الفصل 11 :
لو كان كيرتيس في حالتهِ المعتادة، لكان قد قضى على كلوي فورًا وأنهى الأمر.
لكنّه كان الرجل الذي قاد هدنةً بين الممالك الثلاث. وهَذا يعني أنّه شخصٌ يُمكنه التفكير بلا توقف مِن أجل هدفه، وقادرٌ على التحمّل والصبر.
أنْ يتخلّص مِن كلوي في هَذا الموقف لمُجرّد أنّهُ غاضب؟ ذَلك أمرٌ لا يُغتفر. لأنّ التخلّي عنها يعني أنَّ عليه أنْ يتوجّه إلى غلينتراند، الأمر الذي كان يتجنّبه بشدّة طوال الفترة الماضية.
لذَلك حاول الحفاظ على هدوئه وسألها مجددًا:
“جيّد. لا يُمكنني إنكار أنّكِ أمسكتِ نقطة ضعفٍ ضدي في هَذهِ اللّعبة الآن.”
“شكرًا جزيلًا.”
“لم يكن ذَلك مدحًا. سأطرح سؤالًا واحدًا فقط. ما الذي ستجنينهُ مِن هَذا؟”
المال، الشرف، أو غير ذَلك… لماذا تتعمّدتِ إثارة غضبهِ إذا لم يكُن هناك ما تستفيدينه مِن ذلك؟
حاول كيرتيس التكلّم بأكبر قدرٍ مُمكن من البرود، لكن لم يستطع منع نبرة التهديد مِن التسرّب إلى صوته. وشعرت كلوي بذَلك، ولهَذا سكتت طويلًا وهي تختار كلماتها بعناية. ثمّ فتحت فمها أخيرًا:
“أوّلًا، أظنّ أنّه سيكون مُمتعًا بعض الشيء.”
“ممتع؟ ما الذي تقصدينه؟”
“مثلًا، الإحساس بالرضا عندما يُعاقب المرؤوس قائده، بدلًا مِن أنْ يُعاقبه القائد على الدوام باسم المسؤولية المشتركة.”
انقطع كلام كيرتيس فجأةً.
“أو ربّما شعور الانتقام، حين يُجبر الشخص على مرافقة قائده في وليمةٍ خلال إجازته، ثم يُصبِح مكروهًا مِن قِبل جلالة الملك هناك دوّن سبب.”
كان الموقف بأكمله سخيفًا لدرجة أنّهُ ضحك ساخرًا. أتفعل كلّ هَذا من أجل شيءٍ تافه؟
لكن كلوي لم تُفوّت التعبير الذي مرّ بلحظةٍ على وجه كيرتيس.
“هل تظنّ أنني أفعل كل هَذا من أجل ‘شيءٍ تافه’؟”
كيرتيس ردّ مباشرةً بنبرةٍ حادّة.
“وهل هَذا خطأ؟ أعلم أنّكِ خدمتِ في الجيش لفترةٍ طويلة، يا ملازم أمبرويز. ألا تعرفين معنى ‘الأوامر فوق كلّ شيء’؟ إنْ كان لديكِ اعتراض على العقوبة، فكيف أمضيتِ حياتكِ العسكريّة؟”
“بل أنا مَن يريد أنْ يسألك، يا سيادة العميد.”
“تسأليني؟ عن ماذا؟”
“عن الأوامر والانضباط. في هَذهِ اللحظة، مَن الأعلى رتبةً بيني وبين سيادتكَ؟”
بمُجرّد أنْ طرحت على كيرتيس سؤالها، نهضت كلوي مِن مكانها واقتربت منه وهي تعقد ذراعيها. كيرتيس ارتجف لا إراديًّا.
فلطالما كانت تُخفض رأسها أمامه وتُجيب بـ ‘نعم’، لذا نادرًا ما رأى عينيها الزهريّتين مُباشرةً، والآن ها هما تتّقدان بحرارةٍ غريبة وتنظران إليّه بثبات.
“صحيح أنَّ الرتبة الأعلى هي لسيادتكَ، ولكن يبدو أنكَ لا تعرف ما معنى الزواج.”
حاول كيرتيس التراجع إلى الخلف، لكن دوّن جدوى.
“ما الذي تعنينه؟ هل تعتقدين أنني إنْ تزوّجتكِ سأصبحُ تابعًا لكِ؟”
“طبعًا، قانون المملكة ينصّ على أنَّ الزوجين متساويان.”
تراجعت كلوي بهدوء وجلست مُجددًا على الأريكة، ثمّ رفعت يديها وكأنّها تُمثّل كفّتي ميزان.
“كنتُ قد ذكرت سابقًا أنّه مِن الأفضل خلال المفاوضات أنْ يتمّ توضيح التفاصيل والمُقابل المطلوب، لكن هناك ما هو أهمّ مِن ذلك.”
“…..”
“أن تُقدّمي عرضًا يأخذ موقف الطرف الآخر بعين الاعتبار.”
كيرتيس الذي بالكاد استعاد هدوءه تنحنح بصوتٍ خافت. كلوي انتظرت حتى جلس على الأريكة المقابلة، ثم تابعت كلامها.
“ما ستطلبه مني هو أنْ أكون زوجتك الاسميّة، وأتلقّى بنفسي هجمات جلالة الملك. وأنتَ في المقابل ستُقدّم التعويض المناسب.”
“…وماذا في ذَلك؟”
“لكن، أليس مِن الطبيعي ألّا يتمّ تجاهل عائلتي؟ فالزواج هو اتحادٌ بين العائلتين.”
توقّف كيرتيس فجأةً عن الحركة. كلوي لمحت ذَلك في عينيه وتابعت حديثها.
“بما أنّني أرى أنّكَ فهمت ما أعنيه، اسمح لي أنْ أسأل. هل ستقوم بتوظيف عائلتي كلّها وتقديم التعويض لهم أيضًا في إطار هَذا الزواج؟”
وبالطبع لم تكُن تقصد حرفيًّا توظيف عائلتها.
وكيرتيس فهم ذَلك أيضًا.
لقد تساءل سابقًا: لماذا ظلّ يتجاهل كلوي رغم أنّه فكّر بها منذ البداية؟
ذَلك لأنّ مكانة عائلة أمبرويز كانت منخفضةً جدًّا.
لقد خرج بالفعل مِن عين الملك. وإذا تزوّجها الآن، فعدد مَن سيسخر منه سيكون أكبر مئة ضعف مِن الذين سخروا مِن الدوق بيرك. هو لَمْ يُرِد أنْ يُذلّ أكثر بعد أنْ تمّ نفيه.
لكن مِن زاويةٍ أخرى، ما يجب عليه تحمّله ليس سوى السخرية.
بينما ما يجب على عائلة أمبرويز تحمّله، لا يُقارن.
إذا أصبحت كلوي أمبرويز، البحّارة السابقة، هي كلوي شان بيرك، فستُغرق موجةٌ هائلة عائلة أمبرويز.
القيل والقال، الأنظار، الدعوات، الهمسات… كلّ ذَلك ليس سوى قمّة جبل الجليد.
“للعلم، لديّ ثلاث إخوةٍ صغار، لَمْ يتزوّجوا بعد ولَمْ يُكملوا دراستهم حتّى.”
“…..”
وليس هَذا فقط. سيكونون هدفًا لكلّ الشرور المحتملة.
مِن الطبيعي أنْ يغضب الملك منهم. وعائلتهم لا تملك سوى لقب بارون مِن الدرجة الأولى، ورغم أنّه لقب وراثي، إلّا أنَّ العائلة فقيرة وعديمة الوجود أصلًا. أنْ يتحوّلوا فجأةً إلى مركز الأنظار في المجتمع الأرستقراطي لَن يكون أمرًا مفرحًا أبدًا. بل أقرب إلى الكارثة.
كان ذَلك ثغرةً لَمْ يُدركها كيرتيس مُسبقًا. كما كانت غلطةً مِن صبي في مكان عالٍ للغاية، فعاش عمره ينظر إلى الأسفل دوّن أنْ يتعلم كيف ينظر إلى مَن هم تحته.
“هل تذكُر أنّني أخبرتكَ اليوم بعد الظهر بأنّني لا أملك فستانًا لحفل المساء؟”
“…أجل، أذكر.”
“ليست مسألة مال. إخوتي لا يعرفون حتّى كيف يُحيّون النبلاء الكبار. مثل هَذا البيت لا يرى نبلاء كبارًا، ولا يحتاج إلى ذَلك أصلاً.”
تنهّد كيرتيس تنهيدةً خافتة، فيما واصلت كلوي كلامها بنبرةٍ واضحة وثابتة.
“لقد التحقتُ بالجيش في سن الثامنة عشرة بسبب المرتب الشهري الثابت. أردتُ أنْ أؤمّن نفقات الدراسة لأخي الأكبر، وكان هدفي أنْ أزوّج شقيقتَيّ إلى عائلات لا بأس بها.”
“…..”
“أصبحتُ مساعدتكَ يا صاحب السعادة، لأنّ أختي الثانية أرادت أنْ تكمل دراستها.”
كلوي أمبرويز كانت ربّة الأسرة في عائلة بارون مِن الدرجة الأولى. اللقب وراثي، لكنّه بلا أرض، ولا قيمة فعلية له. وفي مثل تلكَ العوائل، يختار الأبناء الدراسة لا الملابس الفاخرة أو آداب المجاملات.
“أنْ أتزوّج بكَ زواجًا صوريًّا، لا يعني فقط أنني سأكسب الكثير مِن المال. بل يعني أنني، مع إخوتي الذين لَمْ يعرفوا سوى الدراسة، سأبدأ مغامرةً لَمْ أكُن لأتخيلها في حياتي.”
كيرتيس كان يعلم ذَلك مِن الملفات.
لكن أنْ تقرأ شيئًا على الورق، ليس كما أنْ تسمعه مِن صاحبه.
“لأكون صادقة، حتى لو أعطيتني الكثير مِن المال، فأنا لا أرغب في هَذا أصلًا. لكن بسبب ما فعلتَه اليوم، صار الزواج منكَ أمرًا لا مفرّ منه بغضّ النظر عن رغبتي.”
“…سأبذل جهدي لحماية عائلتكِ مِن أيِّ شيءٍ قد يُهددهم.”
هزّت كلوي رأسها نافية.
“أكرر للمرة الثانية، يا صاحب السعادة، أنتَ مَن تطلبُ منّي هًذا الزواج. وأنا أطلب ما هو أكثر مِن مجرّد اهتمام.”
“مثل ماذا؟”
“…على الأقل، أريد أنْ يكون واضحًا تمامًا أنّني الطرف الأعلى في هَذا الزواج، لا… في هَذا العقد.”
“الطرف الأعلى؟”
“ربّما لو تذكّرتَ أنّني تحمّلتُ العمل الشاق بجانبكَ ليس لأنني أهتم بكَ، لَفهمتَ الأمر جيدًا.”
أحيانًا، هناك حاجةٌ لطرح أسئلةٍ غبية. لذا تنهد كيرتيس.
“لا تقصدين أنْ أُرقّيكِ رتبةً، صحيح؟”
بالطبع، كلوي لم تعتقد أنّه قال هَذا لجهله بالأمر.
“لأكون أعلى منكَ رسميًّا، عليّ أنْ أتولّى العرش بنفسي.”
“…جميل، تصريحٌ ممتاز يُعلّقكِ مع إخوتكِ على أعواد المشانق…”
كان وجه كيرتيس يملؤهُ الإرهاق وهو يفرك جبينه المتجعّد.
فما المقصود مِن كل هَذا الإلحاح؟
“إذًا، ما تقصدينه أنّكِ، بصفتكِ طرفًا أعلى، تريدين أنْ أُظهِر ذَلك عمليًّا؟”
“…بالضبط.”
كان منطقها واضحًا، حتى إنَّ عقل كيرتيس صفا فجأة.
رجل لَمْ ينحنِ قطّ لأحد سوى الملك، يطلب مِن امرأة أنْ تتزوّجه، دوّن أنْ يعرف حتى ما الذي يجبُ أنْ تتحمله هي.
فقرّرت المرأة أنْ تصفعه بالدواء القاسي: الأفعال أبلغ مِن الأقوال.
لَن تكفيه الكلمات الغامضة أو الوعود الخفيفة.
لأنّ ما ستضحي بهٍ في هَذا الزواج، أمورٌ لا تُعوَّض حتى بعد عمرٍ كامل: السمعة، سلام عائلتها، وغير ذَلك…
أما كيرتيس؟ ما الثمن الذي عرضه؟
المال؟ هو يملك أكثر منهُ بكثير.
لذا، المال لا يُعدّ ثمنًا. بل مُجرّد شرطٍ جانبي.
بالتالي، أقلّ ما يُمكن أنْ تطلبه هو أنْ يُظهر خضوعه لها، أنْ ينزل مِن سُلّمه العالي ليُصبح تابعًا لها.
‘سأقبل طلبكَ، فلتُقسِم لي بأفعالكَ لا بكلامكِ.’
‘ما سأخسرهُ في هَذا الزواج، ستُثبِت لي أنّكَ مستعدٌ أنْ تخسرهُ بدورك.’
قبل لحظات، كان يظنّ أنَّ مساعدته قد جُنّت، لكنّ تفسير كلوي أزال كل شك.
بل إنَّ شعور الضيق الذي راوده سابقًا، والتساؤلات عن صحتها العقلية، تلاشت كأنها لَمْ تكن.
بل وأكثر مِن ذَلك، راح يُفكّر أنَّ هَذهِ المرأة، بهَذهِ الدقّة في الطرح، قادرةٌ فعلًا على أداء دورها في هَذا الزواج تمامًا كما يرغب.
تمرد؟ هاه… إذا فكّر فيه لي أنّه صفقة، فهو ليس تمردًا بل مجرد بندٍ مِن بنود العقد.
***
‘لقد ارتجلتُ بشكلٍ عبقري لتوّي.’
لقد جُنّت للحظة حقًّا. تحدّثت عن الركوع بدافع الانتقام مِن الدوق، لكنّها تجاوزت الحدّ كثيرًا.
*الفصول متقدمة على قناة التيلجرام*
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"