الفصل 14
دعك دعك.
الآن فقط، عندما أفكّر في الأمر، أجد أنّني لم أكن أمتلك هذا الطبع قبل العودة بالزمن.
كنتُ أكثر نضجًا، أعرف كيف أفصل بين الشيء العامّ والخاصّ، وباختصار كنتُ شخصًا يُشاد به بوصفه “بحريّةً حقيقيّةً بين البحريّين”.
دعك دعك دعك.
‘لكن كيف انتهى بي الأمر على هذا الحال؟’
ليس الأمر أنّه “كيف”، بل كأنّني ما إن استعدتُ وعيي حتّى تحوّلتُ إلى طفلةٍ متهوّرةٍ بلا عقل.
هل لأنّ جسدي عاد صغيرًا فأصبحوا يعاملونني كطفلة فانخفض معدل ذكائي مثلهم أيضًا؟
أم لأنّ حياتي الآن مليئة بلحظات شخصيّة لا مجال فيها للفصل بين الجدّ واللعب…؟
دعك دعك دعك دعك.
‘لا سبيل لمعرفة ذلك.’
ربّما سأفهم عندما أكبر قليلًا.
على أيّ حال، من حسن الحظّ أنّ ذكائي لم ينهَر تمامًا.
فلو كان قد تدهور إلى القاع فعلًا، لكنتُ الآن مجرّد طفلةٍ بكّائة عاجزة عن فعل أيّ شيء.
“لارا، إلى متى سنفعل هذا؟”
“همم، قليلًا بعد.”
كنتُ الآن أطحن أوراق الكاكو في وعاء وقد ملأته بها حتّى آخره.
البحّارة الذين فرغت أيديهم جلسوا في أماكنهم يطحنون أوراق الكاكو أو ينظّفون جذور الأشجار المصابة بداء التنّين الأبيض.
بدوا متحيّرين قليلًا بشأن سبب قيامهم بهذا، لكن بما أنّني قلت إنّني أريد ذلك، تعاملوا مع الأمر بلا اكتراث.
‘لا بدّ أنّهم يظنّونه لعب أطفال.’
منذ صغري، وبسبب ضعف صحّتي، كنتُ كثير التردّد على غرفة العلاج في السفينة.
الآن عمري ستّ سنوات، لكنّي سمعت أنّ حالتي عندما وجدوني لأوّل مرّة كانت سيّئة للغاية، لدرجة أنّني قضيتُ نحو نصف عامٍ ملاصقةً لإيثان تقريبًا.
ربّما لستُ بتلك السوء الآن، لكنّي ما زلتُ أعتمد عليه كثيرًا.
لذلك، من الطبيعيّ في نظرهم أن أهتمّ بالطبّ منذ الصغر.
من الواضح أنّهم يفترضون أنّني فقط أقلّد إيثان الذي أراه دائمًا.
“…هل رأيت؟”
“لا أدري… تشبه….”
كانوا يهمسون بشيء وهم يطحنون، لكن طالما أنّ العمل لم يتعطّل، لم يكن الأمر يعنيني.
‘هذا القدر يكفي الآن، أليس كذلك؟’
بدأتُ بصناعة الدواء مستخدمةً أدوات احتياطيّة كانت لدى إيثان.
أوّلًا، شرعتُ في استخراج مكوّنات أوراق الكاكو، وهي المرحلة الأكثر استهلاكًا للوقت.
كان عليّ أيضًا خلط الموادّ الأساسيّة بين الحين والآخر، فكنتُ أتحرّك بانشغال، بينما بدأتُ ألاحظ أنّ أصوات الطحن وتنظيف الجذور من حولي تخفت تدريجيًّا.
“لديّ عيون في مؤخرة رأسي. كفّوا عن التحديق واعملوا.”
كما توقّعت، يبدو أنّ فضولهم جعل أيديهم تتوقّف، لكن ما إن قلتُ ذلك حتّى عاد صوت العمل المنتظم من جديد.
‘حسنًا، أستخرجُ خلاصة الكاكو، ثمّ أقطّرها مرّة واحدة، وبعدها….’
الأدوات التي يملكها إيثان كانت، بحكم العصر، مجرّد أدوات “طارئة ومؤقّتة”، أي بدائيّة للغاية.
ولهذا كان عليّ المرور بعدّة خطوات إضافيّة، وهو أمر مزعج فعلًا.
حرق نصف الجذور لتحويلها إلى فحم، ثمّ غلي رماد الفحم مع العصارة…
مع أنّ هذه العمليّة كانت بسيطة للغاية عندما اجتزتُ اختبار جمعيّة أطبّاء ويتار، إلّا أنّ العمل في بيئة متخلّفة كهذه استغرق وقتًا طويلًا.
وفوق كلّ ذلك…
‘آه، هذا الجسد هشّ للغاية.’
شعرتُ بالإرهاق مبكّرًا، فمسحتُ العرق عن جبيني و تنهدتُ تنهيدةً خافتة.
“ما الأمر؟ هل أنتِ متعبة؟ إذًا استريحي قليلًا.”
وكان نيريوس يقف بجانبي وهو يتحدّث…
‘هاه؟’
متى جاء هذا أصلًا؟
كان نيريوس، كعادته، يبتسم ابتسامة عريضة، واضعًا ذقنه على يده وهو ينظر إليّ، ثمّ هزّ القارورة الموضوعة إلى جانبي.
“قلتِ إنّكِ لن تخرجي من الغرفة، فإذا بكِ تصنعين هذا بالفعل؟”
“لم أضف مكوّنات الكاكو بعد.”
“تعرفين كلمة ‘مكوّنات’ أيضًا؟ واو، هل أنتِ عبقريّة حقًّا؟”
وهل هذا موضع الدهشة؟
عندما رمقته بنظرة احتجاج وأنا أعقد ذراعيّ، وضع القارورة أخيرًا في مكانها.
“لكن يا لارا، عليكِ أن تأكلي أيضًا. حسنًا؟ أنتِ محبوسة هنا منذ أكثر من أربع ساعات. عائلتنا كلّها تقلق عليكِ، فهيا كلي واستريحي.”
“لم يكتمل الدواء بعد.”
“بفضل ما فعلته لارا منذ البداية، العائلة التي كانت مريضة أصبحت بخير الآن، أليس كذلك؟ لنأكل أوّلًا.”
ذلك لأنّ الإسعافات الأوّليّة نجحت لا أكثر.
إن لم يتناولوا الدواء الكامل بدل الوصفة المؤقّتة، فهناك احتمال كبير لانتكاس المرض خلال أسابيع.
من دون أن يدرك ما يدور في رأسي، أمسك نيريوس بي وسحبني إلى خارج الغرفة.
“بالمناسبة، ذلك الطفل الذي أحضرناه استيقظ للتوّ. قد يخاف إن جئنا نحن، فهل تستطيعين يا لارا أن تصطحبيه إلى الطاولة؟”
ثمّ، وهو يقول لي ألّا أسقط في الطريق، دسّ في فمي قطعة مافن، وأخذ واحدة لنفسه وعضّها بنهم.
كنتُ على وشك أن أوبّخه على تصرّفه المتهوّر، لكن…
“لذيذة.”
“صحيح؟ كُلي أكثر.”
كانت لذيذة أكثر من أن أجادل.
قالوا إنّها واحدة من الأطباق التي أعدّها غيلبرت منذ أمس، بعد أن حبس نفسه في المطبخ.
وبهذا الجوّ الساذج، توجّهنا إلى الغرفة التي يوجد فيها الطفل.
“…….”
انفتح الباب بسلاسة دون أيّ صرير، كاشفًا عن غرفة صغيرة.
كانت غرفة منفردة مخصّصة للحالات الحرجة، واسعة النوافذ، يغمرها ضوء الشمس.
كان الصبيّ الذي استيقظ حديثًا جالسًا، مسندًا الجزء العلويّ من جسده، وينظر إلى الخارج.
“أه، أمم، مرحبًا؟”
يبدو أنّه شعر بوجودنا قبل الدخول، إذ لم يفزع من صوتي، بل أدار رأسه ببطء لينظر إليّ.
وفي اللحظة التي تلاقت فيها أعيننا، انحبس نفسي.
‘واو، هذا جنون.’
أيّ طفل يمتلك هذا الجمال؟
شَعرٌ كأنّه خيوط نُسجت من ذهبٍ أذابته الشمس، وعينان ذهبيّتان تتلألآن بوضوح.
لولا هذا الشعر الذهبيّ الفاتن، لبدت عيناه كقطعتَي نحاس، لكنّهما كانتا كلتاهما متألّقتين إلى حدّ يجعله أشبه بفتىً خارجٍ من لوحة فنّيّة.
طفل يستطيع تحمّل هذا البريق كلّه… مستقبله مخيف.
طوال ستّةٍ وعشرين عامًا من حياتي، لم أرَ شخصًا بهذه الدرجة من الجمال إلّا مرّة واحدة… لا، مرّتين.
“ما هذا الجمال الفاحش؟”
“هاه؟”
“أه؟”
هل قلتُ ذلك بصوتٍ عالٍ؟
عادةً لا أنطق بمثل هذه الأمور.
غطّيتُ فمي، لكنّ الكلمات كانت قد خرجت بالفعل.
رأيتُ أطراف أذني الطفل تحمران.
“آسفة لتقييمي مظهرك بلا تروٍّ. تفاجأتُ لأنّك جميل جدًّا. أمم… لقد قيّمتُك مجدّدًا. لكن حقًّا، لم أرَ في حياتي شخصًا بجمالك.”
“…….”
لقد أعتذرت، لكن تعابير وجهه بدأت تتغيّر على نحوٍ غريب.
شيء واحد كان مؤكّدًا، أنا أفعل شيئًا خاطئًا.
‘كنتُ أظنّ أنّني لستُ من النوع الذي ينجرف خلف المظهر.’
لكن الحقيقة أنّني لم أرَ يومًا جمالًا بهذا الإتقان.
كنتُ ضعيفة أمام الأشياء الجميلة واللامعة، وقد أدركتُ ذلك الآن.
“أه… كم عمركِ؟”
“أنا؟ سـ-ستّ سنوات.”
كدتُ أقول ستّةً وعشرين.
لكن لسببٍ ما، صار وجه الطفل الجالس على السرير أكثر غرابة.
واصلتُ مضغ المافن، محدّقةً في تغيّر تعبيره الطفيف.
“ما-ما الأمر؟”
غريب.
لماذا يبدو مألوفًا إلى هذا الحدّ؟
نادرًا ما رأيتُ شخصًا بهذا الشكل.
جلستُ على طرف السرير، واقتربتُ أتفحّص ملامحه واحدةً واحدة، غارقةً في التفكير.
“هل التقينا من قبل؟”
“هاه؟ لـ-لا أظنّ…”
‘هل ذاكرتي سيّئة إلى هذا الحدّ؟ أم أنّني رأيتُ شخصًا جميلًا جدًّا فاختلقتُ ذكرى؟’
يقولون إنّ الإنسان قد يُصدم عند رؤية الجمال المفرط.
ربّما كان هذا من ذاك القبيل.
‘انتظر.’
عند النظر إلى وجهه عن قرب، أدركتُ شيئًا.
‘…إنّه يشبهه.’
هذا الطفل يشبه إلى حدٍّ كبير أوّل شخصٍ جميلٍ حقًّا عرفته في حياتي الماضية.
بل يكاد يكون نسخةً طبق الأصل.
صديقي الوحيد الذي كنتُ أجرؤ على تسميته صديقًا في أيّام البحريّة، وأجمل شخصٍ في حياتي كلّها.
كان عامل مهامّ يتنقّل بين هذه السفينة وتلك، يجوب الفروع كلّها.
ومن شدّة الإرهاق، كان وجهه الجميل يبدو دائمًا باهتًا.
‘ومع ذلك، كان يبدو جميلًا حتّى وهو باهت.’
بدأت صداقتنا عندما عالجته بعدما وجدته ممدّدًا في فناء المبنى الخلفيّ لفرع البحريّة الثالث.
ومن ذلك وحده يمكن تخيّل كمّ الأعمال التي كان يُكلَّف بها.
أنا عندما أتعب أبدو كالغول، أمّا هو فكان يبدو كتمثالٍ غارق في التأمّل.
وعندما يبتسم أحيانًا، كنتُ أتساءل كيف وُجد مثل هذا الكائن في العالم، أكان نتاج تعاونٍ بين إلهة الأرض داييرا وإله البحر كورماري؟
والآن، هذا الطفل يشبهه تمامًا.
‘هذا مستحيل…’
شَعرٌ وعينان ذهبيّتان صافيتان بلا أيّ شائبة.
صحيح أنّ الشَعر الأشقر والعينين الذهبيّتين شائعتان نسبيًّا في بعض مناطق القارّة الغربيّة، لكن امتلاكهما معًا، وبهذا البريق، أمر نادر للغاية.
“هل أنتَ من البحريّة؟”
عند سؤالي، احمرّ وجه الطفل كالشفق، ثمّ أومأ برأسه.
‘الشخص الجميل الثاني الذي صادفته… كان في الحقيقة الشخص نفسه.’
لماذا لم أدرك ذلك من النظرة الأولى؟
من البديهيّ ألّا يوجد شخصان بهذا الجمال في العالم.
يبدو أنّني كنتُ مفتونة بهذا الجمال حقًّا.
وعندما كبر، لا بدّ أنّ الإرهاق المتراكم من الأعمال الشاقّة كان بمثابة ختمٍ يخفي جماله.
“هل يمكنني أن أسألك عن اسمك؟ أنا بولاريس.”
اسم صديقي قبل العودة بالزمن كان ريون.
سألتُ وأنا أفكّر، ولو بنسبةٍ ضئيلة، أنّه قد يكون هناك شخصان متشابهان كالتوأم… أو دُمى ظلّ.
“هـ-هيبيريون.”
“…!”
نطق الطفل اسمه بصوتٍ خافت جدًّا.
لكن ما إن سمعتُ الاسم حتّى هبط قلبي فجأة.
ريون كان لقبًا مختصرًا لهيبيريون.
لكنّ دهشتي لم تكن بسبب ذلك.
‘اسم هيبيريون… هذا هو اسم الأدميرال بعد أكثر من عشر سنوات، أليس كذلك؟’
لا، صحيح أنّ الاسم ليس فريدًا تمامًا، لكنّه ليس شائعًا إلى هذا الحدّ…
ربّما مجرّد صدفة—
لكن حين أضاف الطفل لقبه بحذر، تحطّم أملي تمامًا.
“هيبيريون… فاروس….”
اللعنة.
لا مجال للعودة الآن.
فاروس هي إحدى العائلات الستّ، والأقرب إلى البحريّة، عائلة الأدميرال.
إذًا…
صديقي في الماضي… وهذا الطفل أمامي الآن….
أوزيغ—.
“…….”
“أمم، أمم… المافن… في يدكِ….”
كان هو نفسه الأدميرال الذي شَهِد دمار كايلوم، و قام باعتقال نيريوس.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"