تلكَ الموادُّ التي لم تُكرَّر بدقّةٍ ولم تُراعَ مكوّناتُها لم تكن سوى سمومٍ تسبّبُ الإدمانَ.
ورغمَ تسميتِها أدويةً، إلّا أنَّها في معظمِ الحالاتِ لم تكن تؤدّي أيَّ وظيفةٍ علاجيّةٍ.
كانت هناكَ أنواعٌ عديدةٌ منها، لكنَّ القليلَ فقط هو ما ظهرَ كأزمةٍ اجتماعيّةٍ؛ ففي النهايةِ، الصيحاتُ الرائجةُ لا تصمدُ طويلًا.
أصلاً مجرّدُ وجودِها يُعدُّ مشكلةً.
كانت طرقُ توزيعِهم بارعةً وخبيثةً في آنٍ واحدٍ؛ حيثُ يختبئونَ هم في الظلِّ ويقدّمونَ الضحايا كواجهةٍ للإفلاتِ من أعينِ البحريّةِ.
والأدهى من ذلكَ أنَّهم لم يبدأوا من اليابسةِ، بل من جزرٍ نائيةٍ عنها، ممّا جعلَ ضبطَهم أمرًا عسيرًا.
علاوةً على ذلكَ، كانت قضيّةُ الأدويةِ غيرِ القانونيّةِ هذهِ تمثّلُ إزعاجًا حتّى لعائلةِ ويتا.
عائلةُ ويتا، وهيَ إحدى العائلاتِ الستِّ الكبرى التي تملكُ قوةَ الشفاءِ، كانت مثقلةً بالفعلِ بمشاكلِ القارّةِ الغربيّةِ. كما أنَّ قدرةَ ويتا لم تكن مطلقةً.
لأنَّ العلاجَ مستحيلٌ ما لم يحدث تلامسٌ مباشرٌ مع شخصٍ يجري في عروقِه دمُ ويتا.
(عائلة ويتا تختلف عن جمعية ويتار الطبية)
بمعنى آخرَ، كان من المستحيلِ على عائلةِ ويتا التعاملُ مع جميعِ المصابينَ.
كانَ الحلُّ الوحيدُ هو أن يراقبَ الأطباءُ عمليّةَ العلاجِ التي يقومُ بها أفرادُ ويتا، ثمَّ يجرونَ أبحاثهم بناءً عليها.
وإذا لم تظهر نتائجُ ملموسةٌ رغمَ مساعدةِ ويتا، كان يُعلنُ عن المرضِ كمرضٍ عُضالٍ…
لذلكَ، فإنَّ اكتشافي المفاجئَ قد هزَّ القارّةَ بأكملِها، وبفضلِ ذلكَ الإنجازِ وحدَه، تمكّنتُ من الانضمامِ فورًا لجمعيّةِ أطباءِ ويتار.
بالطبعِ كنتُ في المرتبةِ الثالثةِ من أصلِ عشرِ مراتبَ، لكن لا بأسَ.
على أيّةِ حالٍ، ليسَ هذا هو المهمَّ الآنَ. المهمُّ أنَّ هذهِ الممارساتِ كانت شيئًا يكرهُه نيريوس بشدّةٍ؛ فالمتعةُ التي لا يمكنُ الفكاكُ منها ليست ترفيهًا بل هيَ ألمٌ محضٌ.
أحدُ الأسبابِ التي تجعلُ قراصنةَ كايلوم يغرّدونَ خارجَ السربِ هو عدمُ مساسِهم بهذهِ الأمورِ.
كايلوم لم تورّط نفسَها أبدًا في الأدويةِ غيرِ القانونيّةِ، بل كانت تميلُ إلى كراهيتِها بشدّةٍ.
يبدو أنَّ ديكستر الجالسَ بجانبي لم يكن مرتاحًا في مثلِ هذهِ الأجواءِ.
يا لكَ من مسكينٍ. اصمد قليلًا يا ديكستر.
بما أنَّ ديكستر كان الأقلَّ انشغالًا على السفينةِ اليومَ، تولّى دورَ حارسي الشخصيِّ، لكن برؤيتِه يرتجفُ كشراعٍ في مهبِّ عاصفةٍ بحريّةٍ، شعرتُ أنَّني أنا من يجبُ أن يحميهِ.
لا بُدَّ أنَّ الأمرَ كذلكَ. فمهما كانَ ديكستر قنّاصًا بارعًا، فهو لا يساوي شيئًا دونَ بندقيتِه.
مسكينٌ ديكستر. لقد وصلَ بهِ الحالُ إلى النحيبِ وهو يضمُّ يديهِ بجانبي.
والأهمُّ من ذلكَ، أنَّ غرفَ الاعترافِ في المعبدِ لا يمكنُ أن تحتويَ على أيِّ أجهزةِ تنصتٍ، وكانت المكانَ الوحيدَ الذي لا تملكُ فيهِ البحريّةُ أيَّ سلطةٍ.
والكاهنُ المسؤولُ عن تلكَ الاعترافاتِ يُسمّى كاهنَ الاعترافِ.
بمعنى أنَّ وجودَ ستيف في هذهِ الجزيرةِ وهذا المعبدِ لم يكن محضَ صدفةٍ.
كانَ من المقرّرِ أن يصبحَ ستيف أوّلَ كاهنِ اعترافٍ لهيبيريون.
ولكن بسببِ ذلكَ، عندما تمَّ القبضُ عليهِ، ثارَ جدلٌ حولَ تورّطِ هيبيريون.
وفي ذلكَ الوقتِ، كان هيبيريون قد ترقّى لمرتبةٍ أدميرال، ممّا جعلَ الأثرَ أقوى.
–”بما أنَّه كان أوّلَ كاهنِ اعترافٍ للأدميرالِ الحاليِّ، فلا بُدَّ أنَّ الأدميرالَ فاروس متورّطٌ في اختلاساتِه!”
حسنًا، لم يظهر أيُّ دليلٍ وانتهى الأمرُ دونَ نتيجةٍ… لكنَّني أتذكّرُ أنَّه تعرّضَ لضغوطٍ كبيرةٍ.
لا يجبُ على جنديِّ البحريّةِ أن ينساقَ وراءَ أطماعِه الشخصيّةِ.
وبما أنَّ لا دخانَ بلا نارٍ، فقد وُجّهت لهيبيريون نظراتٌ سلبيّةٌ لفترةٍ طويلةٍ.
هل يوضّحُ هذا مدى أهميّةِ العلاقةِ بينَ جنديِّ البحريّةِ وكاهنِ اعترافِه؟
عندما أصبحتُ أنا جنديّةً، تلاشت تلكَ العلاقةُ الوثيقةُ كثيرًا، لكن بالنسبةِ لجنديِّ البحريّةِ، كان لكاهنِ الاعترافِ الأوّلِ معنًى كبيرٌ.
عادةً، عندما يصبحُ الكهنةُ رسميينَ، لا يضطرونَ لدخولِ غرفِ الاعترافِ، لذا كانوا يتركونَها، لكنَّ قلةً منهم هم من كانوا يتركونَ مسؤوليّةَ اعترافاتِ جنودِ البحريّةِ.
وبسببِ التدريباتِ والمهامِّ الشاقّةِ التي تُنهكُ الجسدَ والروحَ، كان كاهنُ الاعترافِ الصديقَ والمنقذَ الوحيدَ الذي يمكنُ الاعتمادُ عليهِ.
بالطبعِ، هذا صارَ كلامًا قديمًا الآنَ.
كانت البحريّةُ تقدّسُ قيمَ العدالةِ، وبقدرِ ذلكَ كانت تحترمُ التقاليدَ.
ممّا يعني أنَّ كاهنَ اعترافِ هيبيريون سيظلُّ هذا المدعو ستيف حتّى ينتقلَ إلى مقرِّ قيادةِ البحريّةِ…
وهذا الرجلُ لم يظهر أمامي صدفةً.
كنتُ شبهَ متأكّدةٍ من ذلكَ.
فقد وضعتُ في ظرفِ التبرّعاتِ عندَ دخولي جوهرةً بحجمِ إبهامِ رجلٍ بالغٍ.
وبحسبِ ما كُشفَ لاحقًا، كان ستيف يختلسُ منذُ كان متدربًا، لذا فمن الطبيعيِّ أن يكونَ هو من فحصَ الظروفَ هذهِ المرّةَ أيضًا؛ لأنَّ هذا العملَ لا يُحسبُ في الخبرةِ، وهو مملٌّ ومرهقٌ، وقليلونَ من الكهنةِ من يرغبونَ في القيامِ بهِ.
كان يدخلُ كبديلٍ دائمًا عوضًا عن المتدربينَ الكسالى، ليتفحّصَ المحتوياتِ ويسجّلها ويختلسَ الفائضَ سرًّا…
تخيّل مدى دهشتِه عندما وجدَ فجأةً جوهرةً ضخمةً!
قيمتُها لا تقلُّ عن 80 ألفَ ويتن. ورغمَ أنَّ ضميري يؤلمني قليلًا لأنَّني أخذتُها من الغنائمِ التي حصلنا عليها في هذهِ الرحلةِ، إلا أنَّ الضروراتِ تبيحُ المحظوراتِ.
ضممتُ يديَّ ونظرتُ إلى ستيف، ثمَّ رسمتُ على وجهي تعبيرًا طفوليًّا بريئًا لا ينطلي أبدًا على نيريوس.
“أتعلمُ، هل أنتَ كاهنٌ عـظيمٌ؟”
“هممم، لا أعلمُ. أنا لستُ كاهنًا حقيقيًّا بعدُ، أنا مجرّدُ متدربٍ.”
كان ديكستر قد شحبَ لونُه وهو يراني أتصرّفُ كالأطفالِ.
لم يكن مشمئزًا، بل بدا كأنَّه رأى شيئًا لا يجبُ رؤيتُه.
هذا ليسَ من شأني.
“لكنَّ البدايةَ هي نصفُ الطريقِ. أظنُّ أنَّكَ كاهنٌ عظيمٌ جدًّا، لقد وجدتَ لي الشوكولاتةَ الخاصةَ بي!”
لا بُدَّ أنَّ ستيف قد استنتجَ من خصلةِ الشعرِ في الظرفِ أنَّني أنتمي لعائلةٍ ثريّةٍ.
وسيكونُ من الأفضلِ لو ظنَّ أنَّني ابنةُ عائلةٍ ذاتِ نفوذٍ كبيرٍ.
أشرتُ لستيف بيدي، فانحنى قليلًا، فهمستُ لهُ:
“في الحقيقةِ، لقد فعلتُ شيئًا سيئًا دونَ علمِ أبي. هل يمكنكَ من فضلكَ أن تسمعني؟”
التعليقات لهذا الفصل " 24"