هل رأيتَ في حياتك كلّها شخصًا يحتفل بالموت؟ ويعتبره مرحلة الوصول إلى الكمال؟
كان أبناء قبيلة الوهج يفعلون ذلك.
فبمجرّد أن يدخل أحدهم عقده الثالث، يُقام احتفال بالقرب من الكهف، لأن هذا الشخص سيذهب قريبًا إلى جانب أجداده وأحبّائه الذين فقدهم.
وهذا ما جعل هامد سعيدًا؛ لأنه سيذهب إلى عند أبنائه الذين فقدهم في تلك الحادثة القاسية.
—
بمجرّد أن أُسدِل ستار الليل، أشعل أفراد القبيلة شُعلاتهم وذهبوا إلى مكان المراسم الأخيرة.
دُقّت الطبول، وبدأ الاحتفال بالرقص. كان حاملو الشُّعلات يحرصون على ألّا يحترق أحدٌ بالنار، وفي هذه الأثناء، جلس بعض الناس على الأرض متكئين على وسائد صوفية، بينما كان الآخرون يرقصون ويغنون احتفالًا بهامد.
الرجل الذي كان جالسًا على الأرض، مرتديًا ملابس بيضاء، ظهرت على وجهه ابتسامة متكلّفة، يحاول بها ألّا يُظهر توتّره.
على جانبه الأيمن جلست نُهيدة، ولم تستطع إبعاد نظرها عنه؛ أرادت أن ترى كلّ تعبير يترسم على وجهه، وتحاول أن تقرأ أيّ مشاعر قد تلاحظها، على أمل أن تفهم ما يدور في صدره.
لقد أخبرها هامد أنه قد تقبّل مصيره، وهذا ما يجب أن يفعله أيُّ فردٍ في القبيلة.
عندما قال لها هذا الكلام، فضّلت نهيدة أن تسكت بدلًا من قول جملةٍ متهكّمة تنتقد فيها أسلوب الحياة هذا، الذي لطالما رأته عقيمًا كرحمها، وحاولت أن تُبيّن له أنها ستتقبّل رحيله ولن تشعر بالأسى عليه.
على الرغم من كونها لا تحب هامد، لكنها، ولسنوات، اعتبرته فردًا من عائلتها، وأرادت أن تعوّضه عن الأطفال الذين خسرهم قبل أن يأتي موعد رحيله، لكنها لم تستطع منحه ما يريد.
لذا اعتقدت نهيدة أن زوجها قد تقبّل مصيره، لأنه لا يملك ذرية يخشى تركهم وحيدين.
ربما يمكننا أن نُحسّ بحبّه للحياة، لكن هذا لم يعد يهمّه بعد اليوم.
لكن، ماذا عنها هي؟
هزّت رأسها محاولة إبعاد هذه الأفكار، ثم أشاحت بنظرها عنه، ملتفتة إلى يمامة التي كانت تجلس بجانبها، وعلى حِجرها جلس ابنها ذو الثلاثة أعوام، “بسيم”.
كانت يمامة، هي الأخرى، تبدو مثل أخيها هامد، لكن وجود هذا الطفل الصغير بين ذراعيها جعل بالها ينشغل قليلًا، بينما تستمع إلى حديث ابنها اللطيف وضحكاته.
ارتسمت على وجه نهيدة ابتسامة عريضة من دون أن تشعر، عندما سمعت حديث بسيم مع والدته. لم تستطع منع يدها عندما رأت تلك الخدود الممتلئة، فمدّتها وقرصت خديه، مما جعل الطفل يضحك بصوتٍ أعلى.
نظرت يمامة إليها وقالت بصوتٍ منخفض، اختنق من المشاعر التي تحاول كبتها في داخلها:
“هل أنتِ متوترة وخائفة مما قد يحدث لاحقًا؟”
رمقتها نهيدة بنظرة خاوية من أي نوعٍ من المشاعر. كلمة توتر أو خوف لم تكن الوصف الدقيق لما يدور في قلبها، كانت تشعر بالحيرة.
اكتفت بهزّ رأسها والإجابة بـ “نعم”، بدلاً من البوح بشيء قد لا تفهمه هذه المرأة.
اقتربت يمامة منها بشكل أكبر وهمست لها:
“سوف أخبرك بشيء، لكن لا تُخبري أحدًا. إذا علم زوجي أنني أخبرتك، فسوف يخاصمني.”
عقدت نهيدة حاجبيها وسألت:
“وما هذا الشيء الذي قد يجعل زوجك يخاصمك إذا أخبرتِني به؟”
قالت يمامة، والابتسامة التي ارتسمت على وجهها كانت قادرة على تليين الحجر:
“لقد أخبرني زوجي أن هناك احتمالاً كبيرًا أن يصبح بسيم أحد الواعظين.”
لم تكن ترغب بشيء في هذه الدنيا بقدر ما ترغب أن يكون بسيم واعظًا في المستقبل.
لكن في المقابل، تلاشى كلُّ تعبيرٍ يدل على السعادة من وجه نهيدة. نظرت إلى الطفل الصغير، ولم تستطع تخيّل هذا الكائن الظريف يتحول إلى شخصٍ كاذب لا يُطاق.
كانت تكره جميع الواعظين منذ زمنٍ طويل، وكرهتهم أكثر بعد أن صار أخوها واحدًا منهم.
شقيقها الأكبر سُهيل ، كان شابًا مُفعمًا بالحيوية قبل أن يموت والداه ، لكن عندما رحلا قرر ترك اخته و الذهاب إلى دار الواعظين؛ حتى يصبح واحدًا منهم .
بعد أن ذهب ظلت نُهيدة وحيدة ، و لم ترى شقيقها منذ ذلك اليوم ، مما جعلها كرهها للواعظين يزداد بشكلٍ أكبر .
أفاقت نُهيدة من دوّامة أفكارها عندما اقترب رجل من جانب هامد وهمس له بكلماتٍ سَمِعها كلُّ من أُقيمت له هذه الطقوس قبله. ظلت نُهيدة مركّزةً على ملامح جسد هذا الرجل، محاولةً أن تعرف إن كان أخاها أم لا.
لم يكن هو.
كان هذا الرجل نحيلَ الجسد، قصيرَ القامة، حتى إن طريقة مشيه لا تُشبِه مشيَ “سهيل”.
بعد أن همس الواعظ في أذن هامد، أدار وجهه المغطّى بوشاحٍ أبيض تتدلّى منه سلاسلُ نحاس، وقال بصوتٍ جهوري:
“ابعدوا النيران عن الطريق.”
امتثل حاملو الشُعلات لأمره، وابتعدوا عن الطريق ليفسحوا لهامد المجال للسير نحو الكهف، دون أن يتعرض جسده للحروق بسبب النار.
عندما نهض هامد، ألقى نظرة أخيرة على زوجته وأخته، وابتسامة لا تفارق وجهه، يحاول من خلالها إخفاء توتره.
بدأ يسير بخطواتٍ بطيئة نحو الكهف، وظلت نظرات نُهيدة تلاحقه دون أن ترفّ.
شعرت بتوترها يتصاعد، وضربات قلبها تتسارع بشكلٍ غير طبيعي، حتى بدأت يداها بالارتجاف. أحست وكأنها هي من تسير في ذلك الطريق.
بدت لها المشاعر التي تملأ قلبها كأنها ذاتها التي يعيشها هامد في تلك اللحظة.
بمجرد أن دخل هامد إلى الكهف، ارتجف جسده بسبب برودة المكان، ونظر حوله محاولًا أن يرى كيف يبدو.
كان الكهف واسعًا للغاية من الداخل، تعكس أضواء المشاعل المعلّقة على جدرانه وهجًا أقرب إلى الذهبي. وكانت أسماء الموتى مكتوبة على الجدار الضخم.
كان منظر هذه الأسماء، والكفوف المطبوعة على الأرض، كفيلًا بأن يُقشعر له البدن.
أخذ الخنجر الذي ناوله له الواعظ قبل أن يبدأ مسيرته، وجرح يده اليسرى، ثم اقترب من جدار الأسماء وبدأ يكتب اسمه بإصبعه المرتجف.
انتابه دوار مزعج، وألم حاد في خاصرته، لكنه تجاهل كل ذلك واستجمع قوته ليُتمّ هذه المراسم على أكمل وجه.
بعد أن كتب اسمه، طبع كف يده اليمنى على الأرض بعد أن غمسها في وعاء الحناء.
ظل جاثيًا على ركبتيه، واضعًا كلتا يديه على الأرض، وطارحًا رأسه نحو الأسفل.
بدأت أنفاسه تزداد ضحالة، وشعر بأن كل جزء من جسده يشتعل بحرارة تفوق لهب المشاعل.
ظل على هذا الوضع، يكافح من أجل النهوض، لكن دون فائدة؛ ظل يلهث أنفاسه الأخيرة إلى أن شعر بالظلام يحيط به من كل جهة، ويجرّه نحو وجهة اللاعودة.
كان عقل هامد يقاوم الفكرة، وجسده يرفض الاستسلام. استجمع كل قواه في ساقيه محاولًا أن ينهض ويخرج من هذا المكان، لكن دون جدوى.
سقط جسده على الأرض… ولم ينهض مرة أخرى.
في الخارج
بينما كان معظم الحاضرين يرقصون على وقع الطبول، ظلت نهيدة واقفة، لا تفارق نظرها فتحة الكهف، تنتظر خروج زوجها… لكنه لم يخرج.
شعرت بالقلق يتسلّل إليها شيئًا فشيئًا، وبدأت ضربات قلبها تتسارع.
كان هناك أمر غير طبيعي يحدث.
لاحظت يمامة توتر نهيدة، فنظرت إليها، لكن قبل أن تنطق بكلمة، سبقتها نهيدة قائلةً:
“هناك أمرٌ مريب يحدث في ذلك الكهف.”
وقفت يمامة بجانب صديقتها، ونظرت هي الأخرى نحو الكهف، محاولةً استغلال قوة بصرها، وواجهت صعوبة في البداية، لكنّها استطاعت أن تميّز ما يحدث في الداخل.
شهقت يمامة وقالت:
“أخي… إنه ملقى على الأرض!”
بمجرد أن نطقت بهذه الكلمات، اندفعت نهيدة من مكانها، وبدأت تجري نحو الكهف بأقصى سرعة.
لم تكترث لنظرات الآخرين، ولا لصيحات الواعظ وهو يأمرها بالتوقّف؛ كل ما كان يهمّها هو أن تُخرج هامد من هناك.
ركضت حافية القدمين، دخل الرمل بين أظافرها، وامتلأت قدماها بالخدوش من الأحجار والحصى القاسي…
لكن كل ذلك لم يكن مهمًا.
عشرات الأفكار كانت تدور في رأسها، وبدا لها وكأن المسافة بين مكانها والكهف تتطلب سنواتٍ للوصول إليه.
وعندما وصلت أخيرًا، التقطت أنفاسها، ونظرت يمينًا ويسارًا، باحثةً عن هامد.
عندما رأت جسده مُلقى على الأرض، سارت نحوه، وحاولت أن تُهدئ من روعها؛ على أمل أن يكون هذا مجرد غياب عن الوعي.
لكن ما رأته كان مُفجعًا.
كان جسده ساكنًا، لكن ملامحه مشدودة، وكأن الألم لا يزال عالقًا في عينيه.
اقتربت نهيدة، وخرجت منها صرخة صغيرة حين رأت الدماء السوداء تتسرب من فمه وأنفه وأذنيه، كأن نيرانًا قد غلت في داخله حتى تمزقت أعضاؤه.
رائحته كانت كرائحة لحمٍ محروق، والدخان الخفيف المتصاعد من صدره زاد المشهد فظاعة. لم تكن هناك جروح خارجية واضحة، لكن جلده بدا مشقوقًا عند البطن والصدر، كأن الحرارة قد شقّته من الداخل ببطء.
كانت يداه منقبضتين على صدره، وأصابعه متشنجة، وكأنه حاول أن يُمسك بشيء في لحظاته الأخيرة… شيء خفي كان ينتزع روحه قطعةً تلو الأخرى.
تجرأت نهيدة واقتربت من الجثة، جثت على ركبتيها، ومدّت يدها المرتعشة بشكلٍ جنوني نحو وجهه. وبمجرد أن لمست بشرته، بدأت ذكرياته الأخيرة تدور في رأسها.
أتتها رؤية، وكأنها كانت مكانه وشعرت بكل ما فعله، لكن عندما طبع كفه على الأرض وبدأ يشعر بالألم، تسلل هذا الإحساس إلى جسدها.
أبعدت يدها عن وجهه على الفور، عندما بات الألم لا يُطاق، ثم وضعت كلتا يديها على رأسها وبدأت الدموع تنهمر على خديها.
لم تعد تتحمّل أكثر، فأطلقت صرختها المكتومة.
صرخة تردد صداها في الكهف وخارجه، مما جعل كل من في الخارج يسمع نحيبها. وبدأت يمامة تبكي هي الأخرى عندما أدركت ما حدث لشقيقها.
ظلت نهيدة تبكي وتنتحب، والذكريات التي تدفقت إلى رأسها زادت من عذابها؛ تذكّرت عندما رأته أول مرة، وكيف كان سندًا لها بعد أن خسرت والديها، وكيف كان يُحكم غطاء القِدر عندما تنشغل، أو يضع يده على رأسها عندما تعاني من الصداع.
لم يكن زوجًا مثاليًا، لكنها الآن تتمنى لو تسمع صوته مرة أخيرة.
هزت رأسها، محاولة رفض ما يحدث، وكأن عقلها لا يتقبّل ما تراه.
فتحت جفنيها عندما سمعت صوت خطوات تقترب منها.
لم تكن رؤيتها واضحة بسبب الدموع التي ملأت عينيها، لكنها استطاعت أن تعرفه من مشيته، على الرغم من الوشاح الذي غطّى وجهه.
لقد كان سهيل.
◇◇◇◇◇◇
ما رأيكم بالفصل
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "2"