حركتُ لساني المتجمد بصعوبة. نظرَ إليّ بليك بنظرة غريبة، لكنه بدا يعتقد أن ذلكَ بسببِ تعافيّ الحديث. قال بلطف:
“أن تأتي مسرعة بمجرد فتح عينيكِ، يبدو أنكِ اشتقتِ إليّ كثيرًا.”
“كانت السّيدة فلورنس مصرّةً على الذّهاب إلى منزل عائلتها منذُ اللّيلة الماضية. قالت إن الإنسان يشتاق لعائلته عندما يكون مريضًا. كم كانت مستعجلة لتجهيز نفسها بمجرّدِ استيقاظها…”
“بالطبع، العائلة هي الأهمّ. فلورنس، لقد فعلتِ الشيء الصحيح بالمجيء.”
ردّت هيلين نيابةً عني وأنا عاجزة عن إيجاد الكلمات. تمسكتُ بياقة بليك و أنا محتضنة من قبله. انحنى بليك قليلاً لينظر إليّ بقلق.
كانت عيناه الزرقاوان، المليئتان بالقلق، تحملان نفس لون عينيّ. شعرتُ بموجة من العاطفة ترتفع من أعماق صدري. تدفقت الدموع فجأةً.
فتحَ بليك عينيه على مصراعيهما وسحبني إلى حضنه، ثم، كما لو كان يهدئ طفلة، بحنان…
“لماذا تبكين، فلورنس؟ أختي الصّغيرة الحبيبة.”
“أخي…”
“هل أنتِ حزينة لأنكِ كنتِ مريضة؟ لقد عانيتِ كثيرًا. أنا آسف لأنني لم أستطع فعلَ أي شيء.”
“آه… آه…”
لم أستطع كبحَ دموعي. لكنني لم أرد أن يرى بليك وجهي الباكي، فدفنتُ وجهي أكثر في حضنه.
ظلَّ بليك يربّت على كتفي و ظهري ليهدئني، دونَ أي أثرٍ للانزعاج.
بل بدا سعيدًا بأنني أبكي في حضنه.
رفعَ بليك وجهي بكلتا يديه ممسكًا بخديّ. كان وجهي مغطى بالدموع وبالتأكيد قبيحًا، لكن عينيه الزرقاوتين كانتا تفيضان بالدّفء الذي لم أره من قبل قط.
“والدنا ينتظركِ أيضًا. هل ستقابلينه بوجه باكٍ؟”
“لا… لا…”
“توقفي عن البكاء إذن. آه، غريس قادمة لرؤيتكِ أيضًا.”
“أختي أيضًا؟”
“استيقظتِ بعدَ عشرة أيام، فكيف لا تأتي على الفور؟ مهما كانت مشغولة، هل هناكَ شيء أهم من أمور العائلة؟”
لا شيء أهمّ من أمور العائلة. كان هذا شعار بليك.
لقد كان دائمًا يعتز بوالدنا و أختنا.
منذُ خمس سنوات، أضيفت الأخت الصغرى فلورنس إلى قائمته، لكنه كان دائمًا شخصًا يقدر عائلته.
‘لماذا بكيتِ؟ ما الجيد في البكاء بين ذراعيه؟’
مسحتُ دموعي و دفعتُ بليك بعيدًا. بدا مترددًا وهو يشبكُ شفتيه، لكنه ابتسمَ برضا عندما رأى أنني توقفت عن البكاء.
“أريني وجهكِ المبتسم، فلورنس.”
“….”
“أحتاج لرؤية ابتسامتكِ لأطمئن.”
حاولتُ رفع زوايا فمي. لم أكن واثقة إن كنتُ أصنع ابتسامة صحيحة. لكن بليك ابتسم بلطف وقال:
“بالفعل، ابتسامتكِ تشبه ابتسامة أمنا تمامًا. جميلة، أختي.”
شعرتُ وكأن شخصًا أمسك برأسي و غمرني في ماء مثلج.
‘كيف لها أن تكونَ وقحةً إلى هذا الحدّ، تلكَ التي التهمت أمها عندَ ولادتها؟’
‘إلى متى ستظلّون تحتفظون بها في هذا المنزل؟ ألا يمكنكم إرسالها إلى مكانٍ ما؟’
‘إذا عبرتْ أمامي مرّةً أخرى، سأسحق وجهها الجميل بنفسي، لذا فلتعتني بنفسها. فهمتِ؟’
استعدتُ وعيي فجأة.
كان والدي ينتظر في غرفة الاستقبال.
“قلتُ إنني سأذهب لاستقبالكِ، لكن بليك أصر على أن أترك ذلكَ له.”
“أردتُ أن أحتفظ بوجهها المرحب به لنفسي. يمكنكَ، كسيد المنزل، أن تستقبلها بوقارٍ وأنتَ.جالس.”
“هل هذا احتجاج لتسليمِ اللّقب لكَ بسرعة؟”
“مستحيل. أريد أن ألهو بحريّةٍ أكبر. أعتمد عليكَ، أبي.”
“يا لكَ من وقح. تربية ابن لا فائدة منها.”
استمرَّ الحديث الحنون بمرح.
في نهايةِ الحديث، نظرَ والدي إليّ وسأل:
“الإبنة دائمًا هي الأفضل ، أليس كذلك؟”
لم أكن متأكّدةً إن كان يتحدث إليّ، فأومأتُ بعينيّ مرتبكة.
كانت أفكاري مشوشة. لم أستطع إخفاء ارتباكي وقلت ببلاهة: “أه، نعم.” و ضحكتُ. نظرَ والدي إلى وجهي بقلق و أصدر صوتًا باللسانه.
“ذلك الـ لينوس، قال إنه لن يجعلكِ تعانين أبدًا عندما أخذكِ.”
“لم أعانِ…”
“أن تظلي فاقدة للوعي لأكثر من عشرة أيام هو معاناة. كدتُ أفقدكِ، لا تعرفين كم كنتُ قلقًا.”
“أبي…”
“انظري إلى وجهكِ النحيف، بليك. جاءت في الوقت المناسب. إذا جاءَ لينوس يبحث عن فلورنس، لا تفتح الباب أبدًا، فهمت؟”
“اترك ذلكَ لي!”
أومأ بليك بحماس. ربّتَ والدي على خدي بحنان.
كانت يده الكبيرة أصغرَ قليلاً من يد بليك، لكنها أكثر دفئًا بكثير.
أمَلتُ رأسي مستندة على يده.
“بعد مرضكِ، أصبحتِ أكثر دلالًا، يا ابنتي.”
قال والدي وهو ينظر إليّ. كدتُ أبكي مجددًا.
‘ابنتي. ابنتي…’
“احترس، أبي. فلورنس كانتْ تبكي منذُ قليل…”
“أخي!”
“حسنًا، حسنًا. أبي يعرف بالفعل من عينيكِ الحمراوين، يا عصبية.”
غمٕزَ بليك بشقاوة.
كما قال، بدا أن والدي يعرف كل شيء، ففرك عينيّ بإبهامه. تدفقت الدّموع المتبقية في لحظة. أخفضتُ رأسي و دفنتُ وجهي في كفيّ.
احتضنَ والدي كتفي. لأوّل مرة، عرفتُ حضن والدي.
كنتُ بائسة.
لكن في الوقت نفسه، كنتُ سعيدةً.
كان هذا المشهد الذي تمنيته و حلمتُ به طوال حياتي. لو أنني أستطيع أن أكون محبوبة من عائلتي، أن أكون جزءًا من إطار هذه العائلة، لكنتُ بِعتُ روحي للشيطان.
التعليقات لهذا الفصل " 10"