إذن، الأمر هكذا. أن يقوم الناس بربط صديقين فقط لأن جنسهما مختلف، كان أمرًا يحدث كثيرًا في الجيش. وكلّما تعرّضت كلوي لتلك المزاح الطفولي، كانت تُبدي دومًا نفس ردّة الفعل.
“صحيح أنّي بعد أن التحقتُ بالحرس الملكي صرتُ قريبةً من الملازم دوبوا. لكن إن كان مجرّد القرب من شخصٍ يعني أن يُساء الظن بي بتلك الطريقة، فسيكون ذلك مزعجًا حقًا. لديّ أيضًا ما يُسمّى بالذوق.”
قالت ذلك، ثمّ أرسلت كلوي نظرةً خاطفة نحو إيزرا. كان إيزرا يُريد أن يقول شيئًا، لكن فمه راح ينفتح ويُغلق من دون أن يستطيع التفوّه بكلمة. أجل، بطبيعة الحال. اللعين هو من تذرّع بكونها “صاحبة السموّ الدوقة برك” ليفرض مسافةً بينهما. فكيف له الآن أن يقول: “هيه! وأنا أيضًا لا أُعجبُ بكِ!”؟
“ليس شكًّا فيكِ، وإنما…!”
“ثانية.”
تدخّلت أغات محاولةً أن تردّ بشيء، لكن كلوي قطعت كلامها على الفور وتقدّمت نحوها خطوتين. في لحظة، ضاقَت المسافة بين الاثنتين، فرفعت أغات رأسها لتنظر إلى كلوي الطويلة، ولم تستطع إخفاء ارتباكها.
كان رأس أغات الصغيرة لا يصل إلاّ إلى طرف ذقن كلوي تقريبًا. عن قرب، بدا أنّ ملامحها ما تزال مراهقةً تمامًا. عشرون عامًا؟ إحدى وعشرون؟ أم لعلّها حتى لم تبلغ العشرين بعد.
وبالطبع، لا يحقّ لها وهي في الرابعة والعشرين أن تصف غيرها بأنّها صغيرة.
غير أنّها حين اقتربت منها أكثر، لم تعد راغبة في أن تتصرّف معها بتسلّط. ليس لأنّ كلوي طيّبة، بل لأنّ وجنتَي أغات المستديرتَين كانتا طفوليّتَين إلى حدٍّ يبعث على الشفقة.
‘إنّها صغيرةٌ جدًّا… يبدو وكأنّي أتنمّر عليها.’
صحيح أنّ أسلوبها الطفولي، وكلماتها الساخرة المباشرة في وجهها، كانت أمورًا مزعجة. لكن الغريب أنّ كلوي لم تشعر بانزعاجٍ كبير منها. فهي تعلم أنّ أكثر ما يُغضب الإنسان عادة، هو ما يُقال عنه من وراء ظهره. وكان هذا درسًا تعلمته منذ أن التحقت بالجيش في سنٍّ صغيرة.
ومع ذلك، لم يكن في وسعها أن تتركها وشأنها.
“أعرف أنّكِ لا تُحبّينني، يا آنسة، لكن حتى عندما كنتُ ‘أمبرويز’ كنتُ ملازمًا، وما زلتُ لم أُحِلْ إلى التقاعد بعد.”
“…أنا في إجازةٍ الآن، أتعلمين؟”
قالت أغات ذلك وهي تنظر إليها بغضب، ووجنتاها متورّدتان. ابتسمت كلوي. في إجازةٍ، إذًا.
“أيّ أنّكِ الآن لستِ سوى آنسةٍ من عائلة مونفيس.”
“نعم! …آه.”
وحالما لفظت أغات مونفيس تلك الكلمات، تجمّد وجهها وقد أدركت أنّها وقعت في الخطأ. وكان هذا بالضبط ما أرادته كلوي.
بطبيعة الحال، من يسمع هذا الحوار من الخارج سيعتبره كلامًا فارغًا بلا معنى.
لكن في الحقيقة، كان هذا جزءًا من الثقافة العسكريّة الفوضويّة في الحرس الملكي، حيث تختلط الانضباطات بالقواعد الأرستقراطيّة.
“الجنود في إجازة لا تُطبّق عليهم رتبهم داخل الحرس. لكن يبدو أنّكِ نسيتِ أنّي منذ البارحة صرتُ دوقة برك.”
ولكي يُفهم هذا الحديث، ينبغي شرح نظام الطبقات الصارم في إيفانيس. فالسبب الذي جعل كيرتيس يتزوّج من كلوي، أنّ أفراد الأسر الحاكمة إذا تزوّجوا من عوام، فحتى مكانتهم تنخفض وفق القواعد المتحجّرة.
فهل كان أبناء النبلاء الذين لا يحملون لقبًا مُعرّضين يومًا لأن يصبحوا عوامًا؟ نعم.
لكن بما أنّهم يطمحون للبقاء نبلاء، كانوا يتّجهون غالبًا نحو الحرس الملكي. صحيح أنّ رتبة الحرس مؤقّتة، لكنّها تمنحهم لقب فارس بسبب دورهم في حماية العائلة الملكيّة.
غير أنّ هذا الوضع سبب تصادُمًا مع ثقافة الجيش القائمة على الرتبة والانضباط. يكفي أن ننظر إلى علاقة القائد الأعلى فيكتور وكيرتيس. فالأوّل يُلقّب بـ”كونت داسيبك”، فيما كيرتيس أدنى منه رتبةً عسكريّة، لكنّه دوقٌ بالولادة.
في مثل تلك المواقف، تصبح الأمور معقّدةً للغاية، إذ إنّ الانضباط والسيادة في الجيش تُعتبر الأهمّ، خصوصًا في الحرس الذي يحمي العائلة الملكيّة.
في النهاية، حُلّ الأمر باعتبار أنّ كل شيء يتحدّد وفق كون الفرد في الخدمة أم في الإجازة. فالجنود في الخدمة يتّبعون أوامر رؤسائهم، أما في الإجازة فيتصرفون بحسب مكانتهم الاجتماعيّة.
وبطبيعة الحال، كان من الحكمة احترام الرؤساء حتّى في الخارج، كما فعل كيرتيس مع القائد الأعلى فيكتور. لكن لم يكن الجميع كذلك، إذ كثيرًا ما جعل نفوذ العائلات بعض الرؤساء عاجزين عن رفع صوتهم على مرؤوسيهم.
كانت كلوي حين دخلت الحرس من البحرية مذهولةً من هذا الوضع. لكنها اعتادت مع الوقت.
بكلمة واحدة: الانضباط في الحرس كان فوضى.
‘حين أفكّر بهذا، أستطيع أن أفهم قليلًا ذلك الرجل….’
تساءلت كيف بدا الحرس في عيني كيرتيس شان برك، الذي جاء من الجبهة الأماميّة.
لكن، ليس من العدل أن تُبرّره كليًّا. فما عليها الآن سوى التعامل مع أغات. ابتسمت كلوي.
“إذن يا آنسة مونفيس. هل تفضّلين أن أعاملكِ كعريف، أم كإبنة الكونت مونفيس؟”
وأيًّا يكن، فمكانة كلوي أعلى منها بكثير. فاحمرّ وجه أغات أكثر.
“مَن قال إنّي أعترف بكِ كالدوقة بيرك؟”
“لا أدري. كيرتيس، ربّما؟”
قالت كلوي ذلك وهي تتظاهر بملل وتحكّ أنفها. سواء اعترفت أم لم تعترف، ما دام كيرتيس شان بيرك يعترف بها، فهي الدوقة بيرك.
غدا وجه أغات شاحبًا.
“أيُّ ذوق هذا…”
“مؤسف أنَّ امرأةً بلا ذوق كهذه هي الدوقة بيرك. وهذا أمرٌ تقرّر سواء شئتِ أم أبيتِ، كما تعلمين.”
تقدّمت كلوي خطوةً أخرى. تراجعت أغات خطوتين، واصطدمت بالحائط من دون أن تنتبه.
“أنتِ لستِ من عائلة بيرك، ولا من عائلة إيفانيس.”
الملك نفسه ثار غيظًا من زواجها، ورفض الحضور. لكن مع ذلك، لم يستطع أن يُنكر أنّها صارت دوقة. فالملك اعترف، وكيرتيس شان بيرك اختارها. فماذا عساها أغات تفعل؟
مدّت كلوي يدها وأسندتها بجانب كتف أغات على الجدار. غطّى ظلّها وجه أغات المرتبك، لكن كلوي مالت قليلًا واقتربت منها.
“على أيِّ حال… أوه.”
وبينما كانت على وشك أن تقول شيئًا آخر، لاحظت أنّ طرف عيني أغات متورّم واحمرّ. من بعيد ظنّت أنّه مكياج، لكن عن قرب رأت بوضوح أنّها كانت تبكي. كثيرًا.
احتجّت أغات وحاولت إدارة وجهها بعيدًا، لكن ذلك جعل الدموع الباقية أوضح. كان من الواضح أنّ عينيها الجميلتين قد تورّمتا.
“بسبب الدوق؟”
“وما شأنكِ…”
صوتها كان أضعف بكثير هذه المرة، ووجنتاها تلوّنتا بأحمر وأزرق متناوب.
يا للسماء. لم تستطع كلوي كبح تنهيدة. إذًا لقد بكت حتى الانتفاخ بسبب خبر زواج كيرتيس شان بيرك.
“تحبّينه إلى هذا الحدّ؟”
تفاجأت من نفسها وهي تنطق بالسؤال. وأدركت فورًا أنّها ارتكبت خطأ. وكما توقّعت، رفعت أغات عينيها متّسعتَين غاضبتَين.
“أتسخرين منّي الآن؟”
لم تكن تقصد السخرية، لكن خرج كلامها كذلك. لم يكن في وسعها أن تقول: “أنا حقًا لا أرى ما يُعجبكِ فيه. وأنتِ في الحرس أيضًا، ألم تتعرّضي للعقاب؟ أما راودكِ شعور بأن تضربيه بعد ذلك؟” لحسن الحظ أنّها لم تقل ذلك.
زفرت كلوي.
كان يُراودها شعورٌ بأن تقول: “إذن، ما دام يعجبكِ لهذه الدرجة، كان الأجدر به أن يتزوّجكِ.” لكن كيرتيس شان بيرك لم يكن موجودًا ليُجيب.
فكّرت للحظة ثمّ قالت جملةً عشوائيّة.
“دموعكِ أغلى من هذا.”
“….”
أوه. ربما لم يكن عليها أن تقول هذا. وجه أغات اشتعل حُمرةً من أذنيها حتى خدّيها، وظهرت ملامح الغضب على محيّاها. لكن فات الأوان. قرّرت كلوي أن تُنهي الحوار قبل أن يتفاقم الموقف.
“على كلّ حال، ما أردتُ قوله أنّ السيدة باسيلور تبدو في مأزق، فلنتركها وشأنها ونمضي.”
“…ولِمَ أنا؟”
“إذن اخرجي إن شئتِ.”
سحبت كلوي يدها عن الجدار وصفّقت بيديها ثمّ استدارت. كانت أغات لا تزال تحدّق بها شزرًا، لكن بدا أنّها فقدت الكثير من حماستها، ولن تثير شجارًا آخر.
لقد صارت كلوي بارعة في التعامل مع مثل هذه المواقف. فالأشهر الثلاثة التي قضتها تحت إمرة كيرتيس شان برك لم تكن سهلة. تفاوضت مع فرق فقيرة الميزانيّة، وخاضت صراعات. وهذا منحها خبرةً في قراءة الوجوه ومعرفة متى سيغضب الآخر.
“لكن لماذا عليّ…!”
“لقد قلتِ بنفسك قبل قليل: أأنا أهمّ منكِ يا آنسة مونفيس؟”
كانت تلك كلمات أغات مونفيس المتعجرفة.
“أنا لا أعتقد أنّ أهميّة الناس تُقاس فقط بالرتبة، لكن بما أنّكِ تؤمنين بذلك، فسأُعاملكِ وفق منطقكِ. وبحسب منطقكِ، أنا أهمّ.”
“ها…”
توقّفت أغات لحظة وقد بدا عليها الشرود، ثمّ ابتسمت ابتسامةً ملتوية.
“ومع ذلك، يبدو أنّكِ لا تُحيطين نفسكِ سوى بأشخاصٍ رخيصين.”
رمشت كلوي بدهشةٍ. ما هذا؟ هل لم تفهم كلامها؟
***
في الطابق الثاني من متجر باسيلور، حيث كان النزاع دائرًا.
لكي نفهم سبب ثقة أغات مونفيس المفاجئة، علينا أن نعلم أنّ الضيف غير المرغوب فيه لم يكن واحدًا فقط. فهي لم تكن تجهل وجود كلوي. لكنّها جاءت برفقة شخصٍ تعتبره “أهمّ”، ليس فقط بمعاييرها.
“أعتذر. ليس من اللائق أن نبقى هنا فيما غيرنا استأجر المكان كاملًا.”
قالت ماركيزة فلاندر وهي تنقر لسانها، بينما انحنى كاميّو أمامها بأدب.
“بل على العكس. منذ زمن طويل وأنتم من عملائنا الأوفياء، سيدتي الماركيزة.”
“لكن الوفاء لا يُبرّر الوقاحة.”
تجمّدت ملامح المركيزة. فقد قاطعه صوتٌ ثالث غير متوقّع.
“كيرتيس.”
“بالطبع، لم أقصدكِ بكلامي، سيدتي الماركيزة.”
وكان من أجاب شخصًا لم يتخيّل أحدٌ أن يراه هنا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 46"