على جانب طريقٍ خالٍ من المارة، جلست فينديا ويوليز في زاويةٍ هادئة، تتبادلان أطراف الحديث بلطف.
المرأة التي كانت ترتدي قفازاتٍ جلدية كهربائية وتبتسم بخجل، لم تكن سوى يوليز هيدن.
كانت ابنة إلستين، وشقيقة بالديني الصغرى، والابنة الثانية في عائلة ماركيز هيدن.
كانت يوليز تعلم أن فينديا هي الزوجة السابقة لدوق كالفيرمر، كما كانت تدرك أنها تنتمي إلى عائلة روز النبيلة.
وفوق ذلك، حين أهدتها إلستين دبوس الوردة، أخبرتها أنها تلقّته من دوقة كالفيرمر، ما زاد انطباعها الإيجابي عن فينديا، وولّد شعورًا بالألفة تجاهها.
ولهذا، عندما سمعت بالفَظائع التي ارتكبها بالديني بحقّ فينديا، غضبت نيابةً عنها، ولم تتردد في أن تروي قصّتها هي الأخرى.
قالت يوليز، بعدما أنهت سرد القصة: “لهذا السبب تمامًا لقّنتُه درسًا.”
وحين أدركت من تكون فينديا، حاولت أن تخاطبها برسمية، لكنها تقبّلت بسرعة حديثها غير الرسمي، بعدما أخبرتها فينديا أنها تعيش كعامية ولا تمانع ذلك.
قالت مبتسمة: “هكذا يبدو الحديث أكثر ودًّا.”
وعلى الرغم من أن يوليز دعت فينديا إلى التحدّث معها بطريقة غير رسمية، فإن فينديا رفضت، مؤكدة أنها لا تزال تعيش تحت اسم “ديا”.
قالت لها: “أحسنتِ. ذلك الوغد استحق كل ضربة.”
ردّت يوليز بحماسة: “أليس كذلك؟ كنت أعلم أنك ستفهمينني، أوني!”
“آخ!”
فجأة، جذبتها يوليز إلى عناقٍ قوي، جعل فينديا تُطلق أنينًا لا إراديًا.
كانت قبضتها شديدة. فعلى الرغم من مظهرها الرقيق، كانت يوليز تملك قوةً لا يُستهان بها. لم يكن عبثًا أنها أسقطت رجلًا بالغًا بضربةٍ واحدة.
وبعد أن استمعت فينديا إلى القصة كاملة، أدركت تمامًا سبب ضرب يوليز لذلك الرجل.
في الوقت الراهن، كان أبناء الماركيز الثلاثة — بالديني، ويوليز، والأخ الأصغر — يخوضون صراعًا متكافئًا على وراثة العائلة.
وقد نصّت المنافسة على أن يتولّى كلٌّ منهم إدارة قسمٍ مختلف من سوق “ذا لاين” ، ويعمل على تطويره خلال خمسة أشهر.
لم يكن النجاح يُقاس بالإيرادات الإجمالية، بل بنسبة نموّ المبيعات.
ولضمان العدالة، وُزّعت الأقسام عبر سحبٍ عشوائي، وقد مضى بالفعل شهران منذ بداية المنافسة.
لكن كانت هناك مشكلة: فقد أُعطي بالديني القسم الأول، وهو من أكثر المناطق شعبية وازدحامًا.
وفوق ذلك، ازدهرت شهرة متجر الحلويات في منطقته على نحوٍ مفاجئ، لذا، ما لم يرتكب أخطاءً فادحة، فإن الفوز شبه مضمون له.
لا عجب إذًا أنه بدأ يتصرّف وكأنه الماركيز القادم.
أما الأخ الأصغر، فقد أُسند إليه القسم الثالث، لكنه لم يُبدِ أي اهتمامٍ باللقب، فتخلى عن مسؤولياته بالكامل. بينما أُعطيت يوليز القسم الثاني.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية: كان القسم الثاني يعجّ بالمشكلات، كما لاحظت فينديا فور رؤيته، وكان الأقل جذبًا للزبائن.
قالت يوليز: “لم يكتفِ بالحصول على القسم الأكثر ربحًا، بل حاول، ذلك الوغد، أن يسرق المتجر الوحيد الجدير بالاهتمام في قسمي، وبشكلٍ سري…”
ذلك “الوغد” لم يكن سوى بالديني.
كان هناك متجر جوز هند يتمتّع بشعبيةٍ نسبية في القسم الثاني، وقد حاول بالديني سرقته برشوة أحد الموظفين.
وحين اكتشفت يوليز الأمر، قامت بضرب الموظف المتورط.
قالت غاضبة: “أنا واثقة، إذا تسلّم ذلك الوغد اللعين قيادة العائلة، فلن تمرّ سنتان حتى يُفلسها تمامًا.”
وهكذا تطور وصفه من “ذلك الوغد” إلى “ذلك الوغد اللعين”.
صحيح أنهما شقيقان، لكن يوليز كانت تمقت بالديني بصدق.
فبصفته الابن الأكبر، افترض بالديني منذ صغره أن وراثة العائلة حقٌّ مضمون له. أنانيّ، مغرور، وخلف وراءه عددًا لا يُحصى من الكوارث، وقد عانت إلستين كثيرًا في محاولة إصلاحها.
لم تكن فينديا بحاجة إلى سماع التفاصيل لتدرك مشاعر يوليز — فقد عايشت بالديني بنفسها.
“لا أستطيع تحمُّل فكرة أن يرث ذلك الوغد اللعين عائلتنا. لكن، ماذا عساي أن أفعل؟… والدتي تؤمن بالكفاءة المطلقة. عليّ أن أثبت جدارتي من خلال هذه الفرصة، لكن، مهما فكّرت، لا أستطيع أن أجد وسيلة لإنعاش القسم الثاني. آه…”
تنهدت يوليز تنهيدةً عميقة، وضمّت ركبتيها أكثر حتى دفنت وجهها فيهما.
وحين امتدّ شعور العجز هذا ليشمل فينديا أيضًا، وضعت يدها على ظهرها، وبدأت تربّت عليها بلطف.
“أونيييي… هِينغ.”
التفتت يوليز إليها، ونظرت بعينين دامعتين، تغمر وجهها مشاعر التأثر.
كان منظرها في تلك اللحظة لطيفًا كأختٍ صغرى، ما دفع فينديا إلى أن تربّت على ظهرها بحنان أشد. لقد كانت تفهم هذا الشعور تمامًا… فهي أيضًا كانت تملك أخًا فظيعًا لا يُطاق.
“أريد أن أكون ماركيزةً قوية مثل أمي. أعلم… أعلم أنني أفتقر إلى المهارات، لكنني أحاول حقًا… بكلّ ما أستطيع.”
لم تبقَ أيّ علامة من المرأة الجريئة التي كانت تضرب الخونة بقفازاتها الكهربائية؛ بل جلست يوليز الآن بوجهٍ يعلوه الحزن واليأس.
“……”
وبينما كانت فينديا تنظر إليها، انبثق في ذهنها فجأةً مشهدٌ من ماضيها البعيد.
قبل أن تنتقل روحها إلى هذا الجسد… في ذلك العالم، حيث لم يكن لها أحد تعتمد عليه، وكانت مضطرّة لتحمّل مسؤولية حياتها وحدها، كامرأة راشدة في مجتمعٍ قاسٍ.
أيامٌ قضتها تُنهك وقتها وجسدها في محاولةٍ للوصول إلى ما يُسمّى بـ”الحياة العادية”.
لكن، المعايير التي كان الناس يضعونها لتلك “الحياة العادية” لم تكن عادية إطلاقًا.
الالتحاق بجامعةٍ في العاصمة، والحصول على وظيفةٍ جيدة مباشرة بعد التخرّج، والسفر إلى الخارج مرّة أو مرّتين في السنة، وامتلاك حقيبتين فاخرتين على الأقل.
تناول الطعام أحيانًا في مطاعم الأوماكاسي¹، وقضاء الإجازات في فنادق فاخرة، واقتناء شقةٍ في العاصمة ذات يوم—
تلك كانت شروط “الحياة العادية” كما يُروَّج لها.
[ الشرح¹: مطاعم الأوماكاسي (Omakase) هي مطاعم يابانية يختار فيها الشيف الأطباق للزبون وفقًا للمكونات الطازجة، مما يوفر تجربة طعام راقية ومفاجئة. ]
وقد حاولت أن تقترب، ولو قليلًا، من ذلك النمط، معتقدةً أن ذلك قد يملأ الفراغ داخلها ويجلب لها السعادة.
لكنها لم تكن تدري أن هذه “الحياة العادية” لم تكن سوى وهمٍ يستعرضه قلّةٌ من المحظوظين.
وحين أدركت أنها لن تصل إليه مهما عملت واجتهدت طوال حياتها، اجتاحها اليأس… وشعورٌ عميقٌ بالعجز، لا يوصف.
ولذا…
“مهلًا.”
وبينما كانت أفكارها تتشابك، طرأ في ذهنها أمرٌ غريب.
“ماذا حدث لجسدي؟”
لم تكن لفينديا أيّ ذكرى عن اللحظة التي انتقلت فيها إلى هذا الجسد.
استيقظت ذات يوم، فوجدت نفسها في جسد “فينديا”.
وفي خضمّ محاولتها النجاة في هذا العالم، كانت قد دفنت ماضيها تمامًا، ولم تفكّر فيه قط—
لكن الآن، عاد كل شيء إلى السطح.
لا، هل كانت لا تفكّر فيه؟ أم أنها لم تكن قادرة على التفكير فيه أصلًا؟
حاولت استرجاع آخر لحظةٍ في حياتها السابقة قبل أن تُصبح فينديا، لكن ذاكرتها اصطدمت بجدارٍ… لم يخطر في بالها شيء، وكان في الأمر شعورٌ مزعج…
“لو أُتيح لي الأمر… لوددتُ أن أعود إلى البداية.”
“هم؟”
وفي خضمّ ارتباكها، أخرجها صوت يوليز من شرودها.
وفجأة، كما لو كان عقلها يستجيب لتلك المقاطعة، انمحت كل الأفكار من رأسها.
“هاه؟ عمَّ كنتُ أفكّر قبل قليل؟”
شعرت وكأنها فقدت شيئًا مهمًّا… لكن، مهما حاولت، لم تستطع تذكّره.
ضغطت على ذهنها محاولةً التذكّر، لكن، لا شيء ظهر. فحكّت خدها بضيق، وركّزت مجددًا على كلمات يوليز.
“لو كان بإمكاني فقط البدء من جديد—واختيار القسم الأول والانطلاق من نقطة الصفر… كم سيكون ذلك رائعًا.”
البداية من جديد.
تلك العبارة، التي حملت دائمًا وزنًا خاصًّا في قلب فينديا، تكرّرت في ذهنها مرارًا، حتى أضاءت ومضةٌ في عقلها…
“يوليز، لديّ فكرة… هل تودّين سماعها؟”
خطر لها الآن مخطّطٌ ذكي—قد يكون بدايةً جديدة لكلتيهما،
وفي الوقت ذاته، خطوة كفيلة بتحطيم غرور بالديني المتغطرس.
* * *
“ماذا؟! حقًّا ستساعدين القسم الثاني؟”
قفزت ساشا من مكانها بدهشة عند سماعها الخبر، وكادت أن تُسقط التارت الثمين الذي كانت تحمله.
“نعم.”
“وكيف؟ هل تعرفين حقًّا طريقةً لذلك؟”
نظرت ساشا إلى فينديا بعينين متشكّكتين، وتابعت:
“آنسة ديا، أعلم أنكِ ترغبين في دخول مجال التجارة، لكن، إن أخطأتِ في هذه الخطوة، فقد تكون العواقب وخيمة. أعني، بالطبع أنا أثق بكِ، لكننا لا نتحدث عن متجرٍ صغيرٍ في الحي، بل عن منطقةٍ تجاريةٍ كبرى.”
“ساشا.”
“بالطبع، أنا أثق بكِ، آنسة ديا، بلا شك.”
لكن، من الواضح أنها لا تثق بي.
فمجرد طريقة تأكيدها لكلمة “أثق”، وهي تنظر إليّ بعينين مليئتين بالريبة، أظهر كم كانت ثقتها بي هشّة.
ولم أَلُمها على ذلك.
فهي كانت ترى أمامها سيدةً نبيلةً عاشت حياتها كلها في رفاهية — ابنةَ كونت، وزوجةً سابقةً لدوق. لم تكن هناك أيّ صلةٍ واضحةٍ تربطها بالتجارة.
لكن تلك كانت “فينديا” الحقيقية. أما أنا، فمختلفة.
وإن تمكّنت من إصلاح المشكلات التي رصدتها في القسم الثاني، فلن تكون فرصتي في النجاح معدومة.
ثم—
“هذه المنافسة تحتوي على ثغرة.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
الواتباد : han__a505
التعليقات لهذا الفصل "019"