الفصل 15
رأيتُ المافن الذي كنتُ قد أكلتُ جزءًا منه وقد انهرس في يدي، فقلتُ “تسك”، ونقرتُ لساني بخفّة.
‘لم ألاحظ هذا.’
لم يكن وجهُ أدميرال معروفًا.
وذلك لأنّه كان دائمًا ينشط وهو يرتدي قناعًا.
لهذا انتشرت شتّى التكهّنات مثل أنّه تعرّض للّعنة، أو أنّ وجهه بشعٌ للغاية، أو أنّه ارتكب في الحقيقة جريمةً جسيمةً لا يمكن التستّر عليها حتّى داخل فاروس.
ريون الذي أتذكّره كان دائمًا ذو وجهٍ مُتعَب، لكنّ شخصيّته لم تكن بريئةً أو ساذجةً إلى هذا الحدّ.
ولهذا لم أستطع أبدًا أن أصدّق أنّه هو نفس الشخص الذي يُطلق عليه أدميرال الدم، ذاك الذي تُحيط به القصص المرعبة والباردة كريحٍ قارسة.
‘بل أصلًا، الملابس التي كان يرتديها كانت مختلفة، أليس كذلك؟’
في البحريّة، كانت تُوزَّع بزّاتٌ مختلفة بحسب الرتبة.
والتي كان ريون يرتديها آنذاك لم تكن حتّى بزّة جنديّ، بل بزّة متدرّب.
عندما التقيتُ به لأوّل مرّة كان برتبة رقيب، ومع ذلك ظلّ متدرّبًا حتّى صار ضابط صفّ.
هل كان ينبغي أن أشكّ في الأمر منذ ذلك الحين؟ اللعنة.
‘لا، أنا فقط ظننتُ أنّه ليس مخلوقًا للحياة العسكريّة أصلًا…’
ربّما كانت المشكلة أنّ هذا النوع من الأمور حسّاسٌ جدًّا، ولذلك لم أجرؤ يومًا على سؤاله عن الترقية السريعة.
أو ربّما….
“بالمناسبة، هل لديكَ أخٌ… يحمل الاسم نفسه مثلًا؟”
“هاه؟ لديّ أخَوان أكبر منّي، لكن لا أحد يحمل الاسم نفسه.”
اللعنة.
تحطّم أملٌ آخر تمامًا.
‘كما توقّعتُ.’
صحيح، اسم ‘هيبيريون’ لم يبدأ بالانتشار إلّا بعد أن اعتلى هذا الطفل منصب الأدميرال وقضى على القراصنة الذين هاجموا جزيرة لوتيون.
ولهذا صار اسمًا يُطلق على الأطفال المولودين بعد تلك الفترة.
أي أنّه في هذا الزمن، لم يكن اسمًا شائعًا أصلًا.
‘وفوق ذلك، معلومات عائلة ريون متطابقة.’
ريون قال أيضًا إنّ لديه أخوين أكبر منه.
وحتّى هذا الجوّ الغامض حين يتحدّث، وكأنّ علاقته بإخوته ليست جيّدة، كان متشابهًا تمامًا.
‘ما الذي سأفعله الآن؟’
إنّه الشخص نفسه بلا مجالٍ للإنكار.
فركتُ وجهي بيدي الخالية من المافن، وفي اليد الأخرى شعرتُ بدفءٍ لطيف.
كان هيبيريون يمسح برفقٍ فتات المافن العالق بيدي بمنديل.
“……”
“لـ-لأنّها متّسخة… أنا آسف. فعلتُ شيئًا لم تطلبيه….”
“لا، شكرًا لك.”
عند صوته الطريّ، لان قلبي.
‘صحيح، ماذا أفعل وأنا أتعامل مع طفل؟’
في النهاية، هذا الطفل مختلف عن ريون، ومختلف عن أدميرال فاروس ذاك.
وإن كان في الحقيقة الشخص نفسه، إلّا أنّه ما زال في زمنٍ لم يُلقِ القبض فيه على نيريوس بعد.
‘إذا سارت الأمور جيّدًا، قد يراعينا لاحقًا بدافع الألفة.’
نيريوس، مهما كانت الحيلة التي يستخدمها، كان بارعًا للغاية، لدرجة أنّه حتّى لو صادف أحد أصحاب القدرات، كان ينجو دائمًا.
لكنّ القدرة التي يمتلكها أفراد فاروس هي السيطرة على البحر.
ولهذا شاع القول إنّهم من سلالة كورماري، ونالوا ثقة الناس.
وخلال الأجيال القليلة الماضية ضعفت هذه القدرة تدريجيًّا، فأصبحوا مادّة للسخرية بين القراصنة، لكنّ ذلك اختفى تمامًا عندما اعتلى هيبيريون فاروس منصب الأدميرال، و عاد ليُرسِّخ نفسه من جديد كرعبٍ للقراصنة….
على أيّ حال، لم يكن لهم انسجامٌ مع القراصنة إطلاقًا.
رؤيتهم تعني الهرب فورًا، لكن قدرة هيبيريون كانت قويّة وواسعة النطاق إلى حدّ أنّه لا مجال حتّى للفرار.
‘حليفٌ مثاليّ، لكن كعدوّ؟ لا أريد لقاءه ولو متّ.’
ومع ذلك، لماذا تُرِك هذا الطفل وحيدًا هناك؟
لم أفهم الأمر.
“اسمع، ريون. لديّ سؤال.”
“ر-ريـ-ريـ-ريون؟”
‘آه، هذا خطأ.’
عادةً لا تُستخدم الألقاب إلّا مع العائلة، أو الأصدقاء المقرّبين جدًّا، أو العشّاق.
وبمجرّد أن عرفتُ أنّ هيبيريون هو ريون، خرج الاسم من فمي دون وعي.
‘أو ربّما لأنّي انبهرتُ بوجهه.’
لا، بجدّية، كيف يمكن أن يكون هناك كائنٌ لطيفٌ إلى هذا الحدّ؟
كان لطيفًا لدرجة أنّني رغبتُ فورًا في أخذه إلى المطعم وإطعامه كلّ شيءٍ لذيذ.
“إن أزعجكَ الأمر، أنا آسفة. أنت تشبه طفلًا كنتُ أعرفه قديمًا.”
“لكن… أنتِ في السادسة، أليس كذلك؟”
“حتّى ابنة الستّ سنوات يمكن أن يكون لها شخصٌ تعرفه قديمًا.”
“آه… هكذا إذن….”
تقبّل كلامي المرتجل بصمت.
ما هذا الطفل الطيّع والناعم إلى هذا الحدّ، وكيف سيصبح لاحقًا أدميرالًا يحتكر كلّ تلك الأوصاف الباردة والقاسية؟
‘لا بدّ أنّ شخصًا غريبًا سرق اسمه وصار أدميرالًا، بينما بقي هذا الطفل عاملًا بسيطًا.’
غير ذلك هذا لا معنى له.
هل يُعقل أن هذا الطفل اللطيف سيطارد القراصنة؟
الأقرب للمنطق أنّه لن يتحمّل تدريب البحريّة و سيستقيل بعد أسبوع.
“لماذا أنت مرتبك؟”
شدّ هيبيريون طرف ثوبي.
رمش بعينيه، ثم حرّكهما هنا وهناك، وبعد تردّدٍ طويل قال بصوتٍ خافت:
“لأنّ… لأنّها أوّل مرّةٍ يُناديني أحد بـ ريون.”
“……”
“كنتُ دائمًا أتساءل كيف سيكون الأمر… فقلتُ في نفسي: آه، هذا هو الشعور….”
ابتلع كلماته، وصار صوته أخفض فأخفض.
عندها فقط نظرتُ إلى الطفل الجالس أمامي نظرةً أدقّ.
‘فرقنا عامان فقط.’
ومع ذلك، لم يكن الفرق في البنية كبيرًا رغم أنّني صغيرة على ستّ سنوات.
وهذا يعني أنّ وضع هيبيريون غير طبيعيّ إطلاقًا.
‘لماذا؟’
كلّ من يحمل دم فاروس يولد بقوى.
لذلك كانوا يحذرون من تسريب الدم خارجًا، ويديرون العائلة بإحكام، ويحرصون على أفرادها حرصًا شديدًا.
قد تكون هناك عائلات تتقاتل داخليًّا على الخلافة، لكنّ فاروس كانت مختلفة، ولهذا كان من الغريب جدًّا أن يُعامَل هيبيريون معاملةً سيّئة داخل عائلته.
“…!”
‘هل كان هذا هو الوقت الذي لفت فيه هيبيريون أنظار الجميع؟’
كما سقط كثيرون في سفينتنا، لا بدّ أنّ السفن الأخرى التي رست هذه المرّة واجهت مشاكل أيضًا.
لم يسقط هذه المرة ضحايا في كايلوم لأنّني كنتُ أعرف المستقبل، لكنّ الأماكن الأخرى كانت بلا شكّ في حالة حداد.
وأحد الأمور التي أعرفها عن أدميرال فاروس قبل الرجوع بالزمن، أيّ هيبيريون فاروس، أنّه حقّق ‘إنجازًا عظيمًا’ بعد التحاقه بالجيش بوقتٍ قصير، وكان ذلك حديثًا متداولًا سرًّا بين البحريّة.
‘صحيح، لم يكن معروفًا للعامة، لكنّ البحريّة كانت تعلم.’
لم يكن أحد يعرف ماهيّة الإنجاز، فظننته مجرّد شائعة ناتجة عن الإعجاب باسم ‘فاروس’….
‘لكن إن كان هذا هو الأمر، فالأمر منطقيّ.’
إن كان قد اكتشف ما سيُسمّى لاحقًا بـ ‘الشمس البيضاء’، أي سبب هذا المرض، فذلك يفسّر كلّ شيء.
هيبيريون تُرك في بستان برتقالٍ تفشّى فيه مرض التنّين الأبيض.
ولو لم نعثر عليه، فمن يدري بأيّ طريقة توصّل إلى المرض وطريقة علاجه.
ومع حالته الجسديّة، فعند عودته إلى القرية لا بدّ أنّ ‘التنين الأبيض’ أحدث ضجّةً كبيرة.
‘الآن بدأتُ أفهم.’
حين درستُ الطريق الأبيض، كان مكتوبًا أنّ سبب المرض كُشِف بفضل بلاغ شخصٍ واحد.
ولو كان ذلك الشخص هو هيبيريون، لانطبق كلّ شيء.
‘ويبدو أنّ علاقة هيبيريون مع سيّد ويتار لم تكن سيّئة.’
ولهذا انتشرت آنذاك شائعة أنّ أدميرال فاروس يحظى بدعم ويتار.
هيبيريون وجد دليلًا مهمًّا على سبب المرض في سنٍّ مبكرة، وبفضله أمكن احتواء الوضع نسبيًّا….
‘لكن علاقة هيبيريون مع فاروس لم تكن جيّدة.’
عادةً، إنجازٌ كهذا يُعلَن اسم صاحبه على نطاقٍ واسع ما لم يرفض بنفسه.
أمرٌ غريب.
ربّما لأنّ المجال الطبيّ هو اختصاص ويتار، ولو تدخّلت عائلة فاروس رسميًّا، وهي من العوائل الستة أيضًا، لبدت الصورة غير متناسقة….
هيبيريون تُرك في بستانٍ يملكه القراصنة.
ومن هنا يمكن استنتاج أنّ فاروس لم ترغب في أن يحقّق هيبيريون إنجازه بوصفه ‘فاروس’، بل بوصفه مجرّد ‘هيبيريون’.
حتّى لو نال دعم ويتار، فبحسب ما أتذكّر، كانت جميع العائلات الستة مترابطة بشدّة باستثناء واحدة.
وبما أنّ هيبيريون لم يكن ملمًّا بالسياسة، فمن المرجّح أنّ فاروس بادرت قبل أن يدرك شيئًا، وارتدت قناع الأشخاص الطيّبين، وسلّمت الإنجاز كاملًا لويتار، ثم نالت منها المقابل.
ولهذا، قبل الرجوع بالزمن، لم يعرف أحد سبب دعم ويتار لهيبيريون.
تذكّرتُ حديثًا دار بيني وبين ريون قبل الرجوع.
“في الحقيقة، علاقتي بعائلتي ليست جيّدة جدًّا، ماذا عنكِ يا لارا؟”
“وأنا كذلك.”
“ألستِ على وفاقٍ مع العقيد أكيرا؟”
“آه، لا، ليس هذا… كان هناك شخصٌ أشبه بالعائلة. لكن علاقتنا لم تكن جيّدة. و افترقنا الآن.”
“…أنتٍ تشبهينني كثيرًا.”
“صحيح.”
“إذًا….”
“بما أنّ الأمر هكذا، هل أكون أنا عائلتكَ؟”
“…!”
“سأكون أختكَ الكبرى، لا بل الصغرى؟ على أيّ حال، سأكون لكَ سندًا أكثر من إخوتكَ.”
“……”
“ما بكَ؟”
“آه…ألا يمكن أن نكون… أصدقاء كالعائلة بدلًا من عائلة؟”
الآن بعد أن أفكّر، كان متردّدًا في أن يصبح فردًا من عائلة.
ربّما لأنّ عائلته الحقيقيّة لم تكن عائلة فعلًا.
ذلك مؤلمٌ بعض الشيء.
‘كنتُ مستعدّة لفعل أيّ شيء.’
في ذلك الوقت، كنتُ أكره كايلوم، لكنّني كنتُ أشتاق لفكرة العائلة بسبب الذكريات الباقية.
أمّا هيبيريون، فربّما كانت علاقته السيّئة بإخوته تجعله ينفر من مفهوم العائلة.
‘لقد قصّرتُ في مراعاته.’
ظننتُ أنّ الأمر مجرّد شجارٍ بسيط، لكن إن كان قد تُرِك في بستانٍ ليموت، فالمسألة أخطر بكثير.
“ريون… هل علاقتك بعائلتك سيّئة؟”
سألتُه بحذرٍ شديد ولطفٍ بالغ.
“هاه؟ لا، أبدًا. إخوتي رائعون ومدهشون.”
‘أليس كذلك؟ هل كانت العلاقة جيّدة في هذا الوقت؟’
أليس هناك حالات كهذه؟
إخوةٌ كانت علاقتهم جيّدة، ثم يبرز أحدهم، فتتصدّع العلاقة.
سمعتُ بذلك من قبل. نعم، قد يحدث.
“أنا…هذا لأنّي مقصّر….”
‘ماذا؟’
“أنا لا أُجيد استخدام السيف، فحين يدرّبني إخوتي أفشل دائمًا وأتلقّى الضرب… ولذلك يرمون عليّ كراتٍ لتقوية سرعة ردّ فعلي، لكنّي أكون أبطأ منهم فلا أستطيع تفاديها جيّدًا…
ومع ذلك، لا يعاقبونني عقابًا كبيرًا، فقط أبقى في الغرفة أيّامًا دون طعام… وأنا ممتنّ لهم….”
‘ما هذا؟’
“لأنّهم يحاولون مساعدتي لأصبح أفضل.”
…هذا جنون.
هذا إساءةٌ صريحة للأطفال.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"