كانت عبارة الفرصة هذه المرّة تعني الحادثة التي تسبّب بها فيليب ديلتانغ أثناء الحفل الدبلوماسي.
وحسبما يُروى، فبعد أن انتهى الموضوع بفتور، بدت الدوقة وكأنّها تستغل ذلك ذريعةً لتصفية بيتها من الداخل.
أما من وجهة نظر الملك، فكان الأمر شبيهًا بمن يُشعل النار في البيت كلّه من أجل صيد برغوثٍ واحد.
أجابت الأميرة بياتريس بهدوء:
“لا ينبغي لي أن أُرسل الخادمات.”
“ليس لأنّه لا يوجد لديكِ أحد، بل لأنّه لا يجوز، أليس كذلك.”
“أعلم أنّ أغلب العاملين في دوقيّة بيرك هم في الحقيقة عيونٌ لِجلالة الملك.”
هزّ فريديريك رأسه موافقًا.
فابتداءً من فيليب ديلتانغ، لا شكّ أنّ عدد الخدم والخادمات الذين يعملون في دوقيّة بيرك وهم في الأصل جواسيس للملك يبلغون خمسين شخصًا على الأقل.
“أظنّ أنّهم يريدون التخلّص منهم داخل القصر. ولو أرسلتُ خادماتٍ من منزل عائلتي فستتضايق الدوقة كثيرًا.”
“إنّما أحاول طمأنة والدي. ثم إنّ هذا طلبٌ من كيرتيس أيضًا.”
كان ذلك نوعًا من التعمية المقصودة.
فخادمات عائلة زوجة وليّ العهد – وإن لم يكنّ مباشرةً تحت يد الملك – إلّا أنّه قد يرى فيهنّ أشخاصًا يمكن الاستفادة منهنّ.
لكنّ فريديريك أراد قبل ذلك كله أن يتيح لعمّه أن ينام مرتاح البال.
وكذلك أراد كيرتيس أيضًا.
-‘حول الدوقة لا يوجد عددٌ كافٍ مِمّن يقومون بالأعمال. والأفضل أن تكون الخادمات اللواتي يعملن على خدمة جناحها الخاص.’
كان ذلك معقولًا.
فقصر الدوقية ظلّ بلا سيّدةٍ لوقتٍ طويل جدًّا.
وبعد قضية كبير الخدم الأخيرة، أصبح من الضروري توافر خادماتٍ جديرات بالثقة ومتقنات للعمل، وهذا ما طلبه كيرتيس.
وقد أزعج فريديريك قليلًا أنّ كيرتيس قال كلمة الجناح الخاص تحديدًا، لكنه افترض أنّها مجرد استعارةٍ يقصد بها خادماتٍ ملازمات.
وفي تلك الأثناء، فتحت الأميرة بياتريس شفتيها بتردّد وقالت:
“سأحاول. لكن قد ترفض الدوقة قبول اقتراحنا.”
“عمي نعم. لكنهّا – الدوقة – امرأةٌ تحتاج إلى الكثير من الأشياء من جهاتٍ مختلفة.”
رمشت بياتريس بعينيها الصافيتين، فـ رد فريديريك بابتسامة.
“ماذا لو كان لشقيقات الدوقة الصغيرات مرافِقةٌ تُعيّنها زوجة وليّ العهد بنفسها؟”
“آه.”
أطلقت زوجة وليّ العهد شهقةً قصيرة.
فالناس كلهم يعرفون الشائعات حول الشقيقة الصغرى للدوقة التي يُقال إنّ أصلها غير واضح.
وكذلك الشائعة التي تقول إنّ الدوقة تحوط تلك الأخت بكلّ خوفٍ وتوجّس، حتى إنها لم تستطع إرسالها إلى أيّ مدرسة.
وبالتالي، فلن يكون سهلًا على الدوقة أن ترفض عرض المصالحة هذا.
ولا أحد يعرف من ستختارها الأميرة لتكون المرافقة، لكنّ اتّكاء الدوقة على أمرٍ صادر عن زوجة وليّ العهد سيُخفّف عليها عبءَ المظاهر.
“مفهوم. لكن لديّ طلبٌ بالمقابل….”
أن تطلب زوجة وليّ العهد من زوجها أمرًا ما بدا غريبًا بعض الشيء.
وحين مال فريديريك برأسه متسائلًا، ابتسمت بياتريس بخجلٍ لطيف يختلف عن ابتسامتها السابقة.
“أنا… اليوم وغدًا… ليلتي خالية.”
“…آه.”
احمرّ خدّا فريديريك قليلًا.
فالزوجان لم يمضِ على زواجهما سوى عامٍ واحد، ولا يزالان بلا أطفال، وكان واضحًا تمامًا ما الذي تشير إليه زوجته.
لم يجب، بل سعل سعالًا خفيفًا.
ولم يكن ذلك بحالٍ من الأحوال علامة رفض.
***
بعد الحادث بين الدوقة غلينترلاند والدوقة بيرك، خرجت زوجة وليّ العهد لتتولّى الوساطة.
وبعد أسبوعين من استعادة عافيتها ظهرت في مقابلة صحفية، وأكّدت عبر الجرائد أنّ <الدوقة بيرك قد بذلت أقصى جهدها حين أقامت الحفل الدبلوماسي نيابةً عني>، وبذلك وقفت إلى صفّ الدوقة بيرك.
أما في حالة الدوقة غلينترلاند، فاختتمت الحديث بعبارة <حادثٌ مؤسف سبّبه سوء الفهم>.
ولم يكن من الضروري بذل جهدٍ كبير لإلصاق التهمة بالخادمة الميتة.
بدايةً، لم يُظهر البلاط أيّ نيّةٍ حقيقية ليتعب نفسه في البحث عن الحقيقة.
“أليس كاميو قد قال بالفعل أنّه حتى لو كانت الدوقة بيرك، فمن الصعب جدًا تزييف آثار الاحتقان في وقتٍ قصير كهذا؟”
صاحبة هذا التعليق الساخرة كانت كلوي، وهي واقفة في وسط غرفة الملابس، بينما كانت جوليا تساعدها في ارتداء ثيابها.
شدّت جوليا شريط الزينة حول خصر كلوي بلطف، وثبّتت فوقه بروشًا جميلاً من حجر التوباز الأزرق، ثم علّقت عليه خيوطًا مزخرفة، لكنّها لم تبدُ مقتنعة تمامًا، فطلبت:
“هلّا أحضرتِ لي خيوط الشرّابة الذهبية هناك؟”
انطلقت الخادمة راكضة إلى غرفة حفظ الزينة.
ويبدو أنّ الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا.
ولأنّ جوليا كانت شديدة الحماس لتجربة أحدث موضات الأزياء التي تعلّمتها مؤخرًا على كلوي، فقد أصبحت كلوي تمضي وقتًا أطول بكثير في غرفة الملابس.
قالت كلوي مواصلةً حديثها:
“ما تلك القدرات الخارقة لتلك الخادمة، حتى تُعدّ المزهرية سرًا، ثم تخرج لبيعها، وتسرق ثلاثة ملايين سينغ؟! وهي مجرد خادمةٍ في مغسلة الملابس!”
نعم، فالرأي الشائع كان يقول إنّ الخادمة الميتة هي من بدّلت المزهرية بأخرى مشابهة.
ويُقال إنّ الخادمة التي أعمى الطمع بصرها خططت لذلك منذ كانت في غلينترلاند، وجهّزت المزهرية قبل الحفل.
ثم بعد أن أخذت الأوامر من الدوقة، أرسلت المزهرية المزوّرة إلى منزل الدوق، وحاولت الهرب بعد بيع المزهرية الأصلية، لكنّ تاجر المسروقات الذي حاول استعادة المال قتلها.
وقد لخّصت الأميرة بياتريس الأمر بأنه <حادثٌ مؤسف>، وأكّدت أنّ ما حدث بين الدوقة بيرك ودوقة غلينترلاند لم يكن سوى سوء فهم.
كما أكّدت أنّ الخلاف بين الطرفين لن يستمرّ بفضل وساطتها.
“الحرس الملكي يعمل حتى الموت مجددًا!”
وبسبب ذلك اضطرّ ليس فقط حرّاس العاصمة، بل حتى الحرّاس الملكيّون إلى قلب كلّ المحالّ المشبوهة في شارع بابيتين رأسًا على عقب.
أي أنهم عادوا إلى العمل الإضافي من جديد.
وكان أكثر من يعاني هو الفِرقة الأولى وعلى رأسها جورج.
“هذا عمل الحرس الملكي أصلًا. فلا تتذمّري من بعض العمل الإضافي. ثم إنّكِ أنتِ لا تعملين أصلًا.”
جاء صوت كيرتيس من الصالون عبر الباب المفتوح.
رفعت كلوي ذراعيها بينما كانت جوليا تُلبسها فستانها وقالت:
“أنا فقط مذهولةٌ لأنّي سأرتدي هذا الفستان السخيف لأذهب وأضحك بوجه تلك المرأة.”
نعم، كانت وساطة زوجة وليّ العهد ذات طابعٍ أرستقراطي بامتياز.
فقد قرّرت بياتريس إقامة حفلة شاي تدعو إليها كلّ عضوات “جمعية إيلينورا” لتكريم جهودهنّ في الحفل الكبير.
وبالطبع، سيكون من الضروري حلّ سوء الفهم بين الدوقة بيرك ودوقة غلينترلاند خلال ذلك اللقاء.
“الخادمة مسكينةٌ فحسب. جاءت لتعمل فإذا بها تُتّهم ظلمًا ثم تُقتل فوق ذلك! أمّا من ألصق بها التهمة فيعيش الآن في راحةٍ ونعيم!”
“…..”
حتّى جوليا لم تستطع الردّ بسرعة.
ومن منظور الخدم، كان من الصعب جدًا ألا يتعاطفوا مع خادمةٍ استُخدمت ثم رُمِيَت.
وخاصةً أنّ معظم العاملين في دوقيّة بيرك كانوا يعرفون تمامًا ما الذي فعلته دوقة غلينترلاند.
بل إنّ تجاهل ذلك كان أصعب من معرفته.
“فكّري في نفسكِ يا كلوي. من الصعب جدًا تحسين السمعة.”
جاءت هذه الطعنة مجددًا من كيرتيس.
“إنّ حفلة الشاي التي رتبتها الأميرة من أجل الوساطة. وغدًا ستظهر عشرات المقابلات في الجرائد، بلا شك.”
قهقهت كلوي بسخرية:
“تحسين السمعة؟ يكفيني ألّا أُهان أمام الناس فقط.”
حفلٌ تُشارك فيه زوجة وليّ العهد نفسها!
إلى أيّ حدّ ينبغي لها أن تتظاهر بالرقيّ والوقار من جديد؟
ولم يكن ذلك صعبًا عليها، فقد اعتادت إجبار نفسها على تلك السلوكيات.
لكنّ رؤيتها لإيزابيلا لا غلينترلاند قد تكون مُرهقة قليلًا.
فالمرأة التي قالت كلامًا أشبه بالاستعداد لقتل نفسها، ها هي الآن تلصق تهمة بخادمةٍ بريئة، وتتنقّل بكلّ ثقة داخل قصر إيفانيس.
وبالنسبة لكلوي، قد يكون هذا المشهد كفيلًا بمحو ما تبقّى لديها – لو بقي – من شعور بالانتماء للوطن.
“إن لم يعجبكِ الأمر، فتذكّري آيريس على الأقل.”
عند هذه الجملة سكتت كلوي.
وأغلق كيرتيس الجريدة ثم أضاف من بعيد:
“تعرفين ماذا سيُقال لو ظهرتِ عابسةً أمام الآنسة آيريس، أليس كذلك؟”
ما الذي يقوله هذا الرجل؟
نظرت كلوي إلى جهة كيرتيس بعبوس.
“ما الذي تقولُه، يا صاحب السمو؟ إنّ الدوقة بيرك طيّبةٌ للغاية ولطيفة، كيف لها أن تعبس؟”
وقبل أن تردّ جوليا، هبّت تقاطع الحديث بانفعال، مشدودة القبضة:
“من بين كلّ السيّدات اللواتي أعرفهنّ، صاحبة السمو الدوقة بيرك هي الأجمل والأروع والألطف!”
“جوليا، أنتِ بارعةٌ في الكذب…”
ضحكت كلوي بدهشةٍ وقد أربكها الموقف.
فهي منذ طفولتها ليست من النوع الذي يُقال عنه لطيفٌ أو جميل، بسبب طولها الواضح الذي ورثته عن والديها.
لكنّ جوليا ضغطت على قفل السوار في معصم كلوي وقالت بحماس:
“تبدين رائعةً اليوم! لقد كان هذا يستحق حقًا أن نُفصّل له فستانًا جديد! ارتديه واسحقي تلك المرأة سحقًا!”
“مَن…؟”
“إيزابيلا لا غلينترلاند طبعًا!”
أنا أسحقُ تلكَ الجميلة؟
بالطبع لم تكن تقصد السحق البدني.
تمتمت كلوي وهي تتخيّل إيزابيلا واقفةً أمامها، تضحك “هوهوهو” بفوقية.
ورغم أنّ الصورة المُتخيّلة كانت مبالغًا فيها قليلًا، إلا أنّه من الواضح – وبغضّ النظر عن مشاعرها – أنّ المنافسة الجمالية مع إيزابيلا أمرٌ مستحيل.
“أعتذر، لكن ذلك يبدو صعبًا قليلًا….”
عندها شدّت جوليا قبضتها من جديد وصاحت: “آه! يا صاحبة السمو الدوقة بيرك!” وهي تدوس الأرض حماسًا.
لم تكن هكذا من قبل… يبدو أنّ لديها روحًا تنافسية أكثر مِما ظننت.
“هذا يعتمد على العزيمة! ثم إن قلتِ ذلك، فسيشعر سموّ الدوق هناك بالحزن الشديد، أليس كذلك؟ هاه؟”
كان لدى كلوي رغبةٌ في الالتفات نحوه لتقول ولماذا يشعر بالحزن؟ لكنها توقّفت فجأة.
فقد فوجئت بوجوده.
“أليس كذلك، يا صاحب السمو؟ ارجوك قل نعم. أسرع!”
كان الرجل المفترض أنّه في الصالون، واقفًا الآن خلفها وقد شبك ذراعيه وهو يبتسم بمكر.
التعليقات لهذا الفصل " 102"