“أحملُ رغبةً خاطئةً في قلبي؛ أريدُ أن أوقعَ صديقي في طريقِ الإغواءِ.”
هل كانت هذهِ الكلماتُ صعبةً على طفلةٍ؟ على أيّةِ حالٍ.
“صديقكِ؟”
“نعم، صديقي جنديٌّ في البحريّةِ. لكنَّ تدريباتِ وتعليماتِ البحريّةِ شاقةٌ وصعبةٌ جدًّا. لذا أريدُ أن أقدّمَ لهُ الهدايا والطعامَ اللذيذَ، و…”
“……”
“لكنَّهم يقولونَ إنَّ جنودَ البحريّةِ لا يُسمحُ لهم بمثلِ هذهِ الأمورِ.”
بالطبعِ كان الأمرُ مسموحًا في العطلاتِ لأنَّهم لا يكونونَ في الخدمةِ، لكنَّهم كانوا يميلونَ لتجنُّبِ ذلكَ؛ لأنَّ رجالَ البحريّةِ عمومًا لم يكونوا يعرفونَ كيفيّةَ الاستمتاعِ بالرفاهيةِ.
“ماذا لو تقابلنا لاحقًا، وكان هيبـ-…أقصدُ صديقي، قد تغيّرَ كثيرًا ولم يعد يرغبُ في اللعبِ معي؟”
تعمّدتُ نطقَ جزءٍ من اسمِ هيبيريون بنبرةٍ حزينةٍ.
لا بُدَّ أنَّه أدركَ الأمرَ فورًا؛ أنَّ صديقي هو هيبيريون فاروس بذاتِه.
كان بإمكاني إرسالُ المقويّاتِ عبرَ جهازِ النقلِ السحريِّ كما شئتُ، ولكن ماذا عن الأشياءِ الأخرى؟
هذا مستحيلٌ تمامًا.
هناك حدودٌ. ففي الواقعِ، لا يُسمحُ لجنودِ البحريّةِ بامتلاكِ جهاز نقلٍ سحري دونَ إذنٍ.
لذا، عندما استخرجتُ واحدًا لهيبيريون هذهِ المرّةِ، جعلتُه باسمِ آيزاك.
لأجلِ ذلكَ، كان عليَّ بذلُ جهدٍ هائلٍ لإرسالِ الأشياءِ عبرَ جهاز النقل السحري دونَ أن يلحظَ بقيّةُ الجنودِ.
وفي الحقيقةِ، كان هذا الأمرُ ممكنًا لي فقط لأنَّني أعرفُ الهيكلَ الداخليَّ لفرعِ البحريّةِ وجدولَهم اليوميَّ، ومع كلِّ هذا الحذرِ، كان من الصعبِ إرسالُ أشياءٍ أكبرَ من زجاجةِ دواءٍ عبرَ الجهازِ.
هذا هو السببُ الحاسمُ في استمرارِ نقلِ البضائعِ عبرَ السفنِ أو العرباتِ رغُمَ وجودِ أجهزةٍ مثلِ جهاز النقل السحري.
لذا، اخترتُ ستيف ليكونَ وسيلتي في إيصالِ الأشياءِ الأخرى لهيبيريون.
“تملكينَ صديقًا رائعًا حقًّا.”
شعرتُ بنبرةِ ستيف وهو يحاولُ جاهدًا الحفاظَ على هدوئِه.
“رغُمَ أنَّني أريدُ لهُ الوقوعَ في طريقِ الإغواءِ؟”
“وكيفَ يكونُ تمنّي السعادةِ لهُ طريقًا سيئًا؟”
“… لكنَّني لا أستطيعُ فعلَ شيءٍ لهُ بشكلٍ مباشرٍ.”
“……”
“لو كان هناكَ من يساعدني، لسلمتُه أيَّ شيءٍ…”
لم يقل ستيف شيئًا، لكنَّ كلماتي التاليةَ جعلتْه يضطربُ لا محالةَ.
والأدهى من ذلكَ أنَّ حتّى الدواءَ غيرَ المكتملِ لمرضِ مورديس كان باهظَ الثمنِ، ولا يستطيعُ عامةُ الناسِ الحصولَ عليهِ بسهولةٍ.
كان السببُ وراءَ سرقةِ ستيف للأموالِ هو مرضُ مورديس وتكلفةُ دواءِه العاليةُ.
لقد كان شقيقُه الأصغرُ مصابًا بهذا المرضِ.
وظلَّ ستيف يشتري العلاجَ غيرَ المكتملِ بالأموالِ التي يختلسُها، حتّى اكتملَ العلاجُ وهو في السجنِ.
لكنَّ شقيقَه كان قد ماتَ بالفعلِ.
في النهايةِ، جُنَّ جنونُ ستيف بسببِ غضبِه الذي لم يجد لهُ مخرجًا، وسلكَ طريقَ الإجرامِ الوحشيِّ.
وبما أنَّه كان يستمعُ لاعترافاتِ بعضِ جنودِ البحريّةِ في غرفةِ الاعترافِ، فقد عرفَ أسرارًا كتمتها البحريّةُ طويلًا، وقامَ بتفجيرِها علنًا ليسقطَ هيبةَ البحريّةِ، ممّا أدّى لمقتلِ الكثيرينَ في تلكَ العمليّةِ.
لكن هذهِ المرّةَ سيكونُ الأمرُ مختلفًا.
أنا أعرفُ طريقةَ صنعِ ذلكَ العلاجِ.
رغمَ أنَّ المكوّناتِ لم تجتمع كلُّها بعدُ، إلا أنَّني أستطيعُ منعَ ستيف من اختلاسِ أموالِ التبرّعاتِ مجددًا.
“أنتِ.. أنتِ.. لا، يا طفلتي، ماذا تقولين…!”
وضعتُ يدي على الحواجزِ التي تفصلُ بيننا.
ومن خلالِ الثقوبِ الصغيرةِ، استطعتُ رؤيةَ ظلِّه.
“أنا أعلمُ أنَّ شقيقَكَ مصابٌ بمرضِ مورديس.”
“هـ-هذا المرضُ لم تستطع جمعيّةُ أطباءِ ويتار حتّى علاجَه! لا، بل كيفَ عرفتِ ذلكَ…!”
السببُ الذي جعلَه كاهنًا كان حتمًا لإنقاذِ شقيقِه.
والسببُ الذي جعلَه يمدُّ يدَه لأموالِ التبرّعاتِ كان ظنِّه أنَّ الذهبَ سينقذُ الصبيَّ.
“هل هذا مهمٌّ؟ الدواءُ ليس في يدي الآنَ، لكنَّني سأرسلُه لكَ قريبًا.”
بالطبعِ هو مهمٌّ، أعني مصدرَ الدواءِ.
لكن في مثلِ هذهِ الحالةِ، لن يكونَ لديهِ عقلٌ يفكّرُ في تقصّي المصدرِ.
“كـ- كيفَ لي أن أصدّقَ كلامًا كهذا؟”
أخرجتُ فورًا بعضَ العملاتِ الذهبيّةِ والجواهرِ التي كانت في جيبي. ورغمَ أنَّ الحاجزَ يحجبُ الرؤيةَ الواضحةَ، إلا أنَّ بريقَها كان كافيًا ليدركَ قيمتَها العاليةَ.
“المالُ لا يكذبُ، أليسَ كذلكَ؟”
“……”
“سأعطيكَ هذا كدَفعةٍ مقدّمةٍ. استخدمِ المالَ المتبقّي بعدَ شراءِ الدواءِ غيرِ المكتملِ للاعتناءِ بهيبيريون. في كلِّ مرّةٍ يدخلُ فيها إلى غرفةِ الاعترافِ.”
لا يمكنُ لأحدٍ التنصتُ على غرفةِ الاعترافِ.
وبمعنى آخرَ، لا يمكنُ لأحدٍ معرفةُ ما يدورُ في الداخلِ أيضًا.
“كُن لهُ بمثابةِ الوصيِّ الحقيقيِّ.”
السببُ الذي جعلَ ستيف لا يُقبَضُ عليهِ بسهولةٍ رغُمَ كافّةِ جرائمِه، هو ذكاؤُه الحادُّ.
إذا صارَ حليفًا لهيبيريون، فإنَّ ذلكَ الصبيَّ في الخارجِ سيعاني أقلَّ.
تدريباتُ البحريّةِ صارمةٌ حقًّا… البدءُ كمتدربٍ في سنٍّ صغيرةٍ كهذهِ سيكونُ من الصعبِ تحمّلُه.
في الحقيقةِ، راودتني رغبةٌ سيئةٌ في خطفِ هيبيريون وإبعادِه عن هناكَ. والسببُ في عدمِ قيامي بذلكَ هو خطرُ تحويلِ العوائل الستة إلى عدوٍّ… وإلى جانبِ ذلكَ، لأنَّني أعرفُ كم شخصًا وكم دولةً أنقذَها هيبيريون حينما أصبحَ جنديًّا في البحريّةِ.
“ألا تخشينَ أن آخذَ المالَ ولا أفعلَ شيئًا؟”
“أبدًا.”
رجلٌ يملكُ شقيقًا صغيرًا، هل يمكنُه تركُ هيبيريون الذي يقاربُه في السنِّ وحيدًا؟
الآنَ، في كلِّ مرّةٍ يرى فيها ذلكَ الصغيرَ، سيتذكّرُ ستيف طلبي.
أنا أعلمُ أنَّه في الأصلِ لم يكن شخصًا ذا طباعٍ سيئةٍ.
في النهايةِ، خرجَ ستيف من غرفةِ الاعترافِ دونَ أن ينبسَ ببنتِ شفةٍ. وبعدَ فترةٍ وجيزةٍ…
فُتحَ البابُ الذي أمامي.
***
رأى هيبيريون اليومَ بولاريس في قاعةِ الصلاةِ.
ظنَّ أنَّه قد أخطأ في الرؤيةِ، لكنَّه مستحيلٌ أن يخطئَ في تمييزِ تلكَ الطفلةِ أبدًا.
هـ-هل جاءت لتصلي؟
بدأ قلبُ هيبيريون يخفقُ بسرعةٍ، لكنَّه هدأ سريعًا.
فقد غادرت بولاريس مع رجلٍ ذي شعرٍ بلونِ الطينِ دونَ أن تعيرَه أيَّ اهتمامٍ.
أ-أجل، ربما لم تلاحظ وجودي…
مظهري ليسَ ملفتًا للنظرِ إلى هذا الحدِّ.
لكنَّ لارا قالت إنَّني وسيمٌ…
هل كان مجرّدَ كلامٍ لتطييبِ خاطري؟ نظرَ هيبيريون إلى مقدمةِ حذائِه ببعضِ الإحباطِ.
وبما أنَّه كان محاطًا بجنودِ البحريّةِ الآخرينَ، لم يكن بمقدورِه القيامُ بأيِّ تصرّفٍ مفاجئٍ.
لديَّ الكثيرُ لأقولَه لها…
كان هيبيريون يلتزمُ بكلِّ ما طلبته منهُ بولاريس.
رغُمَ أنَّه لم يمضِ سوى بضعةِ أيامٍ، إلا أنَّ من ذاقَ طعمَ الحلاوةِ الحقيقيّةِ مرّةً لا يمكنُه نسيانُها أبدًا.
“سيأتي كاهنُ اعترافِ السيدِ هيبيريون قريبًا.”
في الأصلِ، كانت القاعدةُ تقتضي عدمَ استخدامِ ألقابِ الاحترامِ للمتدربينَ، ولكن بما أنَّ هيبيريون هو أدميرالُ المستقبلِ، لم يكن هناكَ الكثيرونَ ممن يجرؤونَ على معاملتِه بخشونةٍ.
“حسنًا.”
سمعَ هيبيريون كثيرًا عن كاهنِ الاعترافِ.
ومن المنطقِ أن يتغيّرَ الكاهنُ بتغيّرِ الفرعِ، لكن من الطبيعيِّ أن تربطَ كاهنَ الاعترافِ الأوّلِ علاقةُ أخوةٍ تدومُ طويلًا.
فكّرَ هيبيريون، الذي اعتادَ على مضايقاتِ إخوتِه، في بولاريس.
أولئك الذين تسمّيهم بولاريس عائلةً كانوا مختلفينَ جدًا عن عائلته.
شيءٌ ما…
يجعلُ قلبي يرتعشُ.
في هذهِ الأثناءِ، اقتربَ منهُ شخصٌ يرتدي ثوبَ الكهنةِ.
“تشرّفتُ بلقائِكِ. اسمي ستيف أديف، جئتُ لأساعدَ الأخَ الذي يخطو خطوتَه الأولى في حمايةِ نظامِ البحارِ.”
حصلتُ أيضًا على رمز جهاز النقل السحري الخاصِّ بستيف.
سيخبرني ستيف بما يأكلُه هيبيريون وكيفَ هي أحوالُه.
وفي المقابلِ، كلُّ ما عليَّ فعلُه هو إرسالُ الدواءِ والمالِ.
تمويلُ هيبيريون مرّةً في الأسبوعِ ليسَ بالأمرِ الصعبِ.
ضحكتُ بخفةٍ وأنا أفكرُ في شيءٍ آخرَ يمكنني إعطاؤُه لهُ.
يجبُ أن أصنعَ لهُ ترياقَ فراليت أيضًا.
بما أنَّ أوّلَ ما يتمُّ تناولُه بانتظامٍ بعدَ الانضمامِ للبحريّةِ هو عشبُ فراليت السامُّ والمسبّبُ للشللِ.
إذا تناولتَ فراليت باستمرارٍ وبكمياتٍ ضئيلةٍ جدًّا، ستشعرُ في البدايةِ بوخزٍ في أطرافِ أصابعِكَ أو ثقلٍ في جسدِكَ، لكن سرعانَ ما يعتادُ الجسمُ عليهِ وتصبحُ الحياةُ اليوميّةُ ممكنةً.
إنَّه ما يُسمّى بالحصانةِ.
لكن في المقابلِ، إذا لم تتناولِ الترياقَ، فستظهرُ أعراضٌ جانبيّةٌ تجعلُكَ تفقدُ حاسةَ التذوّقِ تمامًا.
سيكونُ من المحزنِ جدًّا ألّا يشعرَ بأيِّ طعمٍ في الأكلِ الذي أشتريهِ لهُ عبرَ ستيف.
في تلكَ اللحظةِ، طارَ طائرٌ متألقٌ وحطَّ فوقَ رأسي، ثمَّ تحوّلَ إلى شكلِ رسالةٍ.
كان المرسلُ بلا شكٍّ هو هيبيريون.
بعدَ قراءةِ المحتوى، شعرتُ بالحيرةِ.
ما هذا؟
[إلى لارا.]
[سمعتُ أنَّكِ طلبتِ من ستيف أن يعتنيَ بي. شكرًا لأنَّكِ اهتممتِ بي. وأيضًا…]
الصبيُّ الذي لم يتقن بعدُ الخطَّ المميّزَ لرجالِ البحريّةِ، كتبَ رسالةً طويلةً بخطٍّ متعرّجٍ مليئٍ بالأخطاءِ الإملائيّةِ.
التعليقات لهذا الفصل " 25"