استمتعوا
في اللحظة ذاتها، تذكّرت ليلي بشكل إعجازي صاحب الصوت الغريب، فانحنت على الفور احترامًا.
“أتشرف بلقائك، سيدي الدوق.”
[صباح الخير يا ليلي.]
كانت تحية صباحية ودودة تُقال عادة لصديق قديم مضت عليه عشر سنوات.
بينما في الواقع، لم يمضِ على تعارفهما سوى يومٍ واحد، لا أكثر.
‘لطيفٌ إلى حد يثير الشك…’
فكرت ليلي بريبة.
فكل أرجاء القارة كانت تعرف مدى برودة ودهاء دوق كاشيمير.
ومع ذلك، كان يبتسم في كل مرة تلتقي فيها عيناه بعينيها.
وقد كانت ليلي مصيبة في حدسها.
‘يبدو أنه قلق فعلًا من أنني قد أرفض المهمة.
إن استمر في هذه المعاملة اللطيفة، فلن يكون لدي ما أشتكي منه.’
ابتسمت فجأة وكأنها لم تندهش قط، وقالت بأدب:
“ما الذي كنت تتحدث عنه، لوردي؟”
[حين كنت حيًا، لم يكن المكان بهذه القذارة.]
كان نظر الشبح قد انزاح قليلًا بعيدًا عنها.
لكن ليلي لم تلتفت إلى ارتباكه، بل إلى أنه قد أجاب على حديثها.
‘لقد سمعني أتكلم عن مديري من وراء ظهره.
يا إلهي، علي أن أراقب لساني من الآن فصاعدًا…’
وكان هذا أمرًا بالغ الأهمية، فالأشباح لا يصدرون أي أثر،
ولا تدري متى أو أين قد يكونون يتنصتون.
نقشت ليلي هذه القاعدة في قلبها وهي تكدس الصحون فوق الصينية بخفة.
وعندما رأت الكوب المكسو بطبقة كثيفة من العفن الأزرق والأبيض، خرج صوت “أوه…” من فمها وفم الشبح في آنٍ واحد.
وحين انتهت من جمع أدوات الطعام، رفعت الصينية.
رأى الشبح ذلك، فسبقها خطوة نحو الباب.
مد الشبح يده نحو مقبض الباب،
لكنها مرت من خلاله دون أن تمسكه.
تجمد للحظة في مكانه،
وقد رأت ليلي بوضوح ظهره المتوقف في منتصف الحركة.
بدا الأمر وكأنه هفوة بريئة من شخص نسي حالته ككائن غير مادي.
لكن المبنى بدأ يهتز بشكل طفيف، ما جعل الوضع أكثر خطورة.
اتسعت عينا ليلي بدهشة.
‘هل هو غاضب لأنه لم يستطع فتح الباب؟ بهذه السرعة؟!’
سمعت من قبل شائعات عن كسره للنوافذ وإسقاطه للأشياء،
لكنها لم تتخيله بهذه الدرجة من قلة الصبر.
سارعت بالاقتراب، وعندها أدركت أن الوضع خطير فعلًا.
فقد اختفت تلك الابتسامة المعتاده، وهبطت زوايا فمه للأسفل.
بدا كأنه قد تجاوز مرحلة الإرتباك إلى حدّ الغضب.
اشتد الاهتزاز أكثر فأكثر. كان لا بد من تشتيت انتباهه.
“لوردي، هل ترغب في جولة داخل المطبخ؟”
نظر إليها بعينيه فقط، ولا تزال ملامحه تشبه الأرواح الشريرة،
لكن مجرد توقف الاهتزاز كان نجاحًا بحد ذاته.
فهمت ليلي الوضع، فخفضت صوتها وهي تهمس:
“أظن أنك لم تزر المطبخ من قبل، أليس كذلك؟
ثم إن البقاء هنا وحدك لا بد أنه ممل.”
أومأ برأسه ببطء.
[صحيح. الوحدة… هي…]
وأثناء حديثه، بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى عينيه.
وضعت ليلي يدها على مقبض الباب وابتسمت.
“تفضل باتباعي.”
سلكت الدرج المخصص للخدم، ولما نظرت خلفها،
وجدته يتبعها بخطى خفيفة، يتأمل المكان بفضول.
رغم أنه قضى زمنًا طويلًا كروح،
يبدو أنه لم يزر هذا الجزء من القصر من قبل.
ربما اعتبره لا يليق بمقامه.
ورغم أنه يتحدث مع الخدم دون تحفظ،
فقد ظل في جوهره نبيلاً بكل المعايير.
زاروا المطبخ الملحق بالقصر،
حيث سلموا أدوات الطعام، ثم عادوا من حيث أتوا.
عندها فقط، وبعد أن هدأ تمامًا، فتح الدوق فمه وقال:
[لقد تصرفت بطريقة مخزية قبل قليل.]
“مخزية؟ على الإطلاق، لم يحدث شيء يستدعي القلق.”
في الحقيقة، كانت ليلي ترى أنه تصرف غير لائق،
لكنها أنكرت ذلك حفاظًا على هيبته.
وظل الدوق يظهر بعض الحرج.
[أشعر بالخجل لأنني لم أتمكن حتى من مساعدتك بذلك القدر البسيط، رغم أنك تقومين بعملك على أكمل وجه.]
أثار كلامه حيرة ليلي.
ترى، ما نوع المساعدة التي يمكن أن يقدمها دوق في حالته كشبح؟ أليس حلمه هذا مبالغًا فيه بعض الشيء؟
فوجوده وحده كان كافيًا ليشكل عبئًا نفسيًا عليها.
وعليه أن يتقبل هذه الحقيقة بتواضع.
أفضل ما يمكنه فعله هو تذكر فضلها عندما يعود إلى جسده،
ورد الجميل مضاعفًا.
لكن ليلي، الخادمة الذكية،
كانت تعرف كيف تصوغ الحقيقة بأسلوبٍ يُرضي سيدها.
قالت بجدية:
“لوردي، هناك وسيلة تستطيع من خلالها مساعدتي.”
[وما هي؟]
“أن تبقى بخير وسلامة حتى يأتي يوم تعافيك. وحين تنهض مجددًا بجسدك، فإن تذكرك لوعودنا سيكون أعظم ما يُسعدني.”
وقد بدا أن هذا الجواب الصادق قد نال استحسان الدوق،
فابتسم برقة.
[شكراً لكلماتك، لقد أراحني ذلك.]
ولأنه كان يؤمن بأهمية العقود والعهود، فقد كان من السهل تهدئته.
وعندما شارفوا على بلوغ قمة الدرج، سألها فجأة:
[عندما أتيتِ إلى القصر، من أين دخلتِ؟
لا يبدو أنك دخلتِ من الباب الرئيسي.]
نظرت إليه باستغراب، فتابع موضحًا:
[في الصباح، لم يدخل أحد من الباب الرئيسي،
وفجأة ظهرتِ أمامي، فاستغربت.]
“أستخدم الباب الجانبي الغربي عادةً.”
[وهل تستخدمينه دائمًا؟]
“نعم، لوردي.”
لم يسأل شيئًا بعد ذلك، وانتهى الحديث عند هذا الحد.
عادت ليلي إلى المكتب، وشرعت في تنظيفه.
مجرد ترتيب الأشياء ومسح الغبار جعله يبدو أكثر إشراقًا.
وعندما دخل وولفرام، لاحظ التغيير بوضوح، ونظر حوله بدهشة.
“هل قمتِ بالتنظيف؟”
“نعم، سيدي المساعد. بصفتي الخادمة المسؤولة عن المكتب، سأبذل قصارى جهدي للحفاظ على بيئة مريحة.
إن كانت هناك أي مهام، فأرجو إخباري في أي وقت.”
ثم أشارت بكل احترام إلى المكان الذي يقف فيه الدوق.
“لوردي الدوق موجود هنا.”
“أتشرف بلقائك، سيدي الدوق.”
ورغم أن وولفرام لا يرى ما تراه ليلي،
إلا أنه لم يتردد في إلقاء التحية على الهواء.
[ارفع رأسك.]
“سيدي الدوق يأمرك برفع رأسك.”
نفذ وولفرام الأمر، ثم توجه إلى مكتبه ليشارك تقدم الأعمال:
“لقد حددنا موعدًا لزيارة الكاردينال ألبرتو. بما أن سبب مرضك قد لا يكون طبيعيًا، فمن الأفضل أخذ مشورة من معبد الحكام. وسنجري فحصًا دقيقًا مع الطبيب المختص أيضًا، تحسبًا لأي طارئ.”
أومأ الدوق برأسه.
“لوردي الدوق يوافق.”
وكان هذا كل ما قيل بشأن حالته.
لم يكن من المعقول توقع تقدم ملحوظ في ليلة واحدة.
أخرج وولفرام بعد ذلك رزمة من الأوراق.
“لقد جمعت كل ما تم التعامل معه أثناء غيابك. بعد الاطلاع، سأعرض عليك القضايا التي تحتاج إلى قراراتك المباشرة.”
ويبدو أن بضع ساعات من العمل في اليوم السابق لم تكن كافية لتغطية كافة واجبات الدوق.
استعد وولفرام لقراءة المستندات بصوت عالٍ،
لكن ليلي كانت تملك وسيلة أكثر فاعلية.
طلبت الإذن، ثم أخذت الأوراق من وولفرام وبدأت بعرضها واحدة تلو الأخرى على مكتب الدوق، تنتظر أن ينهي القراءة لتبدلها بالأخرى.
بهذه الطريقة البسيطة، أصبح العمل أكثر كفاءة للجميع.
وما زاد من راحة بيئة العمل أن الدوق اللطيف سمح لها بالجلوس على كرسي جانبي.
ساد الصمت إلا من صوت تقليب الأوراق،
ثم حان وقت إبلاغ الدوق بالرد على محتوى الوثائق.
وهنا بادرت ليلي بعرض رأيها:
“لوردي، أنا أعرف كيف أكتب.
إن شئت،يمكنني تدوين ملاحظاتك وإيصالها إلى المساعد.”
رفع وولفرام رأسه عند سماع ذلك.
لم تكن نظرته لطيفة، لكنه لم يعترض.
فرغم أنه لم يكن مرتاحًا لوجود خادمة تشارك في العمل،
إلا أنه أدرك مدى نفع اقتراحها.
[أتعرفين الكتابة؟]
“نعم، قد لا أجيد الكلمات المعقدة،
لكنني أستطيع أن أكتب ما يُفهم.”
[أنتِ حقًا… مفيدة من نواحٍ عديدة.]
ابتسم ابتسامة خفيفة، بدت على وجهه علامات الحيرة،
وكأنه لم يتوقع منها أن تقوم بمثل هذا الدور.
قالت ليلي وفي صوتها بعض السعادة:
“يسعدني أن أكون ذات نفع لك، لوردي.”
نظر إليها كأنها مخلوق غريب، ثم قال:
[في هذه الحالة، سأترك الأمر لك.]
تناولت ليلي القلم.
كان الأمر غريبًا بعض الشيء بعد طول انقطاع، لكنها كانت مسرورة لأنها حصلت على فرصة أخرى لإثبات نفسها.
غير أن الدوق لم ينطق بكلمة واحدة رغم طول الانتظار.
“لوردي؟”
نادته بتعجب، فرف عينيه وابتسم بلطف.
[تذكرت أمرًا أحتاجه.]
‘أمر يحتاجه شبح؟ هل يقصد قربانًا بشريًا؟ روحًا حيّة؟ أم تراب مقبرة مظلمة؟’
[هل تكتبي هذا أولاً وتسلّميه لووِلفرام؟]
“نـ، نعم، بالطبع.”
ارتعشت يد ليلي من القلق،
لكنها بدأت تشعر بالحيرة مع استمرار حديث الدوق.
وحين وقفت أمام وولفرام أخيرًا، وجدت نفسها تبذل جهدًا كبيرًا لتُثبت له أن ما كُتب هو بالفعل طلب من الدوق لإمدادات مكتبية.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل "6- القصر المسكون و الخادمة "