أدارت كلوي رأسها إلى الجانب. كان الرجلُ الجميلُ على الدوام يضع يده على عجلة القيادة وينظر إلى الأمام.
لقد دعت اليومَ وليةُ العهد الدوق كيرتيس شـان بيرك إلى حفلة الشاي الخاصة بجمعية إيلينورا.
كانت بطاقة الدعوة مزخرفةً بعبارة “خاصّ”، لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك، بل كان استدعاءً مقصودًا. فحتى لو دُعيت زوجةُ الدوق وأُقيمت حفلةُ الشاي على أبهى وجه، فلن تُمحى حقيقةُ أنّ الدوق عبّر رسميًا عن استيائه.
ومن وجهة نظر الآخرين، فإن أفضل صورة هي حضور كل من كيرتيس وكلوي معًا وتحيّتهما لسيدات المجتمع.
وطبعًا، بما أن المكان مكان سيدات، فلن يبقى كيرتيس جالسًا حتى النهاية.
لقد وعد بأن يقدّم للجمعية تبرعًا ضخمًا “شكرًا لوقوفكم مع زوجتي”، ثم سيقدّم الهدايا والتحايا لولية العهد وللعضوات قبل أن يغادر في الوقت المناسب.
أمام فناء القصر كانت تنتظر عربةٌ فاخرة مع الخدم والسائق، كما هو متوقّع. لكن كيرتيس، الذي كان يحدّق في العربة بلا تعبير، حرّك أصابعه وأمر بإحضار سيارته.
ركض السائق مسرعًا، إلا أن كيرتيس لوّح بيده رافضًا.
قال إنه سيقود بنفسه.
“دوقٌ يقود بنفسه؟!” حاول الجميع منعه، لكن كيرتيس اكتفى بنظرةٍ جانبية نحو كلوي ثم ابتسم.
«لا أحد سيعترض إن كنتُ أعتني بزوجتي بنفسي.»
كان عليها أن تقول شيئًا حينها، لكنها لم تستطع بطريقة غريبة. وهكذا توصّل الأمر إلى ما هو عليه الآن.
تململت كلوي بوضوح قبل أن تنفجر قائلة:
“لا أفهم لماذا طلبت وليةُ العهد أن آتي بلا وصيفة.”
ضحك الرجل ضحكةً قصيرة.
“لماذا؟ لأنكِ لا تريدين الذهاب معي وحدنا؟”
لم تكن هناك حاجة لقول “كيف عرفت؟”. دارت كلوي عينيها.
“إنها حفلةُ شاي تُجري فيها وليةُ العهد وساطة، فلو طلبتِ اصطحاب الوصيفات خلفكِ لكان الأمر غريبًا. إنها تقول إنها ستتكفّل بكل شيء، ولذلك طلبت حضورك.”
“……”
“إن لم تريدي الذهاب، يمكننا إلغاء الأمر الآن.”
كان كيرتيس يسند ذقنه بيده الموضوعة على النافذة، بينما الأخرى على عجلة القيادة.
كان شارع ايفانيس واسعًا، ولم يكن هناك كثير من النبلاء يمتلكون سيارات، لذا لم يعترض طريقهم أحد.
كان يمكنه أن يلتفت إليها ولو للحظة أثناء القيادة، لكن عينيه ظلّتا تحدّقان مباشرةً إلى الأمام، وكأنهما تعرفان تمامًا ما يدور في رأسها. شعرت كلوي بغصّةٍ مفاجئة وحدّقت فيه قبل أن تقول:
“لو كنتُ أريد إلغاء الأمر لما وافقت من البداية.”
قال لها كيرتيس إن وساطة ولية العهد ليست أمرًا يجب عليها قبوله بالضرورة. فبحسب التسلسل، صحيح أن مكانة الدوقة غلينتراند أقل قليلًا منها، لكن في هذا الموقف كانت هي الطرف المتضرّر.
لكن ولية العهد كانت تتوقع ذلك، فأضافت عرضًا لا تستطيع كلوي رفضه.
ستتكفّل بتعيين شايرون لإيريس.
شايرون…
-‘أختي، أنا لا أهتم بالمناسبات الاجتماعية.’
بعد إعلان الزواج، كان من الطبيعي أن يلتفت الجميع إلى أختَي كلوي.
إريك كان في مدرسة الضباط، فتنفّسوا الصعداء، لكن الدعوات انهالت على ليا التي كانت في سن الزواج.
إلا أنّ ليا رفضت سريعًا.
-‘حتى لو كنتِ دوقة، عائلتنا نفسها ليست عظيمة. ليس لديّ جهزية ولا مهر. وفوق ذلك، هم يريدونني فقط بسبَب صِلتكِ بالدوق. لا أريد هذا.’
كان هذا رأيًا يليق بتفوّقها الدراسي. لم تُرِد أن تقضي حياتها كربّة منزل في ظلّ عائلةٍ أخرى بعد كل ما بذلته من جهد.
أما إيريس فكان وضعها مختلفًا. عمرها كان عشرة أعوامٍ فقط، لكن المسألة كانت أبعد من ذلك بكثير.
إيريس كانت الطفلة التي أحضرها والدا كلوي بالتبنّي حين كانا يعملان في الخارج، بعدما رأيا وضعها البائس.
اخترعوا قصةً مناسِبة بأن والديها أنجباها خارج البلاد، لكن ملامحها كانت كافيةً ليعرف أيُّ أحدٍّ أنها ليست شقيقة كلوي أو ليا بالدم.
وكان من الصعب على إيريس أن تعيش حياةً طبيعية في إيفانيس. فمجرد الخروج قليلًا عن شارع لو مارتين كان كفيلًا بأن يجعلها تُعامل كغريبة، بل وتُرمى بالحجارة أحيانًا.
لذا كان عرض ولية العهد بتعيين شايرون أمرًا مرحّبًا به جدًّا. شايرون لن تكون سيدةً من عائلةٍ بسيطة، بل سيدةٌ لها مكانتها، وهذا يعني أنّ عدد من سيجرؤون على إهانة إيريس سيتراجع.
إيريس الآن، بفضل عمرها الصغير، ما زالت محميةً باسم “شقيقة الدوقة بيرك”. لكن كلوي كانت تعلم جيدًا أنها دوقةٌ مؤقتة.
لا أحد يعرف ما سيحدث بعد بضع سنوات.
لكن حماية ولية العهد ستظلّ. شايرون علاقة تمتدّ لسنواتٍ طويلة، تمامًا كالرابطة بين المعلمة وتلميذتها، ما لم تُحدث الفتاة فضيحةً كبيرة.
ربما يمكن إعادتها إلى المدرسة أيضًا.
لم تكن كلوي تعلم إن كانت إيريس سترغب بالزواج من نبيل، أو أنها ستكون مثل ليا وتفضّل الدراسة.
لكنها أرادت أن تفتح أمامها أكبر عددٍّ ممكن من الطرق.
ولذلك كان من المقرر أن تحضر إيريس الجزء الأخير من حفلة الشاي. فبعد تقديمها رسميًا من قِبل ولية العهد، واختيار الشايرون المناسبة، سيعيدها كيرتيس إلى المنزل بنفسه.
لم يكن ممكنًا إبقاء طفلة في العاشرة طويلًا في حفلةٍ كهذه.
“بمَ تفكّرين؟ هل نلغي الأمر فعلًا؟”
تلاشى شرود كلوي بصوت الدوق. ترددت قليلًا قبل أن تقول:
“لدي سؤال…”
“اسألي.”
“قلت إنك ستطلقني لاحقًا باعتبارك الطرفَ المسؤول… فمتى تتوقع أن يكون ذلك الوقت المناسب؟”
رفع كيرتيس حاجبه بانزعاج.
“وكيف لي أن أعرف؟”
“لماذا لا تعرف؟”
“كلوي.”
كان صوته عاديًا في البداية، لكنه تغيّر بحدة عندما سألته “لماذا لا تعرف؟”.
“هل كنتِ تعلمين أنكِ ستتزوجينني عندما أصبحتِ مُساعدتي؟ لا أحد يعرف ما سيحدث في الحياة. فلا تُلحّي.”
ورغم حِدّة كلماته، كان يسند ذقنه بطريقةٍ هادئة ومسترخية وهو يرمقها بطرف عينه.
كان التناقض بين شكله وكلامه واضحًا جدًا. بل بدا وكأنه يتجنب الاقتراب منها. قبضت كلوي يدها وهي تئنّ.
“آه….”
“وعلى ذكر ذلك…”
تابع كيرتيس، غير مُكترث بانزعاجها.
“لا أريدكِ أن تعبثي بموضوع اختيار شريكة علاقتي أو تقترحي من تناسبني أو ما شابه. لا تقترفي مثل هذه الحماقات.”
“إن فكرتُ في الأمر، فإنّ إهانةَ كلّ منا للآخر تصبح إهانةً للاثنين معًا. مقرفٌ فعلًا.”
“ألم تقولي إننا واحدٌ منذ أن تشاركنا اللقب؟ تفضّلي، أهنيني بقدر ما تريد.”
“أوع…”
قلّدت صوت التقيؤ بشكل مبالغ. في السابق، لم تكن لتبالغ بهذا الشكل، وكذلك هو، لو رأى منها ذلك سابقًا لكان انزعج ووبّخها.
لكنّ الاثنين كانا يتجاهلان ردود بعضهما المفرطة. بل ويتصرفان بشكل أكثر مبالغة.
لأن الوضع… محرِج.
فمنذ ذلك الصباح الذي استيقظا فيه معًا في سرير غرفة المساعدين…
ومنذ ذلك الوقت وهما على هذا الحال.
***
أول من استيقظ كانت كلوي. على ما يبدو.
“آه…”
كان المكان معتمًا بفضل الستائر، لكن بعض ضوء الشمس تسرّب بين الفتحات. فركت عينيها وحاولت النهوض، لتكتشف أنها لا تستطيع الحركة جيدًا.
“ما هذا…؟”
كان شيءٌ ما في حضنها.
هل هي إيريس…؟
فالطفلة كانت دائمًا تلجأ إلى أحضان أختيها عند الكوابيس. وإن لم تكن كلوي موجودة، كانت ليا تتولّى الأمر.
ابتسمت كلوي وربّتت على رأس إيريس وهي تضمّها قليلاً.
“هل رأيتِ كابوسًا…”
لكنها لم تُكمل.
لأن رأس إيريس كان كبيرًا جدًا.
برأس رجلٍ بالغ…
رجـــلٍ بالـــغ…
‘…هذا هو سرير غرفة المساعدين!!!’
هناك مثل يقول: “إن نعست أثناء العمل، فاسكب الماء على نفسك”. ولكن لم يسبق أن فتحت كلوي عينيها بهذه السرعة حتى في ذلك اليوم الذي سكبت فيه الماء على وثائق مهمة وهي ناعسة.
شهقت بعنف.
كيرتيس شان بيرك. الرجل الذي جعلها تنام مرارًا في غرفة المساعدين، وزوجها على الورق… كان نائمًا، رأسه مدفونٌ في صدرها.
وربما شعرَ بارتباكها، فانسكبت خصلاتُ شعره الأشقر اللامع أمام عينيها وهو يفتح عينيه البنفسجيتين ببطء…
“آه!!”
كان ردّ كلوي فوريًا. نهضت دفعةً واحدة وهي تدفعه بعيدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 104"