9
أغلقتُ الدفتر بعد قراءة الجملة المكتوبة في الصفحة الأولى، ثمّ فتحتُه مجدّدًا. لكن، كما كان متوقّعًا، لم يتغيّر محتوى الصفحة الأولى من الدفتر. “يجب ألّا أخرج من الفندق”. يبدو أنّ عمّي كان يتوقّع أن أقرأ هذا الدفتر. المشكلة أنّ هذه الجملة وحدها هي المكتوبة، دون أيّ شرح إضافيّ.
النقطة الغريبة الوحيدة الأخرى هي خطّ اليد. يُفترض أنّ عمّي هو من كتبها، لكنّ الخطّ يختلف عن أسلوبه المعتاد الأنيق، إذ بدا وكأنّه كُتب بعجلة وفوضويّة.
هل كان عمّي في حالة ذهنيّة مضطربة لدرجة أن يكتب مثل هذه القصص الغريبة في الدفتر؟
حاولتُ تجاهل محتوى الصفحة الأولى بجهد، وقلّبتُ الدفتر ببطء. لم يكن عمّي يكتب يوميّاته يوميًّا، لذا احتوى هذا الدفتر الواحد على ما يقارب عامين من التدوينات المتقطّعة.
الجزء الأوّل كان لا يزال يتحدّث عن رحلات عمّي حول العالم. بما أنّني أعرف معظم هذه القصص، تصفّحتُها بسرعة. لكن، بدءًا من صفحة معيّنة، بدأت الأجواء تتغيّر. وجدتُ محتوى غريبًا بشكل خاصّ، فبدأتُ أقرأ بعناية من هناك.
[ 4 يناير 1888
ظننتُ أنّني تحرّرتُ من كلّ شيء. فقد عشتُ أكثر من أربعين عامًا. لم أكن أنوي العودة إلى عائلة ليندتيل، وكان هدفي أن أجوب العالم حتّى أغمض عينيّ. لكن، اللعنة! كلّ هذا بسبب لعنة الابن الأكبر المجنونة. ظلّ الموت يخيّم عليّ من جديد. لا يمكن أن يستمرّ هكذا. أحتاج إلى حلّ. أحتاج إلى طريقة جديدة لأبقى على قيد الحياة…]
“لعنة الابن الأكبر؟ منذ متى سمعتُ هذه الكلمة؟”
إنّها لعنة يُقال إنّها تنتقل عبر أجيال عائلة ليندتيل، ومضمونها أنّ “الابن الأكبر في عائلة ليندتيل يعيش حياة أسوأ من الموت ويموت مبكّرًا”. سمعتُ هذا من الكبار، لكن يُقال إنّ جميع أبناء عائلة ليندتيل الأكبر سناً ماتوا دون استثناء على مدى أجيال بعيدة. يُقال أيضًا إنّ بقاءهم أحياء لفترة طويلة يجلب رياحًا دمويّة للعائلة.
ومع ذلك، لا توجد سجلّات واضحة عن لعنة الابن الأكبر داخل العائلة، وتُنقل القصة شفهيًّا فقط. لذا، لا يمكن معرفة مدى مصداقيّتها. في الوقت الحاضر، كنتُ أعتبر لعنة الابن الأكبر مجرّد إشاعة. ففي النهاية، عمّي، الابن الأكبر، عاش حتّى تجاوز الأربعين.
‘لكن، على عكس عمّي، أخي…’
مرّرتُ أصابعي ببطء على تلك الكلمة التي كتبها عمّي. بما أنّ والدي كان يتجنّب الحديث عن لعنة الابن الأكبر، لم أسمع هذه الكلمة من أحد منذ سنوات. حتّى أنا لا أحبّذ التحدّث عنها.
لكن أن تظهر هذه الكلمة في دفتر عمّي! ماذا يعني أنّ ظلّ الموت يخيّم مجدّدًا؟ وهل من المنطقيّ القول إنّ عمّي وقع مجدّدًا تحت تأثير لعنة الابن الأكبر؟ في الأساس، لا نعرف حتّى إن كانت هذه اللعنة حقيقيّة. فلماذا كتب عمّي عنها بمثل هذا اليقين؟
قلّبتُ الصفحة إلى الوراء. تحدّثت الصفحات التالية، التي امتدّت لحوالي شهرين، عن تجوال عمّي في أنحاء شتلاند بحثًا عن فندق. أدركتُ بحدسي أنّ الفندق المقصود هو فندق بيلفيدير، الذي أقيم فيه الآن.
[13 فبراير 1888
أخيرًا وجدتُ ملاذي الجديد، فندق بيلفيدير. أعلم أنّه ليس فندقًا عاديًّا. جئتُ إليه عن قصد. أواجه أشياء مخيفة كثيرة، لكنّني أستطيع تحمّلها. وقّعتُ عقدًا مع المدير، وأصبحتُ صاحب هذا الفندق. كان من حسن حظّي أنّ منصب المدير كان شاغرًا. يبدو أنّه لا يوجد قانون يأمرني بالموت. أنا الآن في أمان…]
لا أعرف كيف عرف عمّي بفندق بيلفيدير، لكنّه وجده في النهاية. يبدو أنّه كان يعلم منذ البداية أنّ هذا الفندق ليس مخصّصًا للبشر فقط. الأشياء المخيفة التي تحدّث عنها ربّما تكون الأرواح الشرّيرة التي واجهتُها. لكن كيف شعر بالأمان بعد مواجهة مثل هذه الكائنات؟
‘أنا، على العكس، شعرتُ بتهديد لحياتي. عمّي حقًا شخص غريب!’
قلّبتُ الصفحة مجدّدًا. تحدّثت الصفحات التالية عن حياة عمّي في الفندق. لم تكن القصص مرعبة كما توقّعتُ، بل كانت مجرّد سجلّات يوميّة وعمليّة عاديّة. بدا أنّ عمّي تجنّب عمدًا كتابة القصص المرعبة. فمن المستحيل أن يعيش في هذا الفندق بهدوء وسلام. ربّما أراد محو تلك التجارب من ذاكرته فلم يدوّنها.
[27 أغسطس 1889
مرّ أكثر من عام، لكنّني لا أزال غير قادر على التأقلم مع تلك الأشياء التي أواجهها يوميًّا. بل إنّها تزداد رعبًا ولا أستطيع تحمّلها. من أين بدأ هذا؟ أجل، بسبب خداع ذلك المدير اللعين. ذلك الوغد لم يكن له أيّ نفع في حياتي. وجود مثل هذا الشخص في العالم هو أكبر مصيبة للبشريّة.]
تغيّر جوّ الدفتر مرّة أخرى. يبدو أنّ عمّي وصل إلى حدوده الذهنيّة في هذه الفترة. لم أتمكّن من فهم معنى “خُدعتُ بحيل المدير” بدقّة من خلال الدفتر وحده. لم أجد أيّ إشارة واضحة في الصفحات السابقة أو اللاحقة.
الشيء الوحيد الذي بدا منطقيًّا في الدفتر هو شتائم عمّي ضدّ وحوش الفندق والمدير. بالمناسبة، ليس لديّ استياء كبير تجاه المدير. فقط أعتقد أنّه، حسنًا، مزعج قليلًا… أو ربّما مزعج جدًا.
في الصفحات التالية، كانت هناك تدوينات متفرّقة على مدى نصف عام. بدأ عدد التدوينات يقلّ بشكل ملحوظ. لم يتجاوز عدد الإدخالات عشر مرّات. يبدو أنّ حالته الصحيّة تدهورت لدرجة أنّه لم يعد قادرًا على الكتابة.
[30 ديسمبر 1889
منذ فترة طويلة لم تكن ذاكرتي بهذا الوضوح. أكتب في الدفتر بعد غياب طويل. لكن، الشيء الوحيد الذي يمكنني تدوينه هو أنّ جسدي يموت. أصبحتُ هزيلًا، أعاني من هلوسات وكوابيس مستمرّة، ولا أستطيع تناول الطعام بشكل صحيح.
هل اللحم الموضوع على مائدتي سليم حقًا؟ لا أستطيع الوثوق بذلك الوغد. لا أعرف كم من الوقت سأظلّ قادرًا على الحفاظ على عقلي. أنا حقًا أقترب من الموت. كنتُ متأكّدًا أنّني تخلّصتُ منه…]
كان عمّي يموت. من محتوى الدفتر، يبدو أنّه حتّى لو لم ينتحر، لم يكن ليصمد طويلًا.
“…ألم يتمكّن من رؤية طبيب؟ أم أنّ علاج الأطبّاء لم يكن فعّالًا؟”
بما أنّه كان يعاني من الهلوسات والكوابيس، بل وحتّى أعراض البارانويا، فقد يكون رفض مقابلة طبيب من الأساس. بالطبع، أدركتُ أنّ التفكير في هذا الآن لا جدوى منه. في كلتا الحالتين، عمّي لم يعد موجودًا في هذا العالم.
ملحوظة : مرض البارانويا أو ما يعرف بجنون الارتياب هو نمط تفكير ينجم عنه الشعور الغير منطقي بفقد الثقة بالناس، والريبة منهم والاعتقاد بوجود تهديد ما، مثل: الإحساس بأن هناك أشخاص يراقبونك، أو يحاولون إلحاق الأذى بك بالرغم من عدم وجود دليل على ذلك.
واصلتُ التفكير لأحافظ على رباطة جأشي. الشتائم في الدفتر تُشير على الأرجح إلى المدير. وماذا يعني “تخلّصتُ منه”؟ هل يقصد أفعال بيلفيدير؟ أم اللعنة؟ لا يمكنني التأكّد من أيّهما.
كانت هذه ثاني آخر صفحة. قلّبتُ صفحة أخرى، فظهرت آخر تدوينة كتبها عمّي.
[19 مارس 1890
كتبتُ رسالة إلى كاينا. أوكلتُ تسليمها إلى المدير، لذا لا مشكلة. أنتِ الوحيدة المتبقّية من عائلتي. أتمنّى أن تكوني بأمان. لم يتبقَّ لي الكثير. قبل أن تسوء حالتي أكثر، سأموت بإرادتي. هذه هي طريقتي لمقاومة القدر.]
“كاينا… اسمي.”
هل تذكّرني عمّي حتّى في لحظات ضبابيّة الذاكرة؟ الجملة الأخيرة التي كتبها في الدفتر كانت تُلمح إلى انتحاره.
أغلقتُ الدفتر ببطء. لقد حُلّت أسئلتي حول متى جاء عمّي إلى هذا الفندق ولماذا اختار الموت بيده. لكن، على الرغم من قراءة الدفتر، ظلّت أسئلة عالقة. بل إنّ قراءة الدفتر زادت من همومي. كلمة “لعنة الابن الأكبر” التي سمعتُها بعد وقت طويل، على سبيل المثال.
لكن، في الحقيقة، الآن ليست هذه الأسئلة هي ما يشغلني…
مسحتُ عينيّ بظهر يدي. الليلة، لن أتمكّن من النوم براحة.
***
أشرق الصباح. تناولتُ إفطارًا بسيطًا أحضره أحد الموظّفين، وبمساعدتهم ارتديتُ ملابسي. بسبب قلّة نومي الليلة الماضية، لم أكن في حالة جيّدة. بينما كنتُ جالسة على الأريكة أضغط على رأسي المؤلم، سمعتُ طرقًا على الباب.
“عذرًا، آنسة ليندتيل. أنا إيجيكل. جئتُ لأصطحبكِ إلى المكتب~”
هذا الرجل مفعم بالحيويّة منذ الصباح الباكر! كبحتُ رغبتي في السخرية منه، وتأكّدتُ من هويّته قبل أن أفتح الباب. كان واقفًا كالعادة بابتسامة مشرقة.
بعد أن أكملتُ استعداداتي، اضطررتُ لمرافقته إلى المكتب. مثل البارحة، جلستُ خلف المكتب لمعالجة الأوراق، بينما وقف إيجيكل عند الباب دون أيّ عمل آخر يشغله.
عندما أتذكّر الشتائم التي كتبها عمّي عن إيجيكل في الدفتر، أشعر بالضيق من مجرّد وجودي معه في مكان واحد. ما الذي فعله إيجيكل بعمّي ليصل إلى هذه الدرجة؟ أشعر بالغضب أيضًا.
وضعتُ الأوراق جانبًا وقلتُ له: “البارحة، قرأتُ دفتر يوميّات عمّي.”
“آه، يبدو أنّ مسؤول الأمن سلّمه إليكِ مباشرة؟”
“لا تبدو متفاجئًا.”
“حسنًا، ليس أمرًا كبيرًا. بالمناسبة، ما رأيكِ في الدفتر؟”
ردّ إيجيكل بنبرة وكأنّه كان يتوقّع ذلك. كما ظننتُ… كان بإمكانه تسليم الدفتر لي مباشرة، لكنّه اختار الصمت. أمسكتُ قبضتي بقوّة ثمّ أرخيتُها وواصلتُ: “قبل أن أتحدّث عن رأيي، وجدتُ شيئًا غريبًا عندما فتحتُ الدفتر. في الصفحة الأولى، كتب عمّي: ‘كاينا، يجب ألّا تخرجي من الفندق.’ هل لديك أيّ فكرة عما قد يعنيه هذا؟”
لديّ الكثير من الأسئلة، لكن هذا هو السؤال الأكبر. لماذا قال عمّي إنّني يجب ألّا أخرج من الفندق؟ ما القصد من ذلك؟
ارتفعت زاوية فم إيجيكل بابتسامة. لم تكن ابتسامة بريئة كتلك التي للأطفال. كانت ابتسامة تبدو راضية، كمن حقّق هدفه، لكنّها كانت مزعجة بشكل ما. شعرتُ وكأنّه يسخر منّي.
“المعنى حرفيّ. يجب ألّا تخرجي من الفندق، آنسة ليندتيل. إذا خرجتِ، ستموتين.”
— ترجمة إسراء
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"