الفصل 126
***
ابتلع باراديف تنهيدة، وكانت خطواته في الظلام ثقيلة.
‘لماذا أتصرف كالأحمق دائمًا أمام القائدة؟’
مجرد رؤية بينزل وهو يجلس بجانبها يتناولان الطعام معًا في جو حميم جعل معدته تنقلب.
وحين أدرك الأمر، كان قد اقترب بالفعل وطرح سؤاله.
‘لحسن الحظ أن ناف لم يكن موجودًا.’
فلو كان أخوه موجودًا، لركله على مؤخرته في تلك اللحظة.
بل وربما عندما يعلم أنه يتجول هكذا الآن، قد يسقط من ضغط الدم.
إنه الأخ اللطيف الذي خرج سرًّا، حتى لا يصاب أخوه الصغير بارتفاع الضغط منذ صغره.
وبينما يفكر بهذه الأفكار السخيفة، أسرع باراديف في خطواته. فقد غربت الشمس بالفعل، وأصبحت الأزقة خالية من الناس.
‘لكن على الأقل حصلت على مكسب اليوم.’
بهذا الدليل سيكون بإمكانه ضرب فيارينتيل بشكل قاطع.
خطوات… خطوات…
انبعث صوت وقع أقدام خلفه، وكأن صاحبه يتعمد أن يُسمِعَه إياه.
ألقى باراديف نظرة خاطفة وراءه، فرأى رجلين مفتولي العضلات يحدقان فيه وهما يقتربان منه.
‘…!’
أدار بصره إلى الأمام، وفحص الزقاق بسرعة. كان على وشك الانعطاف إلى الداخل، لكن من داخل الزقاق خرج شخص آخر.
كان مظهره يوحي بوضوح أنه ليس شخصًا عاديًّا، فعضّ باراديف شفته.
‘يبدو أنني لم أكن مخطئًا حين لم أخبر ناف بخروجي.’
كان الأمر محبطًا، لكن الاستسلام ليس من طبعه. فجأة استدار وبدأ بالركض.
“هاه؟”
“أمسكوه!”
الرجلان اللذان كانا يطاردانه من الخلف لم يتوقعا سرعته، ففقدا أثره على الفور.
ركض باراديف بكل طاقته، وفي داخله يلوم نفسه لأنه كان دائمًا يتذمر من تدريبات القتال، ويرسل اعتذاره إلى معلمه.
‘إذا خرجت من هذا الزقاق فحسب!’
لكن فجأة، ظهر شخص أمامه يسد الطريق، وبيده سيف.
توقف باراديف.
اقترب منه الرجل الملثم بخطوات ثابتة.
نظر حوله، فاكتشف أنه محاصر. الجميع بدأوا يسحبون سيوفهم واحدًا تلو الآخر. ابتلع باراديف ابتسامة مرة.
‘إذن النهاية هنا…’
“لم أكن أتوقع أن تكون النهاية هنا~.”
مع صوت أنثوي مرتفع ومبهج، دوّى صوت ضربة قوية
“بوم!”.
الشخص الذي كان يسد طريق باراديف ركلته فجأة قوة هائلة، فطار وارتطم بالجدار.
“لا أظنكَ تفكر في الاستسلام، صحيح؟”
كانت تلك امرأة ذات شعر أحمر مضفور على شكل ضفيرتين طويلتين، اقتربت منه.
وعندما فتح باراديف فمه، أومأت له بعينها قائلة “ششش” وكأنها تطلب الصمت.
لو طلبت منه الحفاظ على سرها، لكان مستعدًا للموت من أجله، لكنه لم يصدق عينيه وهو يحدق فيها مذهولًا.
في هذه الأثناء، استعادت المجموعة الأخرى توازنها سريعًا. لم يكونوا بالتأكيد هواة.
استدارت المرأة بسرعة، أخفت باراديف خلف ظهرها، ثم سألت.
“إذن، من هو زعيمكم؟”
طرقت نينا قبضتيها ببعضهما، فصدر صوت معدني رنان؛ كان ذلك من حلقات القبضات الحديدية التي ترتديها.
تبادل الرجال الملثمون النظرات، ثم تقدم أحدهم وتكلم.
“لا أعرف من أنتِ، لكن بما أنك تتدخلين، فأنتِ بالتأكيد لستِ شخصًا عاديـ—”
“أنت الزعيم إذًا!”
قفزت نينا فجأة، ووجهت ضربة عنيفة إلى بطنه.
“كووهك!”
ارتفع جسده عن الأرض للحظة، ثم سقط بلا حول ولا قوة، فقامت نينا بركله مجددًا على خاصرته لتزيحه عن الطريق.
ركلة دائرية نظيفة.
سمع صوت تحطم العظام وتمزق اللحم.
“قلت لكم أين هو، لكن هل يوجد أحمق فعلاً يفضح نفسه هكذا؟! هل عقولكم زينة؟”
“واو…”
دون وعي، غطّى باراديف فمه بيده.
“اقتلوها!”
“أعيدوا تنظيم الصفوف!”
لكن خصومها كانوا محترفين أيضًا. وما إن ركلت نينا زعيمهم، حتى اندفعوا نحوها بالسيوف.
مع ذلك، لم يكونوا نِدًّا لها. فقد سيطرت عليهم بالركلات واللكمات، رغم أنهم مسلحون وهي بلا سلاح.
كانت ضرباتها مباشرة، بلا رحمة، وقوتها كاملة بلا تحفظ.
تحطمت مفاصل الأذرع والأرجل، وسمع صوت الفك وهو ينخلع من مكانه.
ركلة واحدة كانت كفيلة بقطع عظم الرقبة.
القبضات مزقت الجلد، وتطاير الدم، وكأن المشهد ساحة قتال كلاب شرسة…
لهث باراديف، فهذا لم يكن يشبه مبارزات الفرسان على الإطلاق، بل كان عنفًا بدائيًّا محضًا.
بدا له أن تكسير المفاصل أكثر إيلامًا من الطعن بالسيف.
حتى وإن كانت المرة الأولى التي يسمع فيها صوت العظام وهي تتحطم، فقد فهمه فورًا.
كان الصوت واضحًا جليًّا، كما أدرك أن ضرب جسد الإنسان يُصدر صوتًا مكتومًا، ثقيلًا، أشبه بضرب الطين الصلصالي.
في مواجهة بين السيف والأطراف، فالكفة حتمًا للسيف بفضل طوله،
لكن سرعة نينا في ضرب السيوف بدقة بقبضتها المغطاة بالقبضة الحديدية، أو الاندفاع إلى الداخل ثم الانسحاب، كانت مرعبة.
كانت المشاهدة مؤلمة لدرجة أنه كاد يشيح بنظره، لكن باراديف ظل يتابع قتال نينا حتى النهاية، وهو يرتجف ويهمهم.
“أه… أههه…”.
قُتل بعضهم وسقط بعضهم الآخر فاقدًا الوعي.
نفضت نينا يديها الملطختين بالدماء بخفة، ثم قطبت حاجبيها ونظرت إليه.
“على الأقل، يجب أن تتلقى لكمة واحدة، أليس كذلك؟”
“هـه؟ أ-آه؟! لحظة، آنسة نينا؟”
تراجع باراديف في ارتباك.
‘هـ-هذه السيدة نينا، أليس كذلك؟ إنها في صفنا، صحيح؟ لن أموت هنا، صحيح؟ لكن… إذا تلقيت لكمة منها، ألن أموت؟ سأموت، مئة بالمئة!’
مدّت نينا قبضتها نحوه، لكن هذه المرة ببطء، وليس بسرعة البرق كما فعلت من قبل.
خلال زمن يكفي ليرمش مرتين، لامست قبضتها الحديدية طرف أنفه بخفة.
وعندما رأت عينيه الزرقاوين تتسعان دهشة، وضعت يديها على خصرها وقالت.
“ما الذي تفعله بالتجول في أماكن خطيرة كهذه؟”
في تلك اللحظة، شعر باراديف أن التوتر قد انزاح تمامًا عن جسده، فانهار جالسًا على الأرض.
انحنت نينا نحوه بفزع.
“هل أنت بخير؟ هل أصبت في مكان ما؟”
“لا، فقط فقدت قوتي…”
ابتسم بضعف، فأطلقت نينا تنهيدة ارتياح، ثم أدارت له ظهرها.
“تسلق على ظهري.”
“هـه؟ مـ-ماذا؟”
“هيا، بسرعة. علينا الخروج من هنا، لديهم رفاق آخرون.”
“لكن…”
“آه، كفى.”
تذمرت، ثم استدارت ورفعته بين ذراعيها بسهولة.
“واو؟”
“انطلقنا.”
انطلقت نينا راكضة وهي تضرب الأرض بقوة، ولم يعرف باراديف من أين يبدأ الكلام.
ظل مذهولًا يفكر..
‘ألم التمايل أقل مما توقعت وأنا محمول هكذا…’
ولم يعد إلى وعيه إلا عندما توقفت أمام جدار القصر الإمبراطوري وأنزلته.
أسند ظهره إلى الحائط وأخذ أنفاسه، ثم قال.
“ظننت أن الأمر سينتهي هناك.”
فقالت نينا بوجه متجهم.
“ألا تعرف أن الإمساك بصاحب السمو يعني نهاية اللعبة؟ كنت أشك، لكن يبدو أن لحاقي بكَ كان قرارًا صائبًا.”
ابتسم باراديف ابتسامة مريرة، ولم يجد هذه المرة أي عذر يبرر نفسه به.
“أعتذر… لقد أنقذتِ حياتي، سيدة نينا.”
“أليس لديك حارس شخصي موثوق واحد على الأقل؟”
“أجل… معك حق.”
حدقت نينا في عينيه الزرقاوين بتركيز، فتقابلت نظراتهما، وحينها أدرك باراديف أن عينيها خضراوان.
“هاه؟”
“ماذا هناك؟”
“عيناكِ…”
كان شعره البني في الحقيقة مجرد شعر مستعار، ولذا افترض أن شعر نينا الأحمر أيضًا مستعار.
لكن… كيف غيّرت لون عينيها؟
“جميلتان، أليس كذلك؟”
سألته بابتسامة جانبية، فأجاب بصوت شارد: “نعم، جميلتان.”
بدت نبرتها وملامحها مفعمة بالحيوية، والآن بعدما هدأ قلبه، استطاع أن يلاحظ ذلك.
زوايا عينيها متوردة من الحماسة، وخداها متوردان، وشفاهها نضرة…
ويداها غارقتان في الدماء.
فجأة أدرك باراديف أن هذه المرأة التي أمامه قد قتلت للتو أناسًا بيديها.
لم ينتبه لذلك من قبل، لأنها كانت تتصرف بهدوء شديد.
ابتلع ريقه، ثم نظر إلى ثيابه، فلاحظ بقعة دم واضحة حيث كانت تحمله.
وحين التقت عيناه بعينيها بعد ذلك، ابتسمت له.
كانت ابتسامة حلوة المذاق، لكنها جعلته يشعر وكأنها قرأت ما يدور في رأسه، فارتبك.
“لن أقتلك.”
“… ماذا؟”
“أنا لا أقتل الناس لمجرد أنني متحمسة.”
“لم يخطر ببالي شيء كهذا.”
قالها بجدية.
فنفضت نينا يديها وهي تقول.
“عندما يُجرح أحد بالسيف، يمكن تتبع الفاعل عبر اسلوب الجرح… وهذا أمر مزعج، لذا لم استخدم السيف.”
التعليقات لهذا الفصل " 126"