استمتعوا
لم يستطع وولفرام بيرنت تحمّل الضوضاء فخرج في النهاية من مكتبه. كان الإرهاق بادياً عليه، والهالات السوداء تحت عينيه ظاهرة من خلف نظاراته.
نظر إلى الجندي وليلي بالتناوب بنظرات ممتعضة.
“ما الذي يحدث بحق الجحيم؟”
نهض الجندي على عجل وبدأ يشرح:
“أعتذر! إحدى الخادمات أثارت شغباً،
وأثناء محاولتي تهدئتها تحطمت إحدى النوافذ.”
لكنه لم يذكر أنه أُطيح به بفعل قوة غير مرئية،
فالأمر كان صعب التفسير.
“ظننت أن اليوم سيمر بهدوء، لكن مرة أخرى…”
رفع وولفرام نظاراته بعصبية ونظر إلى قطع الزجاج وإطار النافذة الفارغ. بدا وجهه الذي لم يكن جيداً أصلاً، وكأنه تعفن.
ثم حوّل نظره نحو ليلي.
“سمعت أنك تريدين التحدث إليّ؟”
كان وجهه ينذر بأنه سيسلم ليلي بنفسه إلى كبيرة الخدم إن لم يكن الأمر مهماً فعلاً.
قالت بأدب قدر الإمكان:
“نعم، صحيح.”
“ما الأمر؟”
“أم، لا أظن أن من المناسب أن أتكلم هنا…”
تمتم فولفرام وهو يدلك ما بين حاجبيه بانزعاج:
“ما إن تتدهور الأوضاع، حتى تبدأ الكلاب والحمير بإثارة الفوضى.”
لكن ما أثار فيها القلق لم يكن تشبيهها بالحيوانات،
بل كان غريزة البقاء التي تستيقظ في مرؤوس يشعر بالخطر.
فالأمر لن يتوقف عند مجرد إعادة التأهيل إذا استمر الوضع على ما هو عليه
بل سيتم طردها، وسيكون ذلك من أسوأ أنواع الطرد، حيث يُدرج اسمها في قائمة الأشخاص غير المرغوب فيهم في المجال،
مما يجعل حصولها على وظيفة في المنطقة أمراً شبه مستحيل.
نظرت ليلي بسرعة إلى الشبح.
‘قلت إنك ستتحمل العواقب!’
لحسن الحظ، أعطاها الشبح الرمز في الوقت المناسب:
[قولي إن تفاح ويندل كان سيئ المذاق للغاية.]
“تـ، تفاح ويندل كان سيئ المذاق للغاية!”
قطّب وولفرام حاجبيه للحظة بسبب الصراخ المفاجئ،
ثم اتسعت عيناه.
“ماذا قلتِ؟”
الكلمات الغريبة أثّرت فيه! ليلي تساءلت ما الذي يجعل طعم تفاح ويندل سيئاً لدرجة استخدامه كرمز سرّي، لكنها تابعت كما طُلب منها.
“تفاح ويندل كان سيئ المذاق للغاية.”
“كيف علمتِ بذلك…؟ لا. لا تجيبي. اتبعيني.”
تقدّم نحو مكتبه، وتبعته ليلي متجاوزة الجندي المذهول.
وبمجرد أن أُغلق الباب، عاجلها وولفرام بالسؤال:
“كيف عرفتِ تلك العبارة؟”
“قبل أن أجيب، أنا ليلي دينتا، وأقسم أمام الحاكم لوميون أن كل ما سأقوله هو الحقيقة المطلقة، ولا أهداف لي ولا أنتمي لأي دين منحرف.”
شبكت يديها بوضعية صلاة.
“لست مجنونة ولا أتبع دينٍ ضال،
وكل ما أقوله هو الحقيقة، بلا ذرة كذب.”
“اختصري.”
مدّت ليلي كفها مشيرة إلى الشبح الواقف بجانبها.
“روح دوق آيدن كاشيمير الحاضرة هنا أخبرتني بكل شيء.”
على الفور، ظهر تجعّد واضح في جبين وولفرام.
بدا وكأنه يراها مجنونة.
أصابعها التي كانت مفرودة التفت بخفة.
كررت ليلي، بصوت خافت:
“أقسم مجدداً، لست مجنونة، وأقول الحقيقة فقط.”
“هل تتوقعين مني أن أصدق ذلك؟ روح الدوق؟ أي هراء هذا؟ تحاولين استخدام بعض المعلومات التي عرفتِها بالصدفة لتستغلي الوضع؟ تعتقدين أنه لمجرد غياب الدوق، يمكنكِ السخرية من عائلة كاشيمير؟”
ظهرت في عيني وولفرام نظرة ازدراء.
“إذا لم تخبريني بالحقيقة الآن، فلدي طرق أخرى.”
اتجه نحو الباب.
وقفت ليلي بسرعة في طريقه.
لم تبدُ الطريقة التي ينوي استخدامها سلمية إطلاقاً.
نظرت بسرعة إلى الدوق، الذي لم يتأخر بإعطائها الرمز الثاني:
[اسأليه عن جسر برتولو، كيف تسير الأعمال هناك؟]
“الدوق يسأل عن أحوال جسر برتولو.”
[لا يمكن انهم قد أوقفوا أعمال الترميم بسببي!]
“ويتساءل إن كانوا قد أوقفوا الترميم بسببه.”
توقف وولفرام للحظة.
فلم تفوّت ليلي الفرصة وأكملت الهجوم:
“أستطيع تقديم دليل آخر.
ضربة قاضية هذه المرة. صحيح، لوردي؟”
نظرت إلى الدوق نظرة توسل:
“أعتمد عليك!” فابتسم الشبح ابتسامة غامضة.
[نعم، لكن وولفرام قد لا يحتمل العار.
كنت أتمنى لو يتقبل الحقيقة الآن.]
“حسناً. يقول الدوق إنه يتمنى من حضرتك أن تتقبل الحقيقة الآن. وإن لم تفعل، فسيضطر إلى إحراجك.”
“هل تؤدين مسرحية بمفردك؟”
تجاهلت ليلي سخريته.
“إن لم ترد أن أكتشف أموراً محرجة عنك،
فربما من الأفضل أن تصدقني الآن.”
“هاه. أشعر بالفضول لما سأسمعه.”
تبادلت ليلي نظرات مع الشبح.
[إلى العزيزة آنا كايب.]
“إلى العزيزة آنا كايب.”
[آنا، اليوم وأثناء أكلي لخوخ وردي…]
بمجرد سماعها اسم فتاة مع عبارة “خوخ وردي”،
أيقنت أن هذا كان نص رسالة غرامية.
نظرت ليلي بارتباك بين الشبح ووولفرام.
“لوردي، أليس هذا خاصاً جداً؟”
لكن الشبح كان مصمماً:
[آنا، اليوم وأثناء أكلي لخوخ وردي…]
“آنا، اليوم وأثناء أكلي لخوخ وردي…”
اتسعت عينا وولفرام.
[تذكرت وجنتيك المتوردتين.]
“تذكرت وجنتيك المتـ…!”
“توقفي!”
صرخ وولفرام، وجهه شاحب تماماً.
“هل بدأت تقبل الحقيقة الآن؟”
[يا للأسف. كنت سأتلو الرسالة حتى نهايتها.]
“للعلم، الدوق قال إنه يمكنه تلاوة الرسالة حتى آخر سطر.”
“لماذا لا يزال يتذكرها؟!”
صرخ وولفرام محتجاً، وقد بدا مشوشاً وهو ينظر حوله.
“هل هو هنا فعلاً؟ روح الدوق؟”
بدت كلماته كأنها حديث مع النفس،
مما دلّ على أنه بدأ يصدق.
مدّت ليلي يدها مجدداً مشيرة بدقة.
“نعم، هو هنا، في شكل روح.”
حدّق وولفرام في الاتجاه الذي أشارت إليه بشدة،
واقترب كثيراً حتى اضطر الدوق إلى التراجع.
“لا أرى شيئاً.”
“هل تحتاج إلى مزيد من الأدلة؟”
سألت ليلي بلطف، لكن وولفرام أجاب بنفاد صبر:
“لا، يكفي.”
زفر زفرة طويلة كأنها دخان سيجارة.
“إذاً، من أنتِ بالضبط؟”
“اسمي ليلي دينتا، وأعمل هنا كخادمة منذ…”
“لم أطلب سيرتك الذاتية. هل أنتِ من أتباع ديانة سولمون؟”
“لا!”
قفزت ليلي من مكانها.
“أقسمت منذ البداية أنني لست كذلك!
أقسم أنني لا أنتمي لأي ديانة ضالة!”
كان هناك سبب خلف نفيها القوي.
ديانة سولمون هي ديانة غريبة جاءت من وراء البحر،
وانتشرت سراً بين الناس منذ العام الماضي.
يدّعون أنهم يتواصلون مع أرواح الموتى ويكشفون أسرار العالم،
بل ويزعمون أن المرء يمكنه تجاوز حدود الحياة الفانية إلى الخلود الروحي.
وقع بعض الإمبراطوريين في فخ تلك الشعارات الزائفة،
مما أدى إلى تجمعات خطيرة، وتخريب لمعابد الحاكم،
وغيرها من الأفعال المشينة.
وفي النهاية، صنّفت الإمبراطورية هذه الجماعة كأعداء للحاكم،
وقامت بحملات تطهير.
وصودرت ممتلكات المرتدين، ووُسمت جباههم بعلامة العبيد.
لذا، لم يكن مسموحاً بأي شكل من الأشكال أن يُساء فهمها على أنها من تلك الجماعة.
حاولت ليلي إثبات براءتها بكل إخلاص:
“جئت بدافع الولاء للدوق كاشيمير، الرجل الذي أحترمه وأثق به.
والآن تريد أن تتهمني بالخيانة؟
هذا ظلم كبير! هل هذه مكافأة الإخلاص؟”
مسحت دموعها بكمّها.
“إن انتشرت الشائعة بأنني من تلك الديانة الفاسدة، وإن وصلت إلى آذان الكهنة، فحينها… نعم، سأقبل مصيري، لكن… أنت أيضاً صدّقت بوجود الدوق، أليس كذلك؟ في وقت كهذا، يجب أن نتحد، لا أن تتهمني بالشر، ما الذي ستجنيه من ذلك؟”
أغمض وولفرام عينيه بإحكام.
“كفى. فهمت. فهمت تماماً.”
[إنها تتحدث بلا توقف فعلاً.]
عبّر الشبح عن إعجابه بينما كان وولفرام يفرك وجهه بعنف.
وعندما رفع رأسه، بدا أنه قد استعاد بعض هدوئه.
“ما الذي حدث لك بالضبط؟ لقد استدعينا أفضل أطباء الإمبراطورية، ولم يتمكن أحد من تشخيص مرضك.”
[لا أعلم الكثير أيضاً. في أحد الأيام انفصلت عن جسدي، وأصبحت عالقاً في هذا القصر. لا أعلم لماذا.]
“الدوق يقول إنه لا يعلم أيضاً.
فجأة انفصل عن جسده، ولم يعد قادراً على مغادرة القصر.”
“روحه انفصلت عن جسده…”
تمتم وولفرام.
هناك جهة واحدة فقط يمكن الشك بها.
وكان الشبح أول من أشار إليها.
[علينا التحقيق مع ديانة سولمون.]
“الدوق يطلب فتح تحقيق في ديانة سولمون.”
“إن نظرنا إلى حالته، فهذا طلب منطقي. لكن، أليس الكاهن الأعظم هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة طقوس بهذا المستوى؟”
رمشت ليلي بدهشة:
“أم… ألم يتم إعدامه فور انتهاء احتفال قصر العاصمة؟”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل "4- القصر المسكون و الخادمة "