ورغم كلماتها، كانت فينديا تعلم جيّدًا أن ذلك لم يكن صادقًا.
فالطاولة الممدودة أمامها كانت أوضح دليل على ذلك.
فمنذ الصباح، كانت الطاولة تغصّ بالأطباق: يخنة، وشرائح لحم مشوي متقن مع زينة جانبية، فضلًا عن الأومليت وفطائر اللحم.
والسبب وراء إعداد ساشا لهذه الوليمة التي تكاد تحطّم الطاولة، كان الاحتفال بنجاح فينديا.
“شكرًا لكِ. إنها مجرد بداية، لكنها بداية موفّقة.”
لقد مضى شهر منذ أن أصبحت مستشارة لشارع “سيكند”.
كلٌّ من مشروع “جوز الهند” و”مقهى الحياة” حقّقا نجاحًا باهرًا، وحتى متجر التارت الذي افتتحته كيت تحت رعاية “سيكند” أصبح يكتسب شهرة واسعة ويجذب المزيد من الزبائن.
“لكن… هل حقًا عليكِ أن تبذلي كل هذا؟ أنتِ تعملين كمديرة تنفيذية، لا كمستشارة فقط.”
“النجاح أمر جيّد، أليس كذلك؟ ثم إنني أتقاضى مكافأة أيضًا.”
قالتها بنبرة ساخرة لتخفّف الأمر، لكن كلمات ساشا لم تكن بعيدة عن الحقيقة. أي مستشارة تبذل هذا القدر من الجهد؟
لكن بالنسبة لفينديا، كان هذا عملًا تحبّه. مجرّد قدرتها على إنجاز شيء بيديها كان كافيًا ليمنحها السعادة.
“إذا كان هذا ما يسعدكِ يا سيدتي…”
“آه، بالمناسبة يا ساشا… هل رأيتِ أقراطي مؤخرًا؟”
“أقراط؟”
“نعم، الفضية ذات شكل الزهرة المرصّعة بالياقوت الأزرق. بحثت عنها طويلًا ولم أعثر عليها.”
كان واحدًا من القلائل التي تفضّلها حقًا بين مجوهراتها.
ومع ذلك، ورغم بحثها منذ أيام، ظلّ أحد القرطين مفقودًا.
“لا، لا أظنني رأيتها. إن وجدتها أثناء التنظيف سأخبركِ فورًا.”
“شكرًا لكِ. كل شيء بخير هذه الأيام، أليس كذلك؟”
شعرت فينديا ببعض الذنب لأنها انشغلت مؤخرًا مع “سيكند” وأهملت القصر، فسألت باهتمام.
“بالتأكيد. لكن المستأجرة في الطابق الثالث… لم أرها منذ أن انتقلت. ولم يزورها أحدٌ أيضًا… هل أذهب لأتفقدها؟”
“همم…”
ترددت قليلًا، لكن حين تذكرت انطباعها الأول عن سيسيليا، جاءها الجواب سريعًا.
“لا، دعيها وشأنها. بدت لي كمن يحب العزلة والبقاء في بيته.”
“حسنًا. ستذهبين إلى العمل الآن، صحيح؟”
سألتها ساشا وهي تنهض عن المائدة.
عندها، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه فينديا.
فمشروعها الجديد، الذي خططت له بعد “مقهى الحياة”، كان على وشك الانتهاء وسيُطلق قريبًا.
بل إن حتى يوليز استثمرت في مشروعها وساعدت في تطويره.
“نعم. سأفتتح متجري الخاص قريبًا.”
صحيح.
إلى جانب عملها كمستشارة لـ”سيكند”، كانت فينديا على وشك أن تفتتح متجرًا مملوكًا لها بالكامل داخل “سيكند”.
“واو! أي نوع من المتاجر؟ هل سيكون مماثلًا لـمقهى الحياة؟”
“لا. مختلف تمامًا. ستعرفين قريبًا. هاهاها.”
ابتسمت فينديا بثقة وهي تتحدث. لكن فجأة، لمحت في ممر القصر كريس وهو يمر.
فهبطت زاوية فمها على الفور.
“أتعلمين يا ساشا… ذلك كريس…”
في اللحظة التي التقت فيها عينا فينديا بعيني كريس، سارعت إلى إغلاق فمها.
“ماذا؟”
“لا شيء! سأعود لاحقًا! فقط راقبي بيتر اليوم أيضًا، وتحققي من أنه لا يتكاسل. أعتمد عليك.”
“بالطبع، لا تقلقي.”
ابتسمت ساشا بثقة، وهي تلوّح بالمقلاة في يدها كما لو كانت سلاحًا.
وكأنها مذنبة ضُبطت متلبسة، غادرت فينديا القصر بسرعة.
وضعت يدها على صدرها، تنظر حولها، لكنها لم تجد أحدًا.
“هاه… هذا غريب.”
تمتمت وهي تسير في ساحة القصر، في طريقها لتتفقد “سيكند” من جديد.
لكن ما لم يفارق ذهنها كان ابتسامة كريس قبل أيام، ابتسامة غريبة، تثير القشعريرة.
لا، بل ما قاله كان أشد إثارةً للقشعريرة من ابتسامته: «لقد جرى كل شيء تمامًا كما أردتِ، يا سيدتي».
تذكّرت حين سألها سابقًا عمّا تريده أن يحدث لكيت، وتشارلز، ووالدته.
وبداهةً، أجابت أنها تريد لكيت أن تتطلّق، وأن ينهار عالم تشارلز وأمه.
وقد تحقق ما أرادته.
ففي حين أن طلاق دوقية كالفيرمر استغرق ثلاثة أسابيع، أنهت كيت طلاقها في غضون أسبوعين فقط.
أما تشارلز فكان يتخبط تحت وطأة التعويضات وأموال إعالة الأطفال، في حين تتعرض والدته لسلسلة من الدعاوى بتهمة الزنا.
تمامًا كما قال كريس، فقد تحقق كل ما أرادته بلا استثناء.
وهذا لم يكن أمرًا يمكن أن يحدث بالحظ وحده.
فهل يمكن أن يكون… كريس هو من دبّر كل هذا؟
“من يكون في الحقيقة؟”
تصاعد الشك في صدرها كالنار.
كانت تعلم مسبقًا أنه يخفي هويته. وقد أرادت أن تنتظر حتى يكشف عنها بنفسه.
لكن عند هذه المرحلة، لم تعد قادرة على منع نفسها من التفكير في الأمر.
فمن يتمكّن من إنجاز كل هذا، لا بد أن يكون شخصًا يتجاوز حتى نفوذ دوقية كالفيرمر.
أيمكن أن يكون شخصًا يفوق حدود تصوّري؟
إذن، من قد يكون؟ حاولت أن تحصر الاحتمالات، لكنها توقفت فجأة.
أمام بوابة القصر، رأت رجلًا عجوزَ يحدّق إلى الداخل، كأنه يحاول استراق النظر.
“من هذا؟”
وكلما اقتربت، بدا مظهره أكثر وضوحًا.
قماش بذلته المفصّلة على مقاسه كان فاخرًا للغاية، أما الزخارف المثبّتة على ثيابه فكلها مرصّعة بجواهر مصقولة بعناية.
أما العصا البنية الداكنة في يده فقد لمعت وكأنها مصنوعة من خشب ثمين متين ولامع، بينما كان مقبضها مرصّعًا بجواهر صغيرة بحجم الظفر—يُرجَّح أنها ألماس.
كان رجلًا أشيب الشعر، تركت السنين آثارها على وجهه، لكن قامته الممشوقة ووقفته المنتصبة أشعرت فينديا بالهيبة.
حتى النظرة الحادة في عينيه وهو يمسح المكان لم تكن عادية.
لقد بدا وكأنه قد يصدر أوامره الصارمة في أي لحظة، فهالته وحدها تكفي لفرض سلطته.
لا شك أنه من النبلاء. لكن ما الذي يفعله أمام قصرهم…؟
هل يُعقل…؟
“جدي، هل جئت لترى المنزل؟”
سألت فينديا بسعادة، وهي تبتسم بوجه مشرق. فأدار العجوز رأسه وثبّت عينيه عليها.
“منزل؟”
“نعم. جئت لترى القصر، أليس كذلك؟”
“نعم. جئت لأرى القصر.”
“كما توقعت! كنت أعلم ذلك. تفضل بالدخول، لا تدع المظهر الخارجي يخدعك—فالداخل مختلف تمامًا. إنه قمة الفخامة، وسيعجبك بلا شك.”
وبسعادة عارمة، سارعت إلى فتح البوابة الحديدية.
فقد ظهر أخيرًا شخص يبدي اهتمامًا بالطابق الأول الذي عرضوه للإيجار.
“ومن تكونين أنتِ، حتى تعرضي عليّ منزلًا لا تملكينه؟”
خطا العجوز عبر البوابة المفتوحة، وضيّق عينيه وهو يحدّق فيها بتفحّص.
“في الواقع، أنا…”
“قبل أي شيء آخر، دعني أتأكد من أمر ما. أليس هناك شخص يعيش هنا يمكنه أن يعيش فقط بفضل وجهه؟”
“هاه؟ يعيش فقط بفضل وجهه…؟ آه، تقصد كريس؟”
ارتبكت فينديا من السؤال الغريب والجديد عليها، لكن اسم كريس خطر ببالها فورًا.
هل يعرف كريس؟ أيمكن أن يكون جده؟
“ماذا قلت؟ هل هذا ما قاله لكِ ذاك الوغد؟”
فجأةً تغيّرت تعابير الرجل العجوز، واشتعلت عيناه بالاستياء لمجرد سماع الاسم، وكأن ذكره بحد ذاته أمر بغيض لديه.
كما توقعت.
حتى اسم “كريس” كان مزيفًا! لن يستطيع خداعي أبدًا!
وما إن همّت فينديا بالإجابة، ظنًا منها أنها ستكشف أخيرًا هوية كريس الحقيقية—
“هيه. ماذا تفعلين هناك؟”
ظهر رون من الجانب، لا من اتجاه القصر، ربما عاد بعد أن رمى القمامة.
وبينما يقترب بخطوات متراخية نحو فينديا، اتسعت عيناه بدهشة.
“…أيها العجوز؟”
“أيها الصعلوك!”
“آخ!”
فزعت فينديا وتراجعت خطوتين إلى الخلف بسرعة.
فرجل العجوز رفع عصاه فجأة وضرب رون بها مباشرة.
“آه! توقف، هذا مؤلم، أيها العجوز اللعين!”
ترددت الأصوات الحادة مع كل ضربة، فيما يتلقى رون ضربات العصا دون توقف.
لكن الغريب أن كليهما—الضارب والمضروب—بدا معتادًا تمامًا على هذا المشهد، وكأنه ليس المرة الأولى.
لكن… ما الذي يحدث هنا؟
إذن لم يكن هذا جد كريس، بل جد رون…؟
“ادخل إلى القصر حالًا، أيها الوغد!”
“كفى! قلتُ لك توقف!”
بعدما ضاق رون ذرعًا بالألم، صدّ إحدى الضربات وقبض بيدٍ واحدة على العصا.
“اتركها، أيها الصعلوك!”
بغضب، جذب العجوز عصاه بقوة من يد رون.
دووم.
اصطدمت العصا بالأرض بصوت مرتفع.
ورغم أنه لوّح بها مرارًا كما لو كان يتدرّب على الكيندو، إلا أنه لم يُبدِ أي تعب، بل بدا في كامل قوته.
أما وجهه، فكان لا يزال مُحَمَّرًا من الغضب وهو يرمق رون بنظرات حادة كالخناجر.
“أيها الأحمق! كيف تجرؤ على التخلي عن اسمك! ما الذي تفعله بنفسك؟!”
“أي اسم تتحدث عنه! لم أتخلَّ عن شيء! هل فقدت عقلك، أيها العجوز الخرف؟ تبًا، لقد آلمتني. كل ما تملكه هو قوتك الغاشمة.”
تأوّه رون وهو يفرك ذراعيه المتورّمتين من أثر الضرب.
“أ-أعذرني يا جدي… الأمر ليس كما تظن، لقد أسأتُ الفهم—”
“كريس أو ما إلى ذلك! كيف أصبح اسمك كريس بحق الجحيم؟!”
حاولت فينديا التوضيح بارتباك،
لكن الرجل العجوز لم يترك لها مجالًا.
“عمّ تتحدث؟ لماذا سأكون كريس؟ ذلك شخص آخر تمامًا، يعمل هنا كحارس.”
“ماذا؟ إذن لماذا قالت هذه الفتاة…؟”
وفي تلك اللحظة، التفت كل من الرجل العجوز ورون معًا نحو فينديا.
═══∘ ° ❈ ° ∘═══
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 32"