الفصل 134
نظر جان إلى الوعاء أمامه.
الماء الصافي في داخله كان ساكنًا تمامًا.
‘روح الماء، روح الماء…’
حرّك السطح براحة يده قليلًا، ثم ضربه بخفة، لكن لا شيء.
‘روح الماء، هاه…’
“أم، حسنا… أيتها الروح المائية الجميلة والمشرقة؟”
توقف لحظة، مترددًا.
جميلة ومشرقة؟ حقًا؟
“آه، بحق…”
حكّ رأسه بقوة. مفرداته المحدودة لا تساعده أبدًا. شعره الأحمر ظل شامخًا كالعادة، مهما فعل.
“ربما أطلب من نينا أن تكتب التعويذة بدلًا عني، هي تجيد هذه الأمور.”
عندما كانت نينا أو الدوق ينطقون بالتعاويذ كانت الكلمات تخرج قوية، مهيبة.
لكن عندما يحاول هو، يشعر وكأنه يتلو شيئًا سخيفًا. جسده كله ينكمش من الإحراج.
“آااه!!”
كان يوشك على اقتلاع شعره عندما سُمع طرق على الباب.
“جان؟ هل أنت بالداخل؟”
“ها؟ أأه، نعم!”
أسرع يضع الوعاء على الأرض عند قدميه وقال لها أن تدخل.
دخلت نينا، تتفحص الغرفة المرتبة كما هي دائمًا، بفضل الخدم الذين ينظفون صباحًا ومساءً.
“ما الأمر؟”
“اللورد لويس يريدك.”
“اللورد لويس؟”
“نعم.”
ابتسمت بخفة.
“يبدو أن الأمر يتطلب وجودي أنا وأنت.”
“آه!”
قفز جان من مكانه، مستوعبًا فجأة، لكن في حركته العجولة ركل الوعاء.
طنّ صوت المعدن الحاد، والماء انسكب على الأرض.
“آخ…”
أمسك بقدمه متألمًا، بينما نظرت نينا بقلق.
“أنت بخير؟”
“بخير تمامًا، ألم تافه فقط…”
“ولِمَ تضع الوعاء عند قدميك أصلًا؟”
“كنتُ فقط…”
تلعثم قليلًا، فتألقت عينا نينا بخبث.
“كنتَ تحاول استدعاء روح الماء، أليس كذلك؟ ها؟ ها؟”
“اصمتي.”
أشار لها بيده لتبتعد، وفتح خزانته.
خلع سترته وقميصه، كاشفًا عن جسده المشدود وعضلاته العريضة وآثار الندوب القديمة.
قالت وهي تراقبه.
“لمَ لم تسألني؟”
“أسألك عن ماذا؟”
“لا شيء.”
رفعت كتفيها بابتسامة صغيرة. لم تكن تنوي الإلحاح عليه.
بدلًا من ذلك، بدأت تتحدث بعفوية.
“تتذكر عندما كنا نتكلم عن أرواح الماء؟ فكرت في شيء. عندما أسمع ’روح الماء‘، أول ما يخطر ببالي هو… الخيول.”
ربما بسبب ألوان وحيدات القرن.
أو بسبب الـ كيلبي¹، تلك الأرواح التي تتخذ شكل خيولٍ من الماء.
“خيل؟”
رفع جان حاجبه وهو يرتدي قميصه الكتاني.
“نعم. قوية، سريعة، لا يوقفها شيء. تجتاح كل ما أمامها، لا تعترف بالعقبات.”
كانت تعدّد على أصابعها.
“تهبط من الأعالي إلى المنخفضات، تلطّف الحاد، وتفكك الصلب.”
“هممم…”
تظاهر باللامبالاة، لكنه كان يستمع باهتمام، فتوقفت يداه عن الحركة.
اقتربت نينا تضحك بخفة، وأخذت تغلق أزرار قميصه بدلًا عنه.
“الماء النقي يطهّر كل شيء، أليس كذلك؟ هو منبع الحياة… لكن في الوقت نفسه، كثير من الكائنات لا تستطيع العيش فيه.”
الفصل بين الطاهر والنجس هو جوهر التطهير. فالفصل هو البداية لكل نقاء.
ضربت صدره بخفة بعدما أتمّت إغلاق الأزرار، وقالت بابتسامة هادئة.
“ها قد انتهيت. البنطال والحذاء… دبرهما بنفسك.”
“وهل طلبتُ منكِ أن تفعلي؟”
تمتم جان بضجر وهو يبحث عن حزامه، ثم رمق نينا بنظرة ضيقة.
“اخرجي، قليلًا.”
“ألا يكفي أن أستدير فقط؟”
“لا. اخرجي، اخرجي، اخرجي.”
“تسك…”
دفعتها يداه إلى الخارج، فانتظرت نينا أمام الغرفة حتى ينتهي من تجهيز نفسه.
بدأت تسترجع حلم البارحة.
لم يكن غريبًا كثيرًا.
في فضاء أبيض ناصع، لم يظهر سوى صوتان؛ صوتها وصوت آخر مألوف سمعته من قبل في أحلامها القديمة.
ـ أمنحك بركتي. كل ما تتحدثين به بصدق، سيُسمع بصدق، أياً كان المستمع أو الموقف.
ـ أليس هذا غير كافٍ؟
ـ من ينال بركة الروح العظمى، تميل إليه الكائنات بالمودة، لذا…
ثم انقطع الصوت، وانتهى الحلم.
الروح العظمى.
فجأة بدا الطرف المقابل ضخمًا جدًا.
‘الروح العظمى وأنا؟ بركة؟ وأن كلامي يُسمع بصدق؟’
همم… جميل، لكن…
‘المشكلة أني لا أعرف إن كان هذا حقيقيًا أم مجرد حلم.’
‘لنفترض أنه أمر جيد وحسب.’
ما كان أكثر اثارة للقلق هو “الروح العظمى” نفسها قد حدثتها.
في تلك اللحظة، خرج جان مرتديًا درعه الخفيف. قطّب حاجبيه وهو ينظر إلى زي نينا.
“أهذا كل ما ترتدين؟”
“نعم، هذا كل شيء.”
“على الأقل ارتدي واقيًا للصدر والكتفين. إن أُصبتِ بطعنة فالأمر ينتهي.”
“أُفضِّل الخفة. حتى لو زاد عتادي، قدرتي على التحمل تبقى كما هي.”
“هذا مقلق.”
“لدي الأرواح، أليس كذلك؟”
رفعت معصمها تُريه النقش المتوهج. عبس جان قليلًا، غير مقتنع.
قدّمت نينا حلًا وسطًا.
“سأرتدي سترة الفروسية تحتها.”
“جيد.”
كان نسيج زيّ الفرسان قد تطوّر كثيرًا؛ مقاومًا للنار ولشفرات السيوف.
صُنع ليصمد أمام معظم الأسلحة ومخالب الوحوش من الدرجة B وما دون.
لكنه لا يمتص الصدمات، بل يخففها فقط كضربة عصا بدل شفرة.
ارتدت نينا السترة تحت التونيك، فقال جان وهو يتأمل شكلها المنتفخ.
“يبدو أنك ترتدين شيئًا تحتها.”
“ألستُ فعلاً أرتدي شيئًا تحتها؟”
جحدته بنظرة جانبية، فقاطع لويس حديثهما بظهوره.
“ها أنتما. هل حالكِ جيد يا نينا؟”
ابتسم بخفة. تبادلا النظرات، ثم أجابت نينا بإيماءة.
“تعافيت تمامًا.”
وقف جان بتردد، وكأنه يفكر بالتحية العسكرية، ثم قال.
“هل هناك أمر ما؟”
ضحك لويس قليلًا.
“هل أفزعتكما إلى هذا الحد؟”
قالت نينا بنبرة مازحة.
“مر زمن طويل منذ رأيناك بزي الفرسان. وليس زيّ فرسان الظلام حتى. هل التحقت بأحد دون إذن السيد الشاب؟”
رفع لويس كتفيه بابتسامة.
“اشتريت هذا فقط لأنه مريح للحركة.”
“إذًا، هل تحتاج إلى نينا وجان، أم إلى القائدة ونائب القائدة من فرسان الظلام؟”
كان السؤال معروفًا، لكنها أرادت تأكيده.
ابتسم لويس بخفة.
“نينا وجان فقط يكفيان.”
***
أطلق جان صفيرًا خافتًا.
“مذهل.”
تردّد صوته في المجرى المائي الواسع تحت الأرض. حدقت نينا بدهشة.
“لم أتخيل أن شيئًا كهذا موجود تحت أقدامنا.”
“لا أحد يعرف من بناه، لكنه الآن مهجور.”
تألقت عينا لويس البنفسجيتان وهما تراقبان الاثنين.
“من سنقابلهم الآن… لا حاجة لترك أحد منهم حيًا.”
تبادلت نينا وجان النظرات، ثم أومآ له بالموافقة.
كانت المياه الضحلة تغطي الأرض، ومع ذلك لم تُسمع أي رشقات ماء تحت خطاهم.
لويس كان يسير بثقة، كم حفظ الطريق المتشعب دون تردد.
عندها لمحَت نينا أول هدف.
أخرجت خنجرها، فالمكان الضيق يجعل السيوف غير عملية.
أشارت بأصابعها أنها ستتكفل به، ثم انطلقت بخفة قط، وأنهت حياة فريستها بصمت.
_____
¹: في أساطير اسكتلندا: الكيلبي روح مائية على هيئة حصان.
التعليقات لهذا الفصل " 134"