وفوق ماء الشاي الورديّ المليء بالثلج، انعكس وجهُ الرجل الذي كان يبتسم ابتسامةً مُحرَجة.
زوجُها، وليّ العهد فريدريك.
لقد مرّ نحو عشرة أيام منذ أُلغيَتِ المأدبةُ الدبلوماسيّة مع غلينترلاند.
وأصبحتِ الأسرةُ المالكة في وضعٍ مُحرِج شيئًا فَشيئًا.
باستثناء الملك وحده، بطبيعة الحال.
إذًا… هل صحيحٌ أن الدوقة باعتْ المزهرية التي قُدِّمَت لها هديّة؟
الجواب: لا.
إذن هل أرسلت دوقة غلينترلاند مزهريةً مزيّفة وقتَلَت الخادمة؟
يقولون أيضًا: لا.
فما الحقيقة إذًا؟ فالخادمة ماتت فعلًا.
كثُرت الأحاديثُ حول تلك المأدبة الدبلوماسيّة، لكن لم يَعترف القصرُ الملكيّ ولا دوقة غلينترلاند رسميًا بأيٍّ منها.
وما تزال دوقة غلينترلاند تُصرّ على أنّ اتهامَها بقتل الخادمة ظلمٌ أُلصق بها. كما تُصرّ على أنّ المزهرية قد جرى استبدالُها.
لم يقف جانبُ الدوقة صامتًا كذلك. فقد أعلن دوقُ بيرك موقفَه من خلال وكيله في الصحف.
<إنّ أسرة دوق بيرك لا علاقة لها مطلقًا بتتابُعِ هذه الأحداث، وتعرب عن أسفها لكون عضوٍ جديد من العائلة الملكيّة لم يلقَ الترحيب اللائق.>
لم يُسمِّ أحدًا بالاسم، ولم يُوَجِّه اتهامًا صريحًا.
لكن كان ذلك تعبيرًا مهذّبًا عن أنّهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي بينما تتعرّض الدوقة للإهانة.
“المشكلة أنّ أبي، في تلك المأدبة، وقف بوضوح إلى جانب دوقة غلينترلاند. وعمّتي كذلك.”
فالملكُ وماركيزة فلاندر وقفا مع غلينترلاند، لا مع دوقة بلادهم.
وإن طال الأمر أكثر، فسيخرج مَن يقول إنّ الملك لا يطيق كيرتيس ولا دوقة بيرك، وإنّهما لفّقا هذه الفوضى. بل إنّ بعضَ النبلاء قد بدأوا يتهامسون بذلك حقًا.
“ومع ذلك، لا يمكن أن تتحوّل الدوقة إلى المتّهمة بسرقة المزهرية.”
وقد ألمح وليّ العهد سلفًا إلى دوق بيرك إن كان بإمكانه مساعدته في هذا الأمر.
فأتاه ردُّ عمّه الجميل النبيل على النحو التالي:
<إلى سموّ وليّ العهد فريدريك. إن كنت تبغي بهذه الخطوة تمهيدًا للتخلّي عن ولاية العهد بذريعة الجنون، فاعلم أنّي جرّبتُ ذلك من قبل. وقد كان بالغَ الصعوبة.>
وكان معنى الرسالة: أتراك جُنِنت؟
عقدتْ ولية العهد حاجبيها وهي تقرأ ردًّا مُهذّبَ اللفظ، فاضحًا للامتعاض.
وسرعان ما فهم فريدريك ما تُريد قوله دون كلمة، فضحكَ بخفوت.
“صحيح. أمرٌ مفاجئ. فعمي دائمًا حَذِرٌ جدًّا في الألفاظ حين يتعلّق الأمر بالوثائق الملكيّة.”
وهذا صحيح. فكيرتيس—رغم قسوة ألفاظه في المجالس الخاصة—كان دائمًا شديد الحذر في رسائله الرسمية. فحتى لو وقفَ فريدريك في صفّه، فالدنيا لا أمان لها.
ولذلك كان صدورُ رسالةٍ كهذه أمرًا صادمًا للغاية.
ولو وقع هذا الخطاب في يد الملك، لكان كيرتيس شان بيرك متّهمًا بإهانة وليّ العهد.
ومعنى ذلك…
“أنه لا ينوي التراجع ولو خطوة واحدة لأجل تلك الدوقة المؤقتة. أليس هذا مدهشًا؟”
“…مؤقتة… تقول؟”
قالتها بياتريس في حذر، فأومأ فريدريك.
“نعم. لم يذكر كلمة مؤقتة بصراحة. لكنه تحدّث عن القادمة بعدَها.”
وهذا يعني أنّ هناك مَن سيخلفها. ومن هي؟ لا يهمّ. ما فهمه فريدريك هو أنّ الدوقة الحالية ليست سوى شاغلةٍ مؤقتة للمنصب.
غير أنّ عَمَّه لم يكن من النوع الذي يتخلّى عن الناس دون سبب.
في تلك اللحظة، وضعت وليّة العهد فنجانها على الصحن بخفّة. فانتبه فريدريك وابتسم اعتذارًا.
“المعذرة. سرحتُ قليلًا.”
“لا بأس. أعلم انشغالك.”
“على كلّ حال… أصبح من الصعب على القصر أن يفرض رأيه هذه المرّة.”
وذلك بسبب شهادات بائعة المجوهرات وأغاث مونفيس تلك الليلة.
وحتى لو حاول القصرُ فرضَ رأيه، فلن يقف دوق بيرك مكتوف اليدين. ولم يكن فريدريك ينوي ذلك أصلًا. أمّا قدرةُ الدوقة على تحمُّل الدور، فلم تكن سوى احتمالٍ يُختَبَر.
وفي بعض الأحيان، عليك—وأنت تعرف خلفيات الأمور كلّها—أن تلعب دورَ الوغد. أو دور المهرّج العادل.
وهذا أصلًا دورُ الأسرة الملكية.
أسند فريدريك ذقنه إلى يده، ونظر إلى وليّة العهد بنعومة.
“لا يَسُرّني أن أُحمِّلك مثل هذه المهام دائمًا.”
“هذا واجب الأسرة الملكية. وأنا لا أمانع.”
كانت حقًا وليّة عهدٍّ مثالية. صحيحٌ أنّها ضعيفة الجسد ولا تُريد إغضاب الملك، لكن لا حاجة لشخصٍ أن يقف في وجه العاصفة عمدًا.
ولهذا أحبّها فريدريك. كقصبةٍ تنحني مع الريح، ولا تنكسر.
“وماذا عن دوقة غلينترلاند؟ ما الذي تنوي فعلَه معها؟”
“همم… استخدامها كورقةٍ للتخلّي عنها سيكون مثاليًا. لكن لسببٍ ما، يبدو أنّ أبي يريد الحفاظ عليها.”
صحيح أنّها أميرة، لكنّها أميرةٌ بالتبنّي من فرعٍ جانبيّ. ويقال أيضًا إنهم استعجَلوا إحضارها فقط لأجل هذه الخطبة.
وبالتالي رأى فريدريك أن الأفضل هو جعل غلينترلاند تتخلّى عنها، ثم تقديم مصلحةٍ ما لهم في المقابل.
ربّما تُستخدَم كرهينة؟
لكن ما قاله الملك له، كان كلامًا سخيفًا حدّ الضحك.
أميرةٌ بالتبنّي… رهينة؟ لأيّ غرض؟
سيكون ذلك بمثابة إضافة فمٍ جديدٍ يلتهم الطعام في قصر إيفانس!
وطبعًا، لم يستطع قول هذا لأبيه.
“كان يحدّثها أحيانًا، أميرةَ غلينترلاند تلك… ربما كان يريد فقط شخصًا يتحدث إليه.”
“سموّك.”
نادته وليّة العهد وقد عُقد حاجباها قليلًا، فأدار نظره إليها متعجّبًا. ونادرًا ما تواجهه بنظرةٍ مباشرة.
“لم يمضِ وقتٌ طويل على زواجي بسموّك، لذا لا أعرف الملكة دو سوليي جيّدًا. لكنّي سمعتُ أنّها كانت لطيفةً ومستقيمة، تنال احترام الجميع.”
“أنتِ تتحدّثين بلفٍّ ودوران كعادتك. وماذا بعد؟”
“…سموّك تشبه الملكةَ دو سوليي كثيرًا.”
ضحك فريدريك وهو يُغمض عينيه بمرح.
“هذا يعني أنّكِ تسُبّين والدي بلا إخفاء.”
لم تُنكر بياتريس وتابعت كلامها.
“تذكّر الوضاعة التي تتعرّض لها رهائنُ الدول الضعيفة.”
“آه…”
كان الأميرُ فريدريك، الذي يشبه الملكة دو سوليي، يدركُ فُجور والده تمام الإدراك. ولذلك فهم تلميحها الخفيف فورًا.
“يبدو أنّ والدي يستحقّ شتائم أكثر مِما توقعت.”
“أسعدني أن أُفيدك.”
“شكرًا لكِ على تنبيهي لما لم يخطر ببالي… كيف يفعل ذلك في مثل عُمره؟”
حكّ فريدريك ذقنه. فأبوه لديه عشيقاتٌ عدّة، وليس واحدة. والآن إيزابيلا لا غلينترلاند أيضًا؟
كانت مهزلة.
لكنها ليست غريبةً عليه.
ولذلك حوّل اهتمامه إلى أمرٍ آخر.
“وأما أنتِ، فربما لا تستطيعين التقرّب من الدوقة، لكن أرجو أن تهتمي بها قليلًا هذه المرّة.”
وكلمة “هذه المرّة” كانت تشمل كلّ ما ستقوم به وليّة العهد خلال عملية الوساطة من بدايتها حتى نهايتها.
وضعت بياتريس الفنجان برفق، وسألت:
“هل أعجبتك الدوقة؟”
“إنها شخصٌ ممتع.”
أجاب فريدريك بصراحةٍ نادرة. وكانت عيناه تلتمعان بلطف وهو يذكر اسم كلوي لي دافيد بيرك.
“لولا الملك، لكان بإمكانكِ أن تجدي فيها صديقةً ممتعة. هذا كلّ ما في الأمر.”
“أهذا فقط؟”
ممتعةٌ فقط؟ لا يبدو ذلك. وإلا فلماذا يُعيرها كلّ هذا الاهتمام؟
قال فريدريك وهو يزمّ جبينه:
“في الواقع… هناك أمورٌ كثيرة تُثير قلقي بشأنها.”
“….”
“ولهذا… لديّ طلبٌ آخر.”
“وما هو؟”
“هل لدى خادماتِ أسرتكِ مَن يمكن أن يعمل في قصر الدوق؟”
رفعت بياتريس نظرتَها نحوه، مُتسائلةً عن السبب.
فابتسم بحرج.
“الدوقةُ تُحاول استبدالَ العاملين في قصرها هذه الفترة، ويبدو أنها تُواجهُ صعوبة.”
التعليقات لهذا الفصل " 101"