كانت سيّدات جمعية إيلينورا، على خلاف ما قد يخطر بالبال، لا ينوين مطلقًا المبالغة في مضايقة كلوي.
وفي النهاية، مدّت إحدى السيّدات يد العون إلى كلوي التي كانت تتلعثم، بطريقةٍ طبيعية تمامًا.
“أترين أنّ ما في الواقع مختلفٌ عمّا يظهر في رسوم الصحف؟”
“آه، ن-نعم!”
أجابت كلوي بسرعة وكأن تلك اليد حبلُ نجاة، ثمّ قالت بخدّين محمرّين بصعوبة بالغة:
“ربّما… ربّما سُحِرتُ بوجهه إلى حدٍّ ما، لا، هذا التعبير غريب قليلًا… في البداية بدا حازمًا بعض الشيء فشعرت بالتوتّر.”
لقد تعبت وهي تحاول الالتفاف على الحقيقة البسيطة: أنّها وقعت في غرام وجه ذاك المجنون. فابتسمت السيّدات بحرارة ووافَقنها.
“هو وسيم إلى حدٍّ مبالغ فيه فعلًا. لا بدّ أنّكِ محظوظة يا صاحبة السمو الدوقة.”
“أجل! بفضل وسامته ضمّ إلى صدره أوّل امرأةٍ وقع في حبّها من النظرة الأولى بكل سهولة!”
ما لا تعرفه كلوي للمرّة الثالثة: أنّ جميع السيّدات اللواتي تحدّثن هكذا كنّ يشتركن معها في الشعور نفسه.
-‘… اشكر والدتكً يا فتى.’
-‘أن تحصل على زوجةٍ بهذا الخُلُق رغم طباعكَ تلك، هذا إنجازٌ فعلاً.’
وكان سبب تفكيرهنّ بهذا الشكل واضحًا للغاية. فالتعبير الذي ارتسم على وجه كيرتيس شان بيرك وهو ينظر من خلف كلوي كان كلّ شيء.
فهو كان واقفًا طوال الوقت خلف زوجته، لذا وحدها كلوي لم تستطع رؤية ملامحه، بينما رآها الجميع.
فقد كانت زاوية شفتي الدوق—الذي تظاهر طوال الجلسة باللامبالاة ويداه خلف ظهره—ترتعش بخفوتٍ شديد منذ لحظة قول الدوقة إنّها “معجبة”… وإلى الآن.
-‘لم أرَ هذا الإنسان عاجزًا عن ضبط ملامحه من قبل…’
-‘يا له من شخصٍ مُستفِز…’
ولو كان ابنًا لأحدهنّ لصفعتهُ على ظهره. كان ذلك رأيًا مشتركًا بين السيّدات الأكبر سنًّا.
وبعد أن فُتِح باب الحديث بقصّة علاقة الدوق بزوجته، تنوّعت المواضيع تنوّعًا كبيرًا.
قصص الأطفال، والموضات الرائجة، وحديث عن إحدى السيّدات القدامى في جمعية إيلينورا… ربّما فعلْن ذلك أيضًا لتجاهل احمرار وجه الدوقة.
“تذكرت الآن، يا صاحب السمو الدوق. هل بلغك خبر مقابلة النقيب ديبروا؟”
كان السؤال عن مقابلة شغلت العاصمة قبل أيام. فأجاب كيرتيس بابتسامةٍ رصينة.
“أنا مشغولٌ بقضاء الوقت مع دوقتي، فدهشتُ حين علمت أنّ أحدهم يقضي وقته في إطلاق الافتراءات.”
فقد أصبحت العاصمة صاخبة بسبب هنري ديبروا، الذي أُقيل بعد أن أساء إلى كلوي وتورّط في حادثةٍ معيّنة. وبفضل ذلك بدا أنّ الحادثة التي وقعت في الحفل قد كادت تُنسى، الأمر الذي أثار فضول كلوي كذلك.
لكن كيرتيس كان يصف كل تلك الشائعات بأنّها “ترّهات”.
فاحمرّ وجه السيدة التي سألت، وقالت بتوتر: “صحيح؟ كنت أظنّها شائعةً لا أكثر!”
ثم سألته إحداهنّ إن كان يجب إرسال ابنها الثاني إلى الأكاديمية العسكرية، وسألت أخرى عن الشائعة التي تقول إنّ الدوق الأكبر فيكتور يبحث عن زوجٍ لابنته.
وأجابهم كيرتيس عن كل تلك الأسئلة الصغيرة بلطفٍ واهتمام. بل إنّه نهض بنفسه ليصبّ الشاي للدوقة حين فرغ فنجانها.
وبفضل ذلك، أصبح حفل الشاي أكثر دفئًا مِمّا توقّع أحد، واستمرّ الحديث بانسياب.
لكنّ الأجواء تجمّدت ما إن أعلن خادم وليّ العهد:
“لقد قدِمت الكونتيسة لورا لو غوتيا.”
نظر كيرتيس إلى وليّة العهد وكأنّه يلومها، فشربت رشفةً من الشاي وأجابت بهدوء:
“هي أيضًا من عضوات جمعية إيلينورا، وقد ساهمت في التحضير للحفل.”
وقبل أن تردّ كلوي، ظهرت لورا لو غوتيا وقد اقتربت تتبع الخادم. رفعت السيّدات مراوحهنّ أو افتعلن السعال لضبط ملامحهنّ.
“أُحيّي صاحبة السمو وليّة العهد.”
ثمّ انحنت كلوي أيضًا.
“أرجو أنّ صاحبة السمو الدوقة كانت بخير.”
كان أدبها كما هو، لكن وجهها ظلّ مخفيًّا. فتكلّمت وليّة العهد:
“دوقتُنا العزيزة. صحيح أنّ مظهر الأمر جعل الكونتيسة وكأنّها اتّهمتكِ ظلمًا، لكن لا يمكن تجاهل أنّها أيضًا رغبت في الحفاظ على هيبة جلالة الملك.”
أيّ باختصار: هذا مجلس رتّبه الملك، فلتظهري شيئًا من التسامح.
إيزابيلا والآن لورا؟
نظرت كلوي بحذرٍ. فقد وعدت مسبقًا بالتصالح مع إيزابيلا، لكنّها لم تفكّر مطلقًا بشأن لورا.
كان متوقّعًا أنّ وليّة العهد ستعطيها إشارةً ما، لكن ليس بهذه الطريقة… أن تطلب منها ذلك أمام الجميع ومن دون تمهيد.
‘حتى لو كان ذلك لأجل آيريس…’
ألم يكن ذلك مجحفًا؟
كانت وليّة العهد قد وعدت كلوي بأن تكون وصيّةً على آيريس مقابل تصالحها مع إيزابيلا. شيء مقابل شيء—اقتراحٌ منطقي وافقت عليه كلوي.
لكن هل عليها الموافقة أيضًا على هذا؟ لم تستطع فهم نوايا وليّة العهد.
كان وليّ العهد فريدريك ودودًا للغاية مع كيرتيس، وكانت وليّة العهد في صفّ زوجها على الأغلب. وهذا رأي كيرتيس أيضًا. وإلا فلِمَ أرسلت خادماتٍ من منزل عائلتها لتساعد كلوي؟
لكن… لماذا إذن كانت وليّة العهد تضع كلوي في موقفٍ صعب الآن؟
ولم يكن لدى كلوي مشكلةٌ حقيقية مع مسألة التسامح. فهي تحتاج لأن تكون وصيّة على آيريس، كما أنّ غصّتها من لورا زالت منذ زمن.
فقد جعل كيرتيس ثيودورا تحطّم جميع أواني المنزل عندهم.
لم تكن أواني عادية. بل كلّ ما ورثته عائلة غوتيا منذ قرون. حتى الفضّيات أذيبَت. يا للقسوة.
وهذا يعني أنّ لورا فقدت مكانتها المستحقّة كـ سيّدة المنزل، وأنّ ما حدث يستوجب الشكّ في أهليّتها.
بل إنّ الوضع كان متطرّفًا لدرجة أنّ طلاق الكونت قد لا يكون مستغرَبًا.
وقد نشرت إحدى الصحف شائعة عن الخلاف بين زوجَي غوتيا، من دون ذكر أسماء، لكنّها كانت واضحةً وضوح الشمس.
ولهذا لم تحمل كلوي ضغينةً على لورا، بل شعرت بالشفقة عليها.
إلا أنّ جوهر المشكلة الآن لم يكن لورا… بل وليّة العهد.
وكان شعورًا واضحًا: هذه المرأة تضايقني عمدًا.
‘لا تبدو خبيثةً… لكن…’
عندها انطلق ضحكٌ حاد.
كان كيرتيس.
“كنتُ سأتحمّل ذلك احترامًا لوليّة العهد، لكن يبدو أنّ ذلك صعب.”
“دوق.”
حاولت وليّة العهد إيقافه، لكنه تابع ساخرًا:
“أفهم ما قلتِه بشأن مراعاة هيبة جلالة الملك. لكنّني لا أفهم كيف تجرؤ الكونتيسة غوتيا على الحضور بوجهٍ كهذا. أليس الوقوف في صفّ أحدهم يعني الاستعداد لتلقّي كراهيّة الطرف الآخر؟”
وكانت الجملة الأخيرة موجّهةً مباشرةً إلى لورا.
وقد احمرّت أذناها وهي تنحني أكثر، ثم حاولت التبرير مذعورة:
“كانت… كانت صديقةً عزيزة، وشخصًا أحببته. ولهذا، حين حدثت تلك المكيدة… انجرفتُ في لحظة. وكنت أعرف دومًا أنّ صاحبة السمو الدوقة امرأةٌ صادقة وطيّبة، لكنّي… لكنّي خيّبت ظنّها بنفسي…”
أوه، هذا ليس إلا عذرًا محضًا.
ضمّت كلوي شفتيها لا إراديًا. فلا داعي لمناقشة حقيقة علاقتهما. فكلّه كلامٌ فارغ.
عندها تكلّمت إحدى السيّدات بحذر:
“كونتيسة غوتيا. ألا تعتقدين أنّه يجدر بكِ اختيار أحد الأمرين: الولاء أم الصداقة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 108"