هذا ما أحسّت به نهيدة بعد أن رأت البحر لأول مرةٍ في حياتها.
اتّسعت عيناها دون أن تُدرك، كانت أشبه بكائنٍ رأى العالم لأول مرةٍ مِن بعد أن ظلّ مسجونًا في قفصٍ منذ أوّل أيام عمره.
وهي اعتقدت أنها كذلك بالفعل.
حُبست أنفاسها داخل صدرها أطول مما ينبغي، ومدّت يدها أمامها، بينما قلبها تتزايد ضرباته؛ خشية أن يكون هذا المنظر المذهل مجرد سرابٍ لا أكثر.
لكنه لم يكن كذلك.
أمواج البحر تتلاطم أمامها عند الحافة الصخرية المائلة إلى اللون النحاسي، مياهه تتلألأ كمجموعة كبيرة من الشموس الصغيرة التي وقعت من أعلى وراحت تتراقص مع المياه.
والأفق كان لا ينتهي، مما جعل الشمس تبدو وكأنها على وشك أن تختبئ أسفل البحر باستحياء.
اتّسعت ابتسامتها حتى بدت وكأنها تشرق من عينيها قبل شفتيها. أخذت تدور في مكانها، والأرض لم تعد تكفي خطواتها، وجعلتها أحاسيسها تتساءل:
“أهذه هي الحرية؟”
اليوم الأول من الحرية.
نهيدة غادرت القرية منذ الصباح الباكر، بعدما ودّعها أخوها وهو يعيد تغطية وجهه مجددًا، وأعطاها قلادة ذات شمسٍ تتدلّى من سلسلة. طلب منها ألّا تنزعها من رقبتها إلا للضرورة، وقد وعدته بأنها ستفعل هذا بكل سرور؛ فهذه الهدية الأولى التي حصلت عليها منه منذ أن صار واعظًا.
لكنها لم تودّع صديقتها يمامة؛ لأنها تعلم أن الأخيرة ستظل تبكي على فراقها، وربما يجعلها ذلك تتراجع عن قرارها وتبقى في هذه القرية البائسة.
طلبت من سهيل أن يخبر يمامة سبب ذهابها دون وداع.
ارتحلت رفقة تيمور، راكبةً على ظهر فرس بيضاء، كانت سريعة للغاية، وبفضلها استطاعا قطع مسافة طويلة خلال منتصف النهار، وعندما حلّ وقت الغسق وصلا إلى الساحل.
كان ساحلًا مهجورًا، بدا كحافة العالم بالنسبة لنهيدة. ظلّت تحدّق في هذا المنظر الأخّاذ، شعرت وكأن عينيها لا تتعبان من جماله.
لكن تيمور قاطعها عندما ناداها من الخلف قائلًا:
“يا جميلة، يجب أن نجد مكانًا نبيت فيه قبل أن تغيب الشمس.”
على مضض ابتعدت نهيدة عن الساحل، وقصدت تيمور على ظهر الفرس البيضاء. نظرت إليه وسألت:
“ألا تعرف أين سنبيت؟ اعتقدت أنك خبير بهذه الأمور.”
أطلق تيمور ضحكة عالية وردّ:
“أجل، بالطبع أعرف أين يجب أن نبيت، علينا اولاً أن نصل إلى هناك قبل أن تغيب الشمس.”
وافقت نهيدة، وأمسكت باللجام لكي تتسارع وتيرة ركض الفرس.
بعد أن لحقت بتيمور لفترة وجيزة، توقفت عندما رأت أطلالًا لمدينةٍ مهجورة.
كان المكان هادئًا بشكلٍ مخيف .
لم تتوقف فرسها عن السير، لكنها جعلت خطاها أبطأ لتدقق في هذا المكان الغريب الذي لم يكن لديها أدنى فكرة عن وجوده.
ما كان في الماضي بيوتًا صغيرة صارَت حوافها متآكلة بفعل عوامل التعرية، وسياج المدينة مائلٌ قديم يكاد يسقط، مع بقايا نخيلٍ وأعشابٍ يابسة تنبت هنا وهناك، وكأنها بقايا أرضٍ كانت يومًا عامرة بالماء والحياة.
انقبض قلبها عندما خطر في بالها أن يكون مَن سكن هذه القرية أناسًا قصيري الأعمار مثل أبناء قبيلتها؛ ولهذا السبب هُجرت ولم يعد أي مخلوقٍ يعيش فيها.
حاولت إبعاد الفكرة عن بالها؛ لأنها تعلم أنه لو سمحت لها بأن تجول في رأسها، فلن تتمكن من النوم هذه الليلة.
وعندما وجهت نظرها للأمام، اعتقدت أنه خُيِّل إليها رؤية سرابٍ اعتلى أفق الصحراء على شكل ظلٍّ لبيتٍ ضخم.
لكن عند الاستمرار في التقدّم وتوضّحت الرؤية، توسعت عيناها، واعتلت ملامح الصدمة وجهها.
قصرٌ كبير، كان أقرب إلى الخيال بالنسبة إليها، حتى في أفكارها لم تجرؤ على أن تتخيل شيئًا كهذا.
مبنيٌّ من الحجر الأبيض النادر، ذو قبابٍ وأبراجٍ شامخة تكاد تصل إلى غيوم السماء، ينعكس على جدرانه نور شمس الغروب في الأفق من جهة، وبقمرٍ بدرٍ ضخم يعلو السماء من جهة أخرى.
أرادت نهيدة أن تتكلم أو حتى تصرخ معبّرة عن دهشتها وإعجابها، لكن جمال المنظر جعلها تشعر بعقدةٍ في لسانها، فلا تستطيع قول أي كلمة.
حفزت نهيدة فرسها على الإسراع قليلًا، وعندما صارت بجانب فرس تيمور سألته:
“أهناك شخص يعيش في هذا المبنى الرائع؟”
ارتسمت على وجهه الوسيم ملامح الحزن، وتحولت نظرته إلى تأمل وهو يجيب:
“كلا، إنه مهجورٌ كالأطلال، لكن الزمن كان لطيفًا معه، فظلّت أبراجه شامخة تعلو السماء.”
لم تفهم نهيدة سبب العاطفة التي ظهرت على وجهه، وكانت على وشك أن تسأله عن تفسير هذه النظرة التي اعتلت ملامحه، لكنها فضّلت أن تسكت وتمتّع نظرها بهذا المبنى البهي.
عندما وصلا إلى البوابة، أدركت أنها كانت مفتوحة منذ البداية، لأن تيمور ترجل من على فرسه، واكتفى بدفع الباب وكأنه يعرف ماذا يفعل. استولت عليها حيرة شديدة، متسائلة كيف عَلِم هذا، لذا سألته:
“أكنت تعرف أن البوابة مفتوحة؟”
هزّ الرجل رأسه، وقال:
“أجل، أثناء قدومي إلى قريتك بِتُّ هنا قبل ليلة واحدة من وصولي.”
نزلت نهيدة من على ظهر الفرس، وسارت بخطواتٍ حذرة إلى الداخل، متأملة المكان.
كانت البوابة قد صُنعت من الخشب المتين ذي اللون البني الفاتح، كبيرة الحجم وعالية، مما جعل نهيدة تحس أنها نملة دخلت إلى منزل البشر.
أما الأرضية فكانت من الرخام الأبيض، منحت المكان برودة تتناقض مع الجو في الخارج.
أخذت تنظر إلى الجدران بدهشة تمازجها ريبة.
تجمدت خطواتها في منتصف الطريق، وبقيت واقفةً كأن الأرض قيدت قدميها، وعيناها معلقتان على المشهد أمامها.
قاعة ضخمة في نهايتها يوجد كرسي كبير خشبي مصبوغ بلونٍ أصفر مائل إلى البرتقالي، رُسمت عليه شعلات نارية وريشٌ برتقالي محترق. وعلى الجدار الذي يقع خلفه وُجدت رسمة كبيرة لطائرٍ بلون اللهب، يرفع جناحيه إلى الأعلى منبسطين، بدا كأنه يُحلّق نحو السماء.
أما الجدران الأخرى فقد رُسم عليها أُناس ذوو بشرة داكنة وعيون صفراء، كانوا ذوي قامة طويلة، وأسفلهم وقفت مجموعة من النساء ذوات العيون الزرقاء.
اقتربت نهيدة ناحية الكرسي الكبير، وكانت على وشك أن تلمسه قبل أن يصيح تيمور قائلًا:
“لو كنتُ مكانك لما فعلت هذا.”
تراجعت خطوتين إلى الوراء، والتفتت إليه عاقدة حاجبيها وسألته:
“لماذا؟ أهذا الكرسي مِلكٌ لأحدٍ ما؟”
أومأ تيمور ورد:
“أجل، لقد كان مِلكًا لآخر حاكمة لمملكة العنقاء. يُقال إن هناك لعنة في العرش ستصيب كل من يلمسه.”
ارتعش جسد نهيدة، وأحسّت أن شعيراتها انتصبت:
“ماذا قد يحدث؟” سألت، رغم خوفها من معرفة الإجابة، لكن فضولها كان أقوى من مشاعر عابرة.
أجابها تيمور وهو ينظر إلى الطائر:
“سيحترق جسده ويتحول إلى رماد. هذا ما ذُكر في كتب التاريخ والأساطير.”
“أي كتب؟” سألت نهيدة وقد لمعت عيناها عند ذكر هذه الأشياء التي تحبها، مما جعل تيمور يبتسم دون أن يشعر ويقول:
“أجل، كتب. لقد قرأت كتابين في طفولتي عن هذه المملكة المنسية. قيل إنها المكان الأصلي لشعب العنقاء، لكن لا يوجد أي دليل يثبت هذا؛ فقد اختفى هذا الشعب فجأة، ولا يعرف أحد ماذا حدث معهم.”
“تبدو كتبًا رائعة، أين وجدتها؟” سألت نهيدة، وقد شعرت كأن قلبها على وشك أن يخرج من صدرها لشدة حماسها.
“أمي كانت تمتلك كتبًا كثيرة، لكن للأسف بعد أن مات والدي وحلّ علينا الفقر باعتها كلها حتى نأكل.”
لاحظت نهيدة الحزن الذي تسلل إلى عينيه، وشعرت بالذنب لأنها فتحت هذا الجرح العميق.
“أنا آسفة لأنني ذكرتك بهذا.”
انفجر يضحك على حين فجأة، ثم قال وهو يقهقه ضحكًا صريحًا:
“لا بأس يا جميلة، لقد مر وقت طويل منذ حدوث هذا. تعايشت مع الوضع وصارت لدي عائلة.”
تسلل ارتياح طفيف إلى قلبها، لكنها انزعجت أيما انزعاج من لقب “جميلة”، لذا أمرته:
“لا تنادني بهذا اللقب.”
حك تيمور الجهة الخلفية لعنقه وقال:
“آسف لأنني أزعجتك، لكن هذا اللقب أسهل من اسمك الغريب. ومع ذلك لا أنكر أنني أشعر بالفضول حول معناه. ما معنى نهيدة؟”
رمشت عدة مرات وكأنها تحاول التأكد مما رأت. رسمت نصف ابتسامة مرتبكة، وعيناها تجولان في المكان. لم تكن معتادة على أن يسألها أحد عن معنى اسمها الغريب. أجابته:
“يعني الزبدة الجامدة، وأيضًا لباب الحنظل الذي يُعالج بالدقيق ثم يؤكل. يتم وصفه عادة للفتاة ذات المكانة العالية والرفيعة، وأحيانًا يشير إلى الرقة والأنوثة.”
اتسعت ابتسامة تيمور، وامتدح معنى اسمها قائلًا:
“اسم جميل للغاية ومميز. زوجتي حامل الآن، ولو كان الذي في بطنها أنثى سأطلق عليها هذا الاسم، لأنني أحب الأسماء المميزة.”
ضحكت نهيدة ضحكة مكتومة وقالت:
“أتمنى أن تقوم زوجتك بالسلامة، وأن يكون الطفل بكامل صحته.”
بعد أن شكرها تيمور على أُمنياتها الطيبة، أخذها إلى حيث توجد غرفة النوم التي ستقضي ليلتها فيها.
كانت الغرفة واسعة للغاية، أوسع من منزلها، لها شُرفة طُوّقت بستائر مهترئة كانت بيضاء في ما مضى، ذات إطلالة على الأطلال.
أما السرير فكان واسعًا ذا أربعة أعمدة، وعلى ما بدا لها أن تيمور قد نفض الغبار عنه في المرة الماضية التي كان فيها هنا.
تركها تيمور في هذه الغرفة، وذهب ليجد له أخرى يرتبها وينام فيها.
ظلت نهيدة تتأمل المكان، وبدأ خيالها يُحرّك كل شيء في هذه الجدران من نقوش وأقمشة، وبدأت تفكر بعدد الرجال والنساء الذين ناموا في هذه الغرفة سابقًا.
أبعدت غطاء الرأس البني عنها، وضعته على أحد الكراسي القديمة، واستلقت على السرير، ناظرة إلى السقف.
كان السقف جميلًا للغاية، مصبوغًا بلون أزرق داكن لم يتأثر بالزمن، تزينه رسومات ذهبية على شكل تنانين وطيور نارية تطلق اللهب في كل جهة. مما جعل نهيدة تفكر في قصة هذه الرسومات، وتتخيل أن هذه الكائنات الأسطورية تتحرك.
بعد مدة لا بأس بها أغمضت جفنيها، بينما الابتسامة لا تفارق محياها.
………..
في القرية
كان سهيل جالسًا في غرفة النوم الخاصة بنهيدة، وفي يده عقدٌ ذهبي يشبه الذي أهداه لها هذا الصباح.
أخذ نفسًا طويلًا، ثم نظر إلى الفتحة الصغيرة التي يُقال عنها نافذة بالنسبة لهذا المكان الحقير، وقد لاح في وجهه التأمل.
كانت القرية هادئة للغاية، لدرجةٍ موحشة، ولأول مرة منذ وقتٍ طويل شعر أنه وحيد حقًا.
البيوت امتلأت بالناس، لكنها فارغة من الأصوات.
الأصوات التي تجعله يشعر بالحنين والانتماء إلى أصوله البعيدة عن هنا.
عيناه تلمعان بدموعٍ محبوسة، لكنه لم يرمش كي لا تنهمر على خديه. وأطلق نفسًا طويلًا على أمل أن يُخفف ضيق صدره، لكن لا فائدة من ذلك.
استلقى على السرير، وهمس لنفسه متحسرًا:
“متى سأعود إلى هناك؟ عمري يضيع هنا.”
□●□●□●□●□●□●□●□●□●□●□●□●□●□
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 8"