الفصل 60 :
المغزى هو هذا.
زواج الاثنين ما هو إلّا نوعٌ من عقد توظيف.
كلوي قد استؤجرت باسم “الدوقة” من أجل سلامة كيرتيس شان بيرك، ولتتحمّل الوحل عوضًا عنه.
كيرتيس قدّمها كدوقةٍ لكي يتفادى كراهية الملك.
في هذا العقد، “الدوقة” تعني درعًا أو خطّ دفاع.
الملك سيكره كلوي بقدر ما يكره كيرتيس.
ولهذا، فمن الطبيعي أن يُصدِر أمرًا لها بإقامة حفلٍّ دبلوماسي، متجاوزًا الماركيز فلاندر أو حتى وليّة العهد.
في الحقيقة، كلوي رأت أنّ المنطق يقتضي أن يُعزلَها كيرتيس من منصبها كمساعدةٍ فور صدور أمر الملك.
صحيح أنّ الملك يكره كيرتيس أكثر، لكنّ كلوي هي الفاعلة الحقيقيّة التي أفسدت خطط الملك.
ومن وجهة نظر كيرتيس، فإنّ إقالة كلوي وتسليمها إلى الملك كـ”عضوٍ جديد في العائلة الملكيّة” من دون أي حمايةٍ عسكريّة سيكون أهون عليه مئة مرّة.
“سيكون أسهل عليك أن تلقي بي طُعمًا لجلالة الملك. أليس هذا ما دفعت لأجله مالًا باهظًا؟”
الكراهية في أصلها أمرٌ يستهلك طاقةً كبيرة.
والجميع يعرف أنّ الملك يميل إلى التركيز على ما أمام عينيه فقط.
ولهذا، فإنّ عيني الملك الغاضب لن تريا الآن سوى كلوي.
وسيتأجّل التعامل مع كيرتيس إلى ما بعد أن ينهش كلوي ويُمزّقها إربًا، وبذلك يستريح.
وكلوي تعرف ذلك. ولم تكن بلا استعداد.
‘كلوي أمبرويز، ما إن تحمل لقب بيرك، تبذل قصارى جهدها للقيام بالواجب المترتّب عليه.’
قبل أن توقّع عقد الزواج، ومنذ لحظة وضعها اسم بيرك بجانب اسمها، حسبت كل الاحتمالات من الواحد إلى المئة لما يمكن أن يصيبها.
ولأنّها لم تكن على درايةٍ كافية بشؤون الأسر الحاكمة، لم تستطع أن تعرف كل شيء.
لكنّها وضعت في الحسبان احتمال أن يُقيلها من منصبها.
الملازم نويل كان قد مزح قائلًا: “من دون كلوي، لن يتمكّن أبدًا من إيجاد مساعدةٍ أخرى.”
لكن في الحقيقة، لم يكن ذلك صحيحًا.
على أيّ حال، منصب “مساعدة العميد بيرك” يُعَدّ خبرةً جيّدة لا تُعتبر سلبيّة.
حتى الأمير فريدريك قال ذلك.
ففي النهاية، هذا جيش.
ولا وسيلة لإجبار أحدٍ على البقاء فيه قسرًا.
“من البداية، أنتَ قد أحضرتني لأكون طُعمًا…”
غير أنّ كلمات كلوي قُطعت بصرامة.
“اصمتي. الناس كُثر. ألا تذكرين عمود المعبد يوم الزفاف؟”
فانصاعت.
وما إن تذكرت كلوي ذلك العمود الذي يسمع كل شيء في المعبد، حتى أطبقت فمها ونظرت نحو كيرتيس.
عينا الرجل البنفسجيتان الجميلتان تجمّدتا هذه المرّة ببرودةٍ مُخيفة على غير عادته.
ظلّ يراقبها، ثم ما إن التقت عيناه بعينيها، حتى أدار رأسه مباشرةً، وتقدّم بخطواتٍ سريعة.
سريعة إلى درجة أنّ كلوي اضطُرّت للركض شبه هرولة كي تلحق به.
‘ما هذا؟ لماذا يغضب؟ هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟’
في صمت، أحدهما يمشي في المقدّمة، والآخر يتبعه.
ولولا أنّ كليهما طويل القامة، لما استطاعت كلوي مواكبة خطواته.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
“آه.”
بسبب إهمال أحد بستانيي القصر، تعثّرت كلوي التي كانت تتبعه بلا انتباه بحجرٍّ في الأرض، فسقطت أرضًا.
“كوواكك” ارتطم جسدها وصدر صوت.
“؟”
عندما استدار كيرتيس في دهشة، كانت هي قد جثت بالفعل على ركبتيها.
زيّها الأزرق تلطّخ بالتراب، وراحت تفحص كفّيها وقد تجرّحت بفعل الاحتكاك.
“ملا…”
كاد يناديه “ملازم” قبل أن تنهض بسرعةٍ وتربّت على ثيابها.
“هؤلاء البستانيّون الأوغاد الكسالى.”
تمتمت هكذا، ومسحت كفّيها على سترتها كأنّ الأمر لا يهمّ.
فأفقدت كيرتيس كلماته.
يده التي كان قد مدّها في لحظةٍ عفويّة بدت بلا معنى الآن.
“أعتذر. لنتابع السير.”
كانت ركبها وساقاها مغطّاةً بالغبار، ومع ذلك قالتها ببساطة كأنَّ شيئًا لم يكن.
فهل يُضحك هذا، أم يُغضب؟
“…هل ترينني نفاية؟”
“نعم؟”
كلمات خرجت منه بلا وعيّ.
وعينيها الزهريّتين تنظران إليه ببراءةٍ واضحة كأنّها تقول “ما هذا الهراء؟”.
شعر كيرتيس كأنّ أحدًا سدّد لكمةً في حلقه.
ما هذا الإحساس؟ يريد أن يتكلّم لكنّ الكلمات تخونه.
وأخيرًا قال بصعوبة:
“…كنتُ أفكّر منذ زمن، إنّكِ قصيرة التفكير يا ملازم.”
جملة باردة.
تجمّدت ملامحها فجأة.
الابتسامة التي كانت ترتسم على شفتيها منذ قليل اختفت كأنّها لم تكن.
“أعتذر.”
خفضت يديها التي كانت تفحص بها كفّها، ثم وقفت في وضع الاستعداد، وقالت:
“إن أمرت، فسأُصلح نفسي.”
“أينبغي أن أُخبركِ لتعرفي؟”
كلماتٌ خرجت مثل سيف، قبل أن يفهم ما يريد أن يقول.
عندها فقط أدرك أنّه غاضب.
لكن لماذا؟
عادت إلى ذهنه كلماتها:
-‘سيكون من الأسهل عليك أن تلقي بي طُعمًا لجلالة الملك. أليس هذا ما دفعت لأجله مالًا باهظًا؟’
لم تكن مخطئة.
لكن قولها بهذا الشكل….
“هل هذا كلامٌ تقولينه أمام الآخرين؟”
“…أعتذر.”
كانت قريبة.
كانت لحظةً فيها يدٌ تُمسك وتترك.
كيرتيس شان بيرك كان ذا حسٍّ مرهف.
بسبب نشأته وسط محاولات الاغتيال منذ صغره، وبسبب بيئة عائلته غير الآمنة، أتقن التنبّه لوجود الآخرين.
كان يعرف أنّ حديقة وزارة الماليّة خاليةٌ من الناس.
وكلوي أيضًا كانت حذرةً بما يكفي.
لذا، فهو يعلم أنّ اعتراضه عليها الآن لا يعد كونه عنادًا.
لكنّه، مع ذلك، أراد أن ينفجر عليها حين سمع كلماتها.
“هل تقول هذا أمام الناس؟”
لا. ليس أمام الناس. بل أمامكِ أنتِ؟
هل أنا نفاية؟
هو يعلم أنّه يستطيع أن يتخلّى عنها متى شاء.
لكنّه لم يفعل. ألا تدرك ذلك؟ فلماذا تقولها هكذا…
…هل تعرف فعلًا؟
“سأُصلح نفسي.”
“…لا أريد أن تكرري مثل هذا الخطأ مجدّدًا.”
ابتلع كل أفكاره وقالها ببرود، ثم استدار.
لقد أفسد الأمر.
هذا لا يُشبهه.
صحيح أنّه صارمٌ ودقيق كقائد، لكنّه لم يكن يومًا مفرطًا في القسوة.
جنود الحرس الملكي كانوا مدلّلين كأزهار الدفيئة.
ولذلك، شدّتهم أحيانًا، وهو ما اعتبره أمرًا طبيعيًّا.
هو لم يُعنّفهم أبدًا بلا سببٍّ وجيه.
…صحيحُ أنّه تعامل مع مساعديه بشكلٍّ مختلف قليلًا.
كان نوعًا من التمرّد على الملك الذي زجّ بهِ في الحرس.
حتى تبديله للمساعدين كان في حدّ ذاته شكلًا من أشكال الاحتجاج.
لكن حتّى بعد كل ذلك…
‘لقد تجاوزتُ الحدّ.’
فهي امرأةٌ أمسكت بضعفٍ له.
صحيح أنّهما تبادلا عقدًا، لكنّ هذا التحالف قد ينكسر كالزجاج إذا أغضبها.
ذلك القلق الذي يضغط على حلقه الآن سببه هذا بالضبط.
لأنّه شعر في نظراتها الجامدة نحوه بعد ذلك بالاستياء والنفور.
وفجأة، وهي واقفةٌ في وضع الاستعداد، قالت كلوي:
“أودّ أن أقول شيئًا.”
“…قولي.”
ظنّ أنّها ستعتذر.
لكنّ الردّ الذي جاءه صدمه.
“عميد بيرك.”
اتّسعت عينا كيرتيس.
وكأنّ شيئًا ما حُذف من كلامها.
“هل هذا ما تقولينه لي؟”
وضعٌ لا يُفهَم.
مساعدته، بل دوقته، تُخاطبه فجأة بلهجةٍ غير مألوفة.
فلم يجد تفسيرًا سوى احتمالٍّ سخيف.
…هل اصطدمت رأسها حين سقطت قبل قليل؟
لكن لا.
فكلوي لم تفقد عقلها.
كلّ ما في الأمر أنّها لم يعجبها أن تقف هكذا في حديقة الوزارة، في وضع الاستعداد العسكري، تتلقّى التوبيخ.
فكّرت في نفسها: ‘ما الذي قلته وكان خطأ؟’
-‘سيكون من الأسهل عليك أن تلقي بي طُعمًا لجلالة الملك. أليس هذا ما دفعت لأجله مالًا باهظًا؟’
أيّ بمعنى:
“لماذا لم تتخلَّ عنّي؟ كان يمكنكَ ذلك. أنا أتقاضى عشرة ملايين سنويًّا، فحتّى لو تخلّيتَ عنّي، لم يكن عيبًا.”
كلماتها كانت تحمل في باطنها شيئًا من الشكر أيضًا.
كأنّها تقول: “لم يكن لازمًا، ومع ذلك لم تفعل. شكرًا.”
صحيح أنّها كانت غير حذرة، ولهذا التزمت الصمت بعد ذلك.
هو نفسه حذّرها يوم الزفاف من أنّ للمكان آذانًا تسمع.
وقصر الملك مشابهٌ للمعبد.
وحديقة الوزارة أمام القصر مباشرة.
سقوطها كان محرجًا، لكن لا بأس.
فهو خطأ البستانيين، لا خطؤها.
لكن ما أزعجه فعلًا هو أنّه سألها:
-‘هل ترينني نفاية؟’
وكأنّه يقول لها: ألا تعرفين؟
لو كانت صادقة لقالت:
“أعتذر، سيدي العميد العزيز، لكن قبل الزواج كنتُ أدعوك بالمجنون دائمًا. وبين المجنون والنفاية، لعلّ المجنون أقلّ ضررًا.”
هي نفسها لم تعرف لماذا انقلب مزاجه فجأة.
أن يوبّخها على قلّة حذرها مفهوم.
لكن أن يسألها: “هل ترينني نفاية؟” فما جواب ذلك؟
كانت تفكّر في كيفيّة الردّ، فإذا به يرميها بكلمةٍ أخرى:
-‘كنتُ أفكّر منذ زمن، إنّكِ قصيرة التفكير يا ملازم.’
في هذه اللحظة، حتى كلوي، مهما بلغت صبرها، لم تتمالك نفسها.
وتذكّرت فجأة الحقيقة التي نسيتها بفضل هدوء الأيام الأخيرة:
‘آه نعم، هذا الرجل… كان مجنونًا منذ البداية.’
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
أنستا: fofolata1 ✿
التعليقات لهذا الفصل " 60"