ثم أدّت تحية رسمية مثالية كما تقتضي آداب البلاط، وقفزت بخفة، تاركة باراديف يحدّق نحو المكان الذي اختفت فيه، قبل أن يبدأ بالسير مسرعًا بمحاذاة الجدار.
كان مدخل الممر السري الذي خرج منه قريبًا.
‘طالما أن السيدة نينا تقول أنه لا داعي للقلق، فلا بأس إذن.’
وبلا خوف من انكشاف أمره، دخل الممر.
***
فتح أدريان باب الشرفة، فرأى نينا جالسة على الحافة بابتسامة محرجة.
“أما زلتِ بالخارج؟”
ردت بصوت منخفض، وكأنها تعترف بشيء محرج.
“تفوح مني رائحة الدم.”
بلا كلمة، مدّ أدريان ذراعيه نحوها. ابتسمت نينا وارتمت بينهما. حين احتضنها، شمّ رائحة دم بشري.
قال بهدوء.
“وهل هذا أمر جديد علينا؟”
فقالت وهي تمسح خدها على كتفه.
“لكن… أنتَ لا تحب رائحة الدم، أليس كذلك، أدريان؟”
ارتفع بصره قليلًا، ثم عاد وخفضه.
لم يكن قد سار في هذا الطريق بيدين لم تُسفك بهما الدماء. ولم يظن يومًا أن الطريق مريح.
لو كان أعداؤه مجرد وحوش البيلاك، لكان الأمر أسهل، لكن بعض أعدائه كانوا بشرًا.
التمييز بين الصديق والعدو كان مرهقًا في حد ذاته.
لكن، رغم ذلك، كان عليه أن يفعل… كان عليه أن يقتل، وكان عليه أن يحمي.
ربما كان كرهه لرائحة الدم نوعًا من الترف… أو ربما دفاعًا عن نفسه، لأنه لم يرد أن يعتاد عليها أو أن يغدو أسيرها.
ولم يكن يرغب في لمس نينا بيدين عالقتين برائحة الدم.
قال بهدوء.
“صحيح أنني لا أحبها… لكنني أحبك أنتِ أكثر.”
ابتسمت نينا وشددت ذراعيها حوله.
ومع ارتخاء قلبها، انسابت الكلمات بخفة.
“الطقس حار جدًا هذه الأيام…”
فأجاب، وهو لا يزال جالسًا على حافة الشرفة محتضنًا إياها.
“أعرف.”
“أنا أكره الحر.”
“أعرف.”
في منتصف الصيف، كان واضحًا أن حالة نينا المعنوية تنخفض كثيرًا.
لم يكن الأمر مسألة قوة بدنية، بل شعور بالضغط النفسي، وكأنها تُحاصَر من كل جانب.
وقد حدث أن انفجرت أعصابها الحادة من قبل، لذا كان أدريان دائم الانتباه لها في المواسم الحارة.
“مع ذلك، طالما أظلّ محاطة بـ الريح الشمالية، فلا بأس.”
تنهدت نينا. ولكن إن ظلّت طوال اليوم وأيام متتالية تحت تأثير الريح الشمالية، فإن قوتها ستتضاءل شيئاً فشيئاً.
“لكن… أشعر بصداع، وحرارة، ورشاح.”
توقف أدريان لحظة ثم قال.
“أليس هذا داء الريح الشمالية؟”
“يبدو ذلك. نعم، على الأرجح.”
ثم أطلقت تنهيدة طويلة وهي تقول.
“آه… حقاً أكره ذلك.”
لقد حدث معها أمر مشابه في الماضي، حتى أنها ذهبت حينها إلى كيريل، التي شخصت حالتها قائلة.
“أنتِ تصمدين تحت هواء بارد في عزّ الصيف، فينهار جسمك لعدم تأقلمه… أظن أن هذا مرض خاص بكِ وحدك يا نينا.”
ثم أطلقت عليها اسماً : “داء الريح الشمالية”.
وكانت وصفته الطبية ببساطة: “لا تتعرضي للهواء البارد.”
تذمرت نينا في حينها.
“أيعقل أني أصبت بما يسمونه مرض التبريد؟”
ضغط أدريان على السوار السحري في معصمه، فأعاد لون شعرها وعينيها إلى حالتهما الطبيعية، ثم قال.
“توقفي عن التعرض للهواء البارد.”
أصدرت نينا صوت تذمر طفولي. “أوففف …” لكنها أزالت الريح الشمالية رغم ذلك، إذ لم يكن من السهل احتمال الصداع.
سألها أدريان.
“هل تستطيعين أن تخبريني الآن؟ ما الذي حدث؟”
أجابت بتراخٍ.
“كنت أتناول الطعام مع بينزل، فالتقيتُ بالأمير باراديف. كان متنكرًا، لكنه تحدث معي وكأنه يعرفني.”
“متنكر… ومع ذلك تظاهر أنه يعرفك؟”
ثم تراجع في فكره: بل لم يكن تظاهراً.
تابعت نينا.
“يبدو أنه لم يكن برفقة أي حارس، فشعرت بالقلق. لاحقاً، ألقيت نظرة خاطفة عليه، ووجدت بالفعل أن هناك ذيولاً يتعقبونه.”
لوّحت بيدها وهي تقول.
“فتصدّيت لهم جميعاً وأنقذته. لكن هؤلاء الذين كانوا يطاردونه…”
ابتعدت قليلاً عن أدريان ونظرت إليه.
“يبدون فرساناً.”
“فرسان؟”
“نعم.”
“أتقصدين أن فرساناً يوجهون السيوف نحو أمير؟”
“تماماً. فمن أسلوب حركتهم ومهاراتهم، من الواضح أنهم لم يتعلموها عبثاً. ليسوا من رعاع الشوارع ولا من نفس طينة جاك. إنهم أناس تدربوا على المبارزة الأصيلة.”
ولذلك استخدمتُ قبضتي بدلاً من السيف — لأن من هذا النوع يستطيع تمييز خصمه حتى من طريقة الضرب أو الجرح.
أضافت:
“وفوق هذا، كان بنزل… غريباً جداً. غريباً بالفعل.”
وأخبرته بتفاصيل ما جرى بينها وبين بنزل، بينما كان أدريان يصغي باهتمام.
“أرى…” قال أدريان.
“أليس الأمر غريباً؟ مريباً؟”
“يبدو أن الأميرة فيارنتيل أكثر انفتاحاً مع بينزل مما كنت أظن.”
“لكن ذاك الرجل لن يخون سيدته أبداً. يفضل الموت على ذلك.”
“صحيح.”
ثم أضاف.
“سأصدر أوامر بالتحقيق مع قائد فرسان المعبد أيضاً. أما لويس، فهو الآن يحاول معرفة ما جرى للأيتام التابعين للمعبد الذين تم اختطافهم، وقد تعقبنا شبكة للاتجار بالبشر.”
“بالعقل أم بالقوة؟”
“بالقوة.”
“يا إلهي…”
كان من النادر أن يستخدم لويس القوة الجسدية، وربما كان يفرغ ضغوط أعماله الكتابية على هذا النحو. لن يبقى أي مهربٍ من تجار البشر على قيد الحياة.
تمتم أدريان.
“فرسان يطاردون أميراً… لا بد أن الأمير قد اكتشف شيئاً مثيراً.”
“أليس كذلك؟ سأذهب لسماع الأمر منه لاحقاً… أو ربما سيأتي هو إلينا.”
ثم أخذ صوت نينا يخفت، فحملها أدريان ونهض من على حافة الشرفة.
“سأطلب أن يُحضَّر لك ماء. استحمي ثم نامي.”
تثاءبت نينا قائلة.
“حسناً…”
كانت تشعر بالنعاس، ويزعجها عبق الدماء، لكن فكرة الاغتسال بالماء البارد حسّنت مزاجها.
‘سأتحقق من أمر بينزل لاحقاً أيضاً.’
***
في تلك الأثناء، كان بينزل في غرفته يخرج بلطف البلورة التي حصل عليها.
“بلورة تحتوي على قوة الأرواح…”
كان هذا أمراً سمع عنه من قبل. لكن قطعة البلور التي سلمته نينا لم تكن مظلمة أو مشؤومة كما تخيل، بل كانت ذهبية زاهية ومشرقة مثلها.
كان يعلم أن نينا تنظر إليه كخصم مزعج في أحسن الأحوال، ومع ذلك، كلما ارتفعت سمعة الدوقية وانتشر اسم نينا لا ديل في كل مكان، كانت الأخبار عنها تصل إليه أكثر.
ورغم أنه من أنصار الأميرة، إلا أنه كان يدرك تماماً كيف قد يُنظر إلى تواصله مع نينا.
ومع ذلك، لم تتخذ نينا ذلك ذريعة لتجنبه، ولا أظهرت أدنى امتعاض.
لكنها في المقابل لم تبادر أبداً إلى لقائه، وهو ما برّره بأن لقاؤهما الأول كان فظّاً.
لهذا السبب، عندما كانت هي من طلب رؤيته لأول مرة، شعر بالفرح والحماس.
لكن حين عرف ما كانت ترغب فيه، أحس بقليل من الخيبة.
ومع ذلك… لقد أعطته البلورة.
ابتسم بنزل ابتسامة صغيرة.
كان يدرك أن الدوقية تحتفظ بسرّ هذه البذور البلورية وأنها من النفائس التي يجب ألا يُذاع أمرها.
كان بإمكانها أن تتجاهله بسهولة، وحياته ليست ذات أهمية كبرى لها… ومع ذلك منحته إياها.
هذا وحده يكفي.
أعاد البلورة إلى جيبه، وسوّى ياقة سترته، ثم نهض.
“لكن هذا لا يعني أن تضحي بنفسك طوعاً.”
كانت نينا قد أخبرته ذلك، لكن بصفته فارساً، كان عليه أن يتبع قناعاته.
توجّه مباشرة لمقابلة الأميرة، سيّدته الجميلة الأنيقة، ثم انحنى أمامها قائلاً.
التعليقات لهذا الفصل " 127"