حَلّقت في السماء، داعبت الرياح وجهها وتمايل شعرها الداكن كستارة حريرية سوداء.
شعرت بالحرية كما لم تشعر بها من قبل.
مَدت يدها، وكانت على وشك أن تلامس الغيوم التي أَمْست صفراء وبرتقالية بفعل ضوء الشمس.
لكن قبل أن تلامس أصابعها ملمس الغيوم الجميلة، هبط جسدها وسقطت.
♤♤♤
أفاقت نُهيدة من نومها، وقد كان جسدها يرتعش؛ لا تزال تشعر بإحساس السقوط الذي انتابها في الحلم، والخوف تسلل إلى صدرها، حتى بعد إدراكها أن كل ما حدث مُجرد حلم.
حلم مزعج آخر.
مَسحت العرق عن جبينها، ثم نظرت حولها باحثة عن زوجها. لكنه لم يكن له أي أثر في الغرفة.
كانت الغرفة صغيرة المساحة، في بيتٍ مصنوع من الحجر الرملي والطين، مُزينة بمفروشات صوفية حمراء بها نقوش صفراء. وفي وسطها وُضع الفراش ذو القماش البارد، وقد كانت نُهيدة جالسة عليه.
نهضت من مكانها بخطوات متثاقلة، خرجت من الغرفة، باحثة عن زوجها. لكنه لم يكن موجودًا في البيت.
أطلقت تنهيدة طويلة؛ عندما أدركت أنه خرج من المنزل منذ الصباح الباكر، لذا توجهت إلى حافظة الماء الفخارية وغسلت وجهها حتى تفيق.
نُهيدة امرأة قد دخلت العقد الثاني من عمرها منذ أيام.
كانت إمرأة طويلة القامة، بشرتها برونزية دافئة؛ بسبب تعرضها الدائم لشمس الصحراء، شعرها أسود طويل ذو خصلات متموجة، أما عيناها فكانتا ذات لون عسلي، يشبه لون العسل الذي يُحفظ في آنية زجاجية تسقط عليها أشعة الشمس.
بعد أن غيّرت ثيابها، وضعت وشاحًا أبيض على رأسها؛ لحماية شعرها من أشعة الشمس الحارقة.
خرجت من المنزل متوجهة إلى أحد المنازل المجاورة… طرقت الباب، وعندما فُتح، ظهرت أمامها أخت زوجها، يمامة.
كانت فتاة شابة في السابعة عشرة من عمرها، ذات قامة متوسطة، شعرها بني داكن، وعيناها شديدتا الزرقة.
ارتسمت على وجه يمامة ابتسامة طفيفة، مُرحبة بزوجة أخيها:
“أهلًا نُهيدة.”
ردت نُهيدة على تحيتها بإيماءة، وسألتها:
“هل أخوكِ هامد هنا؟”
هزّت يمامة رأسها، عقدت حاجبيها، وأجابت:
“كلا، لم أره اليوم. هل حدث خلاف بينكما؟”
“لا، لم يحدث شيء من هذا القبيل”، أجابت نُهيدة، وأضافت:
“أعتقد أنه متوتر بسبب اقتراب طقوس الوداع.”
ظهر الحزن في عيني يمامة، وأومأت متفهمة قلق وخوف أخيها المحتمل. ثم اقترحت على نُهيدة الدخول إلى المنزل، وأنها ستساعدها في إيجاد هامد.
صعدت كلتا المرأتين إلى سطح المنزل، وأخذت يمامة تنظر إلى القرية.
كانت قرية الجذوة تقع في منطقة صحراوية قريبة من نبع الماء الوحيد في هذه الصحراء، وبجوار الصخور الحمراء الضخمة.
حول هذه الصخور بُنيت منازل أبناء قبيلة الوهج. معظم هذه البيوت شُيّدت من الطين والحجر الرملي.
كانت يمامة تمتلك بصرًا خارقًا، يتفوق على جميع سكان القرية، وربما حتى على شعوب المملكة.
بعد أقل من دقيقة، استطاعت يمامة أن ترى شقيقها، وقالت:
“إنه يجلس بالقرب من الأطفال الذين يتدربون على مبارزة السيف. والابتسامة لا تفارق وجهه… يبدو سعيدًا.”
شعرت نُهيدة بالارتياح يغمر قلبها، وشكرتها قائلة:
“شكرًا لك.”
“لا داعي للشكر”، ردّت يمامة،
“إنه أخي، وقد قلقت عليه أيضًا. كنت سأبحث عنه حتى لو لم تأتي.”
اقتربت من آنية فخار كان فيها كمية قليلة من الماء، فأخذت الكوب المعدني وشربت ما تبقى من تلك المياه التي تحمل طعمًا مرًا طفيفًا.
نظرت نُهيدة إليها وقالت:
“يبدو أنك أنهيتِ حصتك من الماء قبل اليوم المحدد. يمكنني أن أعطيك بعض الماء من عندي حتى يأتي يوم توزيع الحصص.”
ابتسمت يمامة وشكرتها على كرمها، قائلة:
“أشكرك، لو لم تكوني موجودة، لكنت متّ عطشًا قبل أن أبلغ الثامنة عشرة من عمري!”
أطلقت ضحكة ساخرة وأضافت:
“لا يمكنني أن أكتفي بكأس ماء واحد في كل مرة أشرب فيها، رغم الطعم المُر المزعج.”
ثم نظرت إلى نُهيدة وسألتها:
“هل ستكونين موجودة في طقوس اليوم؟”
لم تستطع يمامة منع ارتعاش صوتها النابع من حزنها على أخيها؛ كانت تكره فكرة أنه سيودّعها إلى الأبد، وتظل وحيدة تمامًا بلا عائلة.
شعرت نُهيدة بحزن المرأة الواقفة أمامها، وتفهمت سبب سؤالها؛ لأن يمامة كانت تعرف أن زوجة شقيقها لا تحبه، ولا تكنّ له أي مشاعر عاطفية.
لكنها كانت تأمل أن تظل هذه الزوجة بجانب أخيها في رحلته الأخيرة.
“أجل، سأكون هناك… هامد زوجي، ومن واجبي أن أكون معه في آخر أيامه.”
قبل أن تقول يمامة أيَّ شيءٍ آخر، ابتعدت نُهيدة، وخرجت من المنزل، متوجهةً إلى المكان الذي يوجد فيه زوجها.
أثناء سيرها، ظلّت تتذكر ما حدث معها في السنوات السابقة، وظلت تُفكر في البلاء الذي تحكَّم بهذه القبيلة منذ قرونٍ طويلة.
كان أبناء وبنات قبيلة الوهج يموتون في عمرٍ مبكر مقارنةً مع الأجناس الأخرى، وحتى البشر الآخرين في المملكة، والحد الأقصى لسنوات حياتهم ثلاثون أو اثنتان وثلاثون سنة.
بسبب قِصر عمرهم، يُقدّر أفراد قبيلة الوهج اللحظات والذكريات أكثر من أي شيءٍ آخر. لديهم فلسفة حياةٍ خاصة تدور حول العيش بشكلٍ مكثّف، والانغماس في التجارب الجديدة دون خوفٍ من الموت.
لكن قبل أن يدخل الشخص منهم في عقده الثالث، تبدأ صحته بالتدهور شيئًا فشيئًا، وعندما يُصبح عمره ثلاثين عامًا، تُقام له طقوسٌ خاصة؛ حتى يظل اسمه في ذاكرة الأجيال القادمة التي ستبحث عن أسماء أجدادها.
في هذه الطقوس، يُحتفل بحياة الشخص، ويُكرَّم بأعلى درجات الاحترام، بينما يقوم أفراد القبيلة بأداء رقصة النار، في الوقت الذي يسير فيه الشخص المعني إلى الكهف المسمّى بـ “الوجهة الأخيرة”.
هناك، يقف الشخص وحيدًا، يجرح نفسه، ويكتب اسمه على جدار الموتى، ثم يطبع كفّ يده على الأرض بعد أن يضعها على صبغة الحنّاء الموجودة في وعاء الكهف.
بعد هذا، يخرج من الكهف ويبدأ بالرقص مع الآخرين.
ومن بعد ذلك اليوم، يبدأ بانتظار يوم موته.
حتى تنجو هذه القبيلة من الانقراض، كان أفرادها يتزوجون بمجرد أن يصلوا إلى مرحلة القدرة على الإنجاب.
تزوجت نُهيدة من هامد قبل خمس سنوات، حينها كان الأخير ضائعًا وحزينًا؛ فقد خسر زوجته وأبناءه بسبب أحد وحوش الصحراء.
كان هامد يخشى أن يظل بلا ذرية، لذا عرض على نُهيدة الزواج.
وقتها، كانت نُهيدة قد خسرت والديها هي الأخرى، وحيدة تمامًا؛ لذا وافقت على عرضه في سبيل الحصول على أسرة، وأيضًا لأنها أحست بالشفقة تجاهه.
لكن لم تسر الأمور كما هو مخطط لها؛ إذ لم تستطع نُهيدة أن تنجب له أي أطفال.
كان هامد مستاءً في البداية، لكنه تقبل الأمر لاحقًا، وقرّر أن يستقبل موته وفناء نسله بصدرٍ رحب.
وقع نظرها على أحد الواعظين، كان يرتدي زيًّا أبيض ويغطي وجهه بقماشٍ رمليّ اللون، ويده لا تخلو من الخواتم الفضية.
كان عدد الواعظين في هذه القبيلة لا يتجاوز العشرة، يعيشون في كهف “الوجهة الأخيرة”، ولا يُسمح لأي شخص بدخوله سوى مَن تُقام له طقوس الوداع.
كانوا أيضًا مسؤولين عن توزيع حصص الماء على أفراد القبيلة.
خلال النهار، كان الواعظون يسيرون في القرية، في سبيل نشر الموعظة بين الأطفال والشباب الذين بلغوا سن الرشد، حتى يتقبل هؤلاء فكرة الموت المبكر ومصيرهم المحتوم.
لطالما شعرت نُهيدة بالغضب والاشمئزاز منهم؛ كانت تراهم مجرد متلاعبين يحاولون إطفاء رغبة الأجيال الجديدة في العثور على حل يُخلّص القبيلة من هذه اللعنة.
أبعدت نظرها عنه، بمجرد أن شعرت أن الواعظ أحس بوجودها، ثم استأنفت طريقها، سائرة إلى عند زوجها.
عندما رأته، لاحظت ابتسامته التي لا تخلو من المرارة والحزن، بينما ينظر إلى الأطفال، مما جعلها تشعر بالذنب؛ لأنها كانت عاجزة عن منحه الأطفال الذين أراد الحصول عليهم.
كانت مجموعة الصبيان يلعبون بالعِصي، يتظاهرون أنهم في معركة، وقد منحت صرخاتهم وضحكاتهم بعض السلام لقلب الرجل الحزين، هامد.
كان اسمًا على مسمى، رجلٌ في عينيه سُكون الصحراء بعد العاصفة، لا يحمل في قلبه سوى بقايا الأشواق والذكريات. عُرف بحزنه الذي لا يراه أحد؛ إذ لا يفضح وجهه، ولا يبوح قلبه، لكن داخله كان عاصفة لا تهدأ. حمل اسمًا أهدته له الحياة بعد أن نضب في قلبه كل دموعه.
عندما شعر بجلوس زوجته بجانبه، قال من دون أن ينظر إليها:
“أردت فقط أن أرى الأطفال.”
أطلق نفسًا طويلًا، وأضاف:
“لقد كنت أفكر، ماذا لو رُزقنا بطفل؟ هل ستكون فتاة خجولة تلعب مع الفتيات وتَتَظاهر أنها أميرة؟ أم صبيٌّ مشاغب مليء بالحيوية، يتظاهر أنه في حرب دامية؟”
ارتفع طرف شفتيه الأيمن بمجرد أن تخيّل هذا المشهد.
أما نُهيدة، فلم تُظهِر أيّ ردّ فعل، كانت تنظر إليه وتشعر بالشفقة.
لكن وسط تلك الشفقة، كان هناك شيء آخر… شعور بالخذلان من نفسها، ومرارة العجز الذي التصق بها كظل لا يفارقها. أرادت أن تعتذر له، لكنها لم تجد الكلمات.
التفت هامد ناظرًا إلى زوجته، وقال: “أنا لا ألومك على قدري هذا.”
أراد أن يلمس يدها، لكنه لم يشأ فعل ذلك أمام الناس، فاكتفى بالنظر إليها، وكانت في عينيه مشاعر حب خالص.
“على العكس تمامًا… أنا محظوظ لأنني تزوجت امرأة مثلك. و راضٍ عن قدري “
نظرت نُهيدة إليه، وفي قلبها شعور حاد كالسكاكين.
كيف يمكن لرجل يبتسم في وجه موته، أن يواسي امرأة لم تستطع أن تهبه اي ذرية ؟
أرادت أن تقول شيئًا… أي شيء، لكن الكلمات خانتها. و لسانها عاجز أن لفظ اي كلمة تواسيه .
فاكتفت بأن تميل رأسها قليلاً، كأنها تُنصت لقلبه، لا لصوته.
عندما أعاد هامد نظره نحو الأطفال، أخذت نُهيدة نفسًا عميقًا وظلّت تتأمل ما حولها.
كان عالمها مُنحصرًا في هذه القرية البسيطة، التي لا يحيط بها سوى الصخور والرمال الصفراء، حيث حُكم على أفرادها بالموت في سنٍ مبكرة، وحيث الواعظون يُطفئون حماس الشباب، ويُقنعونهم بالاكتفاء بالنجاة لبضع سنوات، والتكاثر فقط كي لا ينقرض نسلهم.
شعرت أن الرياح بدأت تخنقها، وكل شيء من حولها بدا بلا قيمة.
أرادت أن تتخلص من كل هذا… وتغادر.
لكن،هل لديها وقتٌ كافٍ؟
◇◇◇◇◇◇◇◇
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "1"