لكنّها لم تشعر بالغرابة، بل بالارتياح.
فكّرت للحظة بما قد تُطلقه عليه. البدائل الّتي خطرت مكان “صاحب السّمو” كانت:
1. هيه.
2. أنت.
3. أيّها الوغد.
كلّها مغرية، لكنّها قد تجرّ متاعب لاحقة. وكلوي حريصةٌ على حياتها، والعقود لا تحمي دائمًا من تبعات الغضب.
فاختارت الخيار الرّابع:
4. العميد.
وهو الأكثر أمانًا.
“العميد.”
“..…”
“لن تُجيب؟”
“تفضّلي.”
جاء جوابه هادئًا على غير المتوقّع، وإن كان فيه شيءٌ من الضّحك. وهذا أراحها أكثر مِمّا أغضبها.
فلو أنّه نظر إليها بحدّةٍ وقالها بلهجةٍ مخيفة، لكانت قد هرعت تعتذر رغم العقد.
“كم سنةً خدمتَ في الجيش؟”
“…اثنتا عشرة سنة.”
“‘اثنتا عشرة’؟”
“أُصلح قولي. اثنتا عشرة سنة.”
قالها بشفاهٍ مشدودة. استفزّها أكثر. فنظرت إليه بحدّةٍ وسألته:
“وكم مدّة تدريب المجنّد الجديد قبل أن يُوزّع على وحدته؟”
“شهران.”
“ومذ تزوّجتَ بي، كم مضى؟”
“…عشرة أيّام.”
“إذًا يُمكن اعتبارها فترة تدريبٍ، أليس كذلك؟”
“…صحيح.”
خفض كيرتيس بصره، كأنّه أدرك مرادها، أو ربّما يجاملها.
“فترة التّدريب موجودة لأنّ الأخطاء متوقّعة. ألم تتوقّع أن أخطئ؟”
“..…”
“أُقرّ أنّني أخطأت. لكن ألا يكفي أن تُنهي الأمر عند هذا الحدّ؟”
لو عادت إلى الماضي، إلى لحظة كتابة العقد، لصفّقت لنفسها بفرح. “أحسنتِ!”
“توسّلتَ من أجل الزّواج، ثمّ تعنّفني على خطأ واحد؟ أتظنّني سأرضى بحياةٍ زوجيّة على هذا النّحو؟”
التعليقات لهذا الفصل " 61"