لم يكن من السهل أبدًا تطهير المنزل من الجواسيس بسبب فيليب.
وبالاعتماد على نصائح جوليا، التي كانت تراقب الخادمات والموظفين دائمًا، نجحت كلوي في طرد عددٍ لا بأس به ممّن تبيّن أن لهم علاقة بطرف الملك.
وبالطبع، لم يكن فيليب من ضمن المطرودين.
فنصيحة إيزابيلا لا غلينتراند كانت مهمّة، لكن لو طردته مباشرةً فلا أحد يعلم ما السوء الذي قد يجرّه انتقامه عليها.
لذا خفّضت كلوي رتبته إلى خادمٍ عادي وأرسلته إلى المغسلة.
وتحديدًا إلى مهمّة محلول الرماد. وهي أكثر الأعمال التي يكره الجميع القيام بها. كما شددت عليه العقوبة بحيث لا يستطيع الخروج من القصر مهما كانت الأسباب، عقابًا على أفعاله الماضية.
“أليس هذا كافيًا؟”
قال كيرتيس جملةً فارغة لا تفهم أعماق النفوس. فحدّقت كلوي فيه بحدة.
“هل هذا كلامٌ يليق بمن تركني وشأني قائلًا إنّ الزواج سيحلّ كل شيء؟”
“حين تختارين الأشخاص… لا يمكنكِ اختيار من يناسبكِ تمامًا فقط.”
قال ذلك ثم مدّ يده ليرفع خصلةً من شعرها المتدلّي على كتفها. فانكمشت كلوي بلا وعيّ، فالتفت إليها كيرتيس بنظرةٍ جانبية وهمس قرب أذنها بصوتٍ منخفض:
“الجواسيس سيعودون دائمًا بطريقةٍ أو بأخرى، فلا تبذلي جهدًا كبيرًا.”
ومَن لا يعرف ذلك؟ لكن قبل أن تجيب، ابتعد عنها بسرعة. ثم قال:
“أعلم أنّ ولية العهد أرسلت لكِ بعض الخادمات من منزل عائلتها.”
“نعم. لكن لا يمكنني الاعتماد عليهنّ دائمًا.”
قالت ذلك ثم التفتت قليلًا إلى الخلف. خلف جوليا، كانت الخادمات اللواتي يتحركن بنشاط جميعهنّ من الذين أرسلتهم ولية العهد.
الخادمات اللواتي أُرسلن لأجل “الوساطة” تجاوز عددهنّ العشرين. كلهنّ خدمْنَ طويلًا في منزل عائلة ولية العهد.
ورغم أنّهنّ أُرسلن إليها، إلا أنّ الغرض كان سدّ الفراغ حول الدوقة مؤقتًا، وكنّ سيعدن إلى منزلهن في الوقت المناسب.
في الحقيقة، ظنّت كلوي أيضًا أنّ ذلك نوعٌ من جواسيس الملك، لكن كلمات وليّ العهد فريدريك طمأنتها.
فكون الخادمة ماهرة بما يكفي للعناية بـ”بجناح الدوقة الخاص” يعني أنها كاتمةٌ للأسرار. رغم أنّ تخصيص كلمة “الخاص” أزعجها قليلًا، إلا أنها أزاحت الفكرة جانبًا.
‘ه لن يعلموا شيئًا، أليس كذلك….’
واصلت كلوي حديثها:
“السيدة برونغ والسيدة تورنيا تساعدانني كثيرًا.”
وهذا صحيح. فقد كان لهما الفضل الأكبر في اختيار وتوظيف العاملين.
ولأن كلوي لم تملك أي خبرةٍ في إدخال موظفين للمنزل، لولا مساعدتهما لكان الأمر صداعًا لا ينتهي.
وخلافًا لابنتها الكبرى ثيودورا، فقد كانت السيدة تورنيا امرأةً لطيفة وودودةً جدًا. وخلال أول جلسة شاي جمعتهما، لجأت كلوي إليها وأخبرتها الوضع وطلبت نصيحتها.
وقد رأَت ثيودورا دائمًا هادئةً وكاتمة الأسرار، وتميل لصف الدوق، فظنت كلوي أنّ الأمر سيكون مناسبًا.
وفعلاً، بدت السيدة سعيدةً جدًّا لمجرّد أنّ كلوي طلبت نصيحتها.
-‘المرء يجب أن تكون له “هيئةٌ طيبة”. عندما يتقدّم في السن، ينعكس طبعه على وجهه، كما نقول.’
قالت ذلك وهي تساعدها في مقابلة الخادمات أيضًا. وقد كان ذلك مهمًا جدًا لأن كلوي فصلت حتى كبيرة الخادمات.
أما السيدة برونغ، فقد كانت تقدّم نصائح عديدة أيضًا.
-‘هناك جواسيس بملامح طيبة… لذا خذي نصيحة السيدة تورنيا بنصف ثقلها فقط.’
-‘أووه؟’
كانتا تبدوان متوافقتين تارةً ومختلفتين تارةً، لكنهما ساعدتا كلوي كثيرًا رغم ذلك.
وخصوصًا السيدة برونغ التي عملت طويلًا كرئيسةٍ لشؤون القصر، فقد قالت بعد أن رأَت الأشخاص الذين اختارتهم كلوي:
-‘لديكِ أساسٌ جيدٌ في قراءة الناس، يا سيدتي.’
فامتلأ قلب كلوي فخرًا.
وبالطبع، لم تستخدم السيدة برونغ دون الكثير من التفكير. حتى إنها سألت بجدية:
-‘بعد ما مررتِ به بسبب جاسوس الملك… هل تودّين فعلًا الاستعانة بي؟’
المعنى: “كِدتِ تهلكين بسبب جاسوس الملك، والآن تريدين مني—وهي رئيسة شؤون القصر التابعة للملك—التدخل؟ حقًا؟”
فرفعت كلوي كتفيها.
-‘حسنًا، لو اختارت السيدة بينّي وبين مصلحة الدولة، فلن أستطيع الاعتراض. وسيكون الأمر فشلًا جديدًا لي… بعد أن امتدحتِني بقولك إنني أملك عينًا جيدة في قراءة الناس.’
وأكثر ما تعلّمته كلوي من احتكاكها الطويل بالسيدة برونغ كان فنّ السخرية الراقية. وبالأخص الطريقة التي تُغضب بها السيدة دون أن تبدو وقحة.
لكن السيدة برونغ كانت تجيد الشيء نفسه أيضًا.
-‘…أفكر بهذا في كل مرة، يا سموّ الدوقة…’
-‘أن أسلوبي في الحديث رائع؟’
-‘لا. بل إنكِ أصبحتِ تشبهين سموّ الدوق كثيرًا. الحب يجعل الناس متشابهين، كما يُقال.’
-‘آه! سيدتي!’
اشتميني مباشرةً! لا تقولي كلامًا كهذا…
بعد تلك المناوشة، اعترفت كلوي بصدق أنّها ترى أنّ السيدة برونغ تملك فخرًا كبيرًا بعملها، وأنها شخصٌ يعتمد على الأمانة المهنية.
ومع أنّ السيدة برونغ كانت امرأةً راقية رصينة، إلا أنّها كانت ضعيفةً أمام المديح. لذلك علمت كلوي أنّ خلف وجهها الخالي من التعبير كانت مسرورة جدًّا.
وفي النهاية قالت السيدة برونغ:
-‘هف! اشكري جلالة الملك الذي خصّصني لكِ!’
وساهمت حقًا في اختيار العاملين بالدوقية.
غير أنّ أكثر من عانى كان جوليا.
فهي في الأصل متخصّصةٌ في إعداد الزينة، وكانت والدتها من وصيفات الملكة ميلدريد، لذلك كانت تملك ذوقًا رفيعًا وبراعةً في تجميل السيدات.
لكنها لم تخدم سيدةً من قبل، وكانت متأخرةً قليلًا عن أحدث الصيحات.
‘إنّها لوتيد.’
ولذلك حين جاءت الآنسة لوتيد، أشهر وصيفة لدى ولية العهد وأكثرهنّ ذوقًا، خرجت جوليا وهي تلقي حذاءها خلفها وتكاد تبكي من الفرح.
كان ذلك فرصةً لن تتكرر.
وبما أنّ لوتيد قريبةٌ جدًّا من ولية العهد، فقد قالت إنها لا تستطيع الغياب طويلًا، ودربت جوليا تدريبًا مكثفًا خلال يومين. خمنت كلوي أنّها لم تنم تقريبًا. لكن…
-‘كيف أحظى بفرصةٍ كهذه؟ لا أملك إلا الشكر.’
وبينما كانت جوليا في غاية الامتنان، توقفت كلوي عن القلق.
لكن في خضم كل ذلك، تساءلت كلوي لماذا تفعل كل هذا.
فحتى لو بذلت جهدًا في اختيار الخدم وتدريبهم، فهي لن تستمتع بوضعها كدوقة طويلًا.
لكن من جهةٍ أخرى.
‘حسنًا… العقد ينص على “أداء كل الواجبات المترتّبة على لقب الدوقة”….‘
إنه عملٌ بقيمة عشرة ملايين سينغ. عشرة ملايين كاملة.
ومجرد تذكّر هذا خفف من ضيقها.
فحتى اختيار العاملين… نوعٌ من العمل. ومن الأفضل أن يكتسب الإنسان الخبرة في كل شيء في حياته.
صحيح أنها ما إن خرجت من مكتب المساعدين واستقرّت في الدوقية حتى اجتاحتها المهام من جديد، لكن لا بأس. الانشغال بالعمل مريحٌ بحدّ ذاته.
مهما كان الأمر ساخرًا لشخصٍ وقّع عقدًا لتصبح دوقة هربًا من العمل الإضافي.
‘ما كان يجب أن أوقّع ذلك العقد….’
وها هي تعود من جديد إلى نقطة البداية.
كانت هذه أكثر فكرةٍ تكرهها كلوي، وأكثر فكرةٍ تطاردها دومًا.
بزووووم….
داعب صوتُ العربة أذنَيها بخفوت. ومعه ذلك الشعور الطافي الذي يميز العربات التي تعمل بحجر المانا.
وبينما هي غارقة، وجدت نفسها وقد ارتدت ملابسها وتزينت بسلاسة، وفي طريقها إلى القصر الملكي.
المقاعد الزرقاء بلون السماء في عربة كيرتيس كانت ناعمة كالعادة. وكان شعور الجسد وهو يهبط في أعماقها لا يُعتاد مهما جلست عليها.
التعليقات لهذا الفصل " 103"