تركتُ يدَ الخادمة، وانطلقتُ أركض نحو أبي بأقصى ما تسمح به قدماي في هذا العالم.
“أبي!”
قفزتُ بين ذراعيه، فاحتواني كما لو أنّه اعتاد هذا العناق منذ الأزل.
شَعرٌ بنيّ متموّج يعبث به النسيم، إطار نظّارة سميك يزيد ملامحه وقارًا.
رجل متواضع المظهر، لا يليق به هذا القصر الدوقي الشامخ، ومع ذلك، في عينيّ أنا، كان أعظم وأقرب إنسان في الوجود.
أخفضتُ وجهي على كتفه، أضربه بقبضتي الصغيرة.
“أين كنت؟ إلى أين ذهبت؟ لماذا تركتني بلا كلمة؟”
ضحك بوجع وهو يربّت على ظهري:
“آه… ابنتي، أباك يتألّم… لحظة فقط.”
“لقد دخلنا القصر، وما إن دخلنا حتى اختفيت! والكوكيز انتهت منذ زمن!”
واصلتُ لكمه، فشدّني إلى صدره أكثر، وجهه يقطر أسفًا.
“آه… حقًا؟ سامحيني يا ابنتي. كنتِ تنتظرينني، أليس كذلك؟ كان عليّ أن أتحدّث مع جدّك، ولهذا تأخّرت.”
“جدي؟”
“نعم، هذا مكتب جدّك. أليست هذه أوّل مرة تدخلينه يا إيفي؟”
بالطبع، كانت الأولى.
فهذا القصر المهيب لم تطأه قدماي من قبل.
ومن بين ذراعيه، سرّحت بصري في المكتب.
أبواب ضخمة منقوشة عليها صورة تنّين وسيف، شعار آل فيرديناند العظيم.
ابتسم أبي هامسًا:
“أتيتِ إذن لرؤية جدّك؟ يا صغيرتي، حتى إنك ارتديتِ ثوبًا جميلاً.”
“همم؟ نعم… لكنّي أفضل الثوب الذي اشتراه لي أبي.”
تذمّرتُ برفق، فابتسمت الخادمة خلفنا بخجل، وشاركها أبي ابتسامة محرجة، كأنّ قلبه يشارك قلبي الشعور ذاته.
مدّ يده الكبيرة الدافئة، ربت على شعري قائلًا:
“ولِما ذلك؟ أبوكِ يحب هذا الثوب أيضًا. تبدين فيه أميرة صغيرة… و…”
“و ماذا؟”
“هذا الثوب يشبه تمامًا الثوب الذي كانت أمّك ترتديه وهي طفلة.”
اتّسعت عيناي ببريق.
‘إذن… أهو حقًّا… ثوب أمّي؟’
“لكن… لا يعقل أن يكون هو نفسه. لقد مضى أكثر من عشرين عامًا.”
هززتُ رأسي بإصرار، أتشبّث به أكثر.
“لا يا أبي! قد يكون هو بعينه!”
تذكّرتُ كلمات شارلوت، فازدادت لهفتي.
“الخادمة التي أعطتني هذا قالت إنه ثوبي. إذن… فلا بد أنّه ثوب أمّي، أليس كذلك؟”
تردّد أبي وهو ينظر إلى القماش العتيق:
“لكنّه يبدو قديمًا للغاية…”
“ربما احتُفظ به بعناية! يجب أن أسأل تلك الخادمة مجددًا!”
قلبـي يخفق بجنون لمجرّد الفكرة… أن يكون ما أرتديه الآن هو ما ارتدته أمّي يومًا ما.
[يخفق كثيرًا… كثيرًا جدًّا، يا صغيرة.]
‘صحيح… قليلًا فقط…’
‘لا تتدخّل!’
[هفف.]
صوت اكس جاء متبرّمًا، متدلّلًا كما لو كان هو الآخر طفلًا عنيدًا.
لكن ما هذا؟ حتى السيف صار يتدلّل؟
شعرتُ بالدهشة، لكن لم يكن لديّ الوقت لأفكّر في إكس.
لقد عشتُ بخير مع أبي وحدنا، وكنتُ أظنّ أنّني لم أفتقد شيئًا، لكن يبدو أنّ قلبي في داخلي ظلّ يحنّ قليلًا إلى أمّي.
والآن، حين خطر لي أنّ هذا قد يكون ثوبها، أخذ قلبي يخفق بقوّة.
“حسنًا، اسأليها في المرّة القادمة. فأبوك أيضًا يرغب أن يعرف ايضا. أمّا الآن فادخلي بسرعة يا ابنتي، فجدّك بانتظارك.”
“ستنتظرني بالخارج، أليس كذلك؟”
“بالطبع~.”
“حسنًا، فهمت. ابقَى هنا إذن حتى أعود.”
بعد أن أخذتُ منه وعدًا، قفزتُ من حضنه بخفّة.
“سأكون في انتظارك، ادخلي. هل تريدين أن أحتفظ بإكس؟”
“لا، لا بأس، سأدخل وهو معي.”
لوّحتُ بيدي لأبي وللخادمة الطيّبة التي جاءت بي إلى هنا، ثم طرقتُ باب المكتب.
فانبعث من الداخل صوت ارتطام وضجيج.
“……همم؟”
ما هذا الصوت؟
‘أليس الحارس في الداخل يدمّر شيئًا؟’
أرمشتُ بعيني بدهشة.
ويبدو أنّ أبي أيضًا تفاجأ.
هل أطرق الباب مجددًا؟
دووووم!
لا، الأفضل أن أصبر.
تواصلت أصوات التحطيم من الداخل، وبعد قليل……
فجأة!
انفتح الباب بقوّة.
هووووو!
لقد اندفع الهواء من شدّة فتح الباب، فتطاير شعر رأسي وشعر أبي وحتى الخادمة الواقفة خلفنا.
ولو كان لإكس شعر، لتطاير أيضًا……
[لا تتخيّلي مثل هذه الأمور، يا صغيرة!]
حسنًا، فهمت.
ارتجّ الهواء بقوّة، فرفعتُ بصري بتعجّب أنظر إلى الخارج.
وكما هو متوقّع، كان الخارج من المكتب هو دوق فيرديناند.
كان يلهث بغضب ويقول بصوت ممتلئ حنق:
“نيل، أيّها الوغد! ألم أقل لك أن تختفي فورًا…… همم؟ إيفي؟”
وتوقّف فجأة عن الكلام.
نظرتُ إلى أبي ثم إلى جدّي، ثم ابتسمتُ بخجل.
هيهي.
“آ… مرحبًا؟”
“إيفي! يا إلهي. هل تأذيتي عندما انفتح الباي؟”
“لا، فهو يفتح للداخل، لذلك لم أصب.”
“لم أعلم أنّه أنت…… كان يجب أن يقولوا لي إنك أتيتِ.”
لكن يا جدّي، حتى لو لم يقولوا لك، لقد اندفعتَ تصرخ غاضبًا بنفسك……
لكن لم أستطيع قول هذا بصوت عالٍ.
فرغم اكتشافي أنّ هذا الرجل هو جدّي، ما زال الأمر جديدًا عليّ.
‘لم يمرّ نصف نهار على معرفتي أنّه جدي…….’
ما زال بالنسبة إليّ مجرّد نبيل غريب.
ابتسمتُ بخجل بدلًا من ذلك.
“رجاءً، لا تغضب من أبي كثيرًا.”
ولم أنسَى أن أدافع عن أبي كما تفعل اي ابنة البارة.
“صحيح، سامحيني يا ابنتي. لم يكن من اللائق أن تري مثل هذا المشهد. ولكن، المكتب الآن في حالة سيئة…….”
ألقيتُ نظرة خاطفة من خلفه إلى داخل المكتب.
كان المكان مدمّرًا تمامًا، واضح أنّه خرج وهو يحطّم أشياء.
ماذا فعل أبي ليستحقّ هذا؟
نظرتُ إلى أبي بعينين مشفقتين، لكنّه أدار رأسه محرجًا.
“لحظة، هذا الثوب…….”
ضيّق الجدّ عينيه.
أخذ يتأمّلني، ثم مدّ يده المرتجفة نحوي.
تردّدتُ قليلًا، ثم تركتُ نفسي بين يديه.
فرفعني عاليًا.
“هذا…… هذا الثوب كانت أستريت ترتديه…… لماذا ترتدينه أنتِ؟”
“الخادمات قلن لي أن أختار ثوبًا يعجبني، وهذا هو الذي أعجبني…….”
“هاهاها، إنّه يليق بك كثيرًا يا إيفي…….”
ناداني جدّي بصوتٍ مرتجفٍ بالعاطفة.
أمر غريب… فالأصوات لا ترتجف عادةً، لكن صوته بدا كذلك فعلًا.
‘همم… عجيب جدًّا…’
وكأنّ العاطفة تُعدي، أحسست أنّ صوتي أنا أيضًا قد يرتجف لو تكلّمت في تلك اللحظة.
لا بدّ أنّ السبب هو ذكر أمّي.
جلستُ بهدوء بين يدي جدّي أنتظر أن يُنزلني.
[أيها الوقح! أنزل صغيرتي حالًا! هل تظنّها جروًا لتحملها هكذا!]
صرخ إكس من خلفي غاضبًا، لكن لم يكن بمقدور أحد غيري أن يسمعه.
[قلتُ أنزلها حالًا! إنها انسانة!]
‘أنا بخير أيها الأح
مق. يعجبني هذا، أشعر بالسمو. ثمّ لماذا تقول إنّي صغيرتك؟’
‘أنتِ ملكي!’
‘خطأ. بل أنت ملكي.’
ظلّ جدّي يحدّق بي بعينين دامعتين وهو يرفعني، ثمّ أخيرًا أنزلني بحذر.
“سامحيني، لقد فاجأتك فجأة حين رفعتك. لا بد أنّك ارتعبتِ.”
ترجمة: لونا
التعليقات لهذا الفصل " 21"