حينما كان يوليوس شايفرتز وآيدن كاشيمير لا يزالان يملكان جسديهما، كانت الإمبراطورية بكل ركنٍ فيها شاهدة على عظمتها المهيبة، لكن حتى بين جنباتها الشاهقة، ظل قصر الياقوت الأزرق، حيث يُستقبل الإمبراطور، مكانًا يبعث في النفوس رهبةً تكفي لإسقاط العامة أرضًا لمجرد ولوجهم إليه.
وسط الزحام المتزاحم لرؤية الإمبراطور ولو للحظة، شق حاجبٌ طريقه وأعلن الخبر بصوتٍ عالٍ كأنه بشرى تُزفّ في يوم عيد.
“يا صاحب الجلالة، لقد أرسل دوق كاشيمير يُبشّر بأنه قضى على طائفة سولمون وألقى القبض على زعيمها!”
تمتم يوليوس، بابتسامةٍ مصطنعة.
“لقد فعلها آيدن من جديد… أعدّوا مأدبة. علينا أن نحتفل بنصر صديقي.”
خدع تمثيله المتقن جميع الحاضرين.
لكن في داخله، كانت نار الحسد والعار تتأجج وتفيض.
‘إذاً، السحر الذي زُعم أنه يفوق الوصف… لم يكن شيئًا ذا بال بعد كل شيء.’
حدّق يوليوس في خدّام البلاط الذين بدأوا الآن يتهامسون بحماس.
كانوا يتتبعون القائمة الطويلة لإنجازات آيدن كاشيمير منذ بداياته، ويشيدون به بحماسة، مديحين عظمته كرجل فذ.
نموذج يُحتذى به في الإمبراطورية من جميع الجوانب: العائلة، الشرف، الثروة، والمظهر، وقد نال الآن سمعةً بكونه المبعوث السماوي الذي قضى على الهراطقة الأشرار.
ضاق صدر يوليوس، فنهض من مجلسه، وإذا بصوتٍ مألوف يتردد في داخله.
— كن شاكرًا لأنه لا يزال يعتبرك صديقًا.
‘بالطبع، يا صاحب الجلالة…’
تمتم يوليوس لنفسه وهو يغادر قاعة العرش.
‘لولا وجوده، لكانت الإمبراطورية قد انهارت منذ زمن.
كم أنا محظوظ لأني أُمسك المكنسة خلف أحمق مثله.’
رغم مرور سنوات طويلة على وفاة والده، لم ينسَ يوليوس كلماته.
— أما زلت لا تستطيع أن تكون حتى نصف ما هو عليه دوق كاشيمير؟ يا للخزي، لقد قضيت عمرك بجانبه ولم تتعلّم شيئًا.
كان الإمبراطور الراحل ودوق كاشيمير السابق صديقين حقيقيين،
وحين توفي الدوق شابًا، وتبعته زوجته، أحضر الإمبراطور طفلهما الصغير إلى العاصمة وربّاه كابنٍ له.
بفضل ذلك، نشأ يوليوس وآيدن معًا منذ نعومة أظفارهما.
وكما أحبّ والده آيدن، اعتبره يوليوس كذلك أخًا له.
لكن هذا الشعور بدأ يتبدّل عندما بلغ العاشرة تقريبًا —
حين بدأ الإمبراطور يُجري المقارنات.
والحق أن يوليوس شايفرتز لم يكن غبيًّا، لكن مأساته أنه لم يكن يتفوّق على آيدن كاشيمير في شيء.
كان يرى التفضيل الصارخ، والتوبيخات، والعيون التي لا تنظر إليه إلا بازدراء.
وكلما تألّق آيدن، استعدّ يوليوس لليلٍ أسود، لأن الإمبراطور السكير لا بد أن يزوره.
— تنام مرتاحًا؟ لا تساوي شيئًا أمام آيدن، ومع ذلك تنام بطمأنينة؟
مسح يوليوس خدّه بكفه.
رغم أنه لا يمكن أن يشعر بذلك، فقد بدا خدّه مخدرًا.
وبات يرى أن حكم الإمبراطور كان منصفًا.
الهراطقة الذين فشل في القضاء عليهم رغم محاولاته، هزمهم آيدن بسهولة.
لقد فعل كل ما بوسعه لكبح طائفة سولمون، ومع ذلك لم يفلح في إيقاف انتشارهم أو القبض على زعيمهم.
وازداد الوضع تعقيدًا حين بدأت الشائعات عن ‘يوم الراحة‘ تتفشّى، فلم يجد بدًّا من اللجوء إلى آيدن، الذي، وكما هو متوقع، أنجز المهمة ببراعة.
لماذا لا يستطيع يوليوس شايفرتز أن يؤدي واجبات الإمبراطور وحده؟ لو كانت المهمة مستحيلة على الجميع، لما كان ذلك معيبًا…
لكنه لم يكن العجز، بل الشعور بالنقص، هو ما كان ينهشه.
وبعد أيام، جيء بزعيم الطائفة إلى سجن العاصمة السفلي.
وبعد تردد داخلي، قرّر يوليوس النزول بنفسه لرؤيته.
كان السجن تحت الأرض كريه الرائحة، رطبًا ومعتمًا،
الروائح المنبعثة من الشعلة تختلط بالعفونة والرطوبة.
أما سبب مجيئه إلى هذا المكان المقيت فبسيط — أراد أن يرى وجه هذا الرجل العجيب.
ولديه أيضًا… سؤالٌ يريد له جوابًا.
كان الزعيم مقيد المعصمين والكاحلين، مثبّتًا إلى الحائط، يركع على الأرض الحجرية القاسية، لا يكاد يتحرك.
“شرفٌ عظيم… يا صاحب المقام… ها أنا ألقاك أخيرًا… كما كان مكتوبًا.”
نطق كلماته ببطءٍ ثقيل، ولم يكن قد أتقن بعد تركيب جمل سولمون الغريبة، فبدت عباراته متعثرةً بعض الشيء.
“تتحكّم بالأرواح كما تشاء، لكنك عاجزٌ عن حماية عنقك.
أليست تلك قوة عبثية؟“
“إنها كافية… لي، ولك… يا صاحب المقام.”
كان هادئًا بشكل مريب بالنسبة لرجلٍ على حافة الموت.
حدّق في عيني يوليوس بثباتٍ مقلق.
ولم يتحمّل يوليوس ذلك النظر، فأدار وجهه، مردّدًا كلماته في ذهنه.
وشيءٌ ما تسلل إلى قلبه… همسة إغواء.
أمر الجنود والحراس بالمغادرة، ثم قال.
“لديّ سؤال.”
“سأجيب.”
“يوم الراحة… هل هو حقيقي؟“
ذلك اليوم الذي قيل إن بوابة ‘أرض الراحة‘ في السماء تُفتح فيه.
تدّعي طائفة سولمون أنه حين تصطف خمسة نجومٍ نادرة في خط واحد، يمكن عبر طقسٍ خاص الصعود إلى مكانٍ نوراني، يخلو من الألم والمعاناة.
وقد انتشر هذا الحلم كالنار، خصوصًا بين العامة، حتى أن التوقعات أشارت إلى انتحار جماعي قد يتجاوز المئة.
وكان هذا سبب استدعاء آيدن على وجه السرعة.
فلو تأخرت الإجراءات أكثر، لحلّ يوم الراحة.
ولم يتبقَ على ذلك سوى أيام معدودة.
ومع أنه لم يفهم كيف آمن الناس بهذه الخرافة، إلا أن شيئًا في داخله تمتم: ماذا لو كان الأمر حقيقيًّا؟
— إنك تسمح لعقلك أن يضيع في هذا الهراء، ولهذا أنت أدنى من آيدن.
لماذا لم تقتل ذلك اللقيط بعد؟ أطعمك بيدي، ومع ذلك لا تستطيع الابتلاع، يا عديم الجدوى!
رنّ الصوت في أذنيه.
لم يكن الإمبراطور قد قال ذلك قط.
لكن يوليوس عضّ شفتيه، غير متأكد إن كان ما يسمعه صوت ضميره… أم احتقار الذات.
“نعم… نحن نتحمّل الآلام… فقط من أجل ذلك اليوم…”
فتح فمه ليطرح سؤالًا آخر، ثم أغلقه.
كأن رائحةً كريهة تصعد من حنجرته.
لو نطق، لشمّ الجميع غيرةً نتنة لا تُطاق.
لمح الزعيم ذلك، فابتسم بعينيه.
“إن كنت تملك شيئًا فيه شعرة، أو ظفرًا، أو لعابًا… أستطيع أن أقود الروح.”
قال ذلك وكأنه قرأ ما يدور في عقل يوليوس.
ولم يكلّف الأخير نفسه عناء الإنكار.
فالأحداث بدأت تسير وحدها، وكل ما عليه فعله… هو أن ينساق.
“هل ترغب بشيء في المقابل؟“
هزّ الزعيم رأسه.
تأرجح جسده الواهن، وأصدرت القيود صوتًا موحشًا.
“ما أرغب به… سيحدث من تلقاء نفسه.”
كان متمسكًا بدوره حتى الرمق الأخير، لم يطلب الرحمة، ولم يتوسّل لحياته.
وهذا الفخر الزائد لم يكن سوى وجهٍ آخر للغباء.
‘سواء نجح الطقس أو فشل، سأقتله قبل أن يلتقط أنفاسه.’
فكر يوليوس ببرود.
لا مبرر لترك من يعرف نقطة ضعفه حيًّا.
ولو فكّر قليلًا، لأدرك أن هذه فرصته المثالية.
حتى آيدن، الذي هزم القتلة ونجا من السمّ، لن يستطيع حماية روحه.
لقد أنقذه آيدن مرارًا، كان التابع الوفي، المصلح الدائم، والحليف الذي يُعوَّل عليه.
وفي ذات الوقت، كان أصل خزيه واحتقاره لذاته، التابع الذي يُمدح أكثر من الإمبراطور ذاته… والابن الحقيقي لأبيه.
لم يتبقَ ليوليوس، الذي مزقته الهزائم، إلا كراهية متجذرة.
‘أن أساعده ليصل إلى ‘أرض الراحة‘… لعلها ليست خيانة كبيرة من صديق.’
بابتسامةٍ مرة، غادر يوليوس السجن السفلي.
أما الترتيبات، فكانت بسيطة.
أمر بنفسه أن يُزفّ الضيف المحتفى به في أبهى حُلّة.
ولم يلاحظ آيدن شيئًا مريبًا.
حين كان الإمبراطور حيًّا، اعتاد آيدن أن يمكث في العاصمة، بل أمضى في القصر الإمبراطوري وقتًا أطول من منزل كاشيمير، وكان يتصرف كما لو كان أحد أفراد العائلة المالكة…
ولذلك، تمامًا كما حصل على شعره وأظافره بسهولة، كان جمع أثر من لعابه أمرًا هيّنًا — فقد طلب من أحد خدّامه أن يجلب له أدوات المائدة التي استخدمها آيدن.
ووضعها يوليوس في صندوق صغير، يخفيها بعناية.
كان ذلك تصرّفًا مريبًا بوضوح، لكن الخادم تصرّف وكأنه نسي أن يسأل، وكافأه يوليوس ببعض الهبات البسيطة.
أُقيم الاحتفال بأبهى صورة.
وانهالت على آيدن كلمات التكريم.
وبعد المأدبة، ربت يوليوس على كتف صديقه المغادر، ولا يفكر إلا بطعن روحه بخنجر.
وهكذا، بعد أيام قليلة — حين ابتعد آيدن بما يكفي عن العاصمة لئلا يُشتبه بيوليوس… وفي الليلة التي اصطفّت فيها النجوم الخمسة للمرة الأولى منذ تسعٍ وتسعين سنة…
هبط إلى السجن العفن، حاملًا الصندوق الصغير، برفقة السجين وحده، متذرّعًا بمنح فرصةٍ أخيرة للتوبة.
وهو بنفسه… فكّ قيود زعيم الطائفة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 29"
طلع جلب يستاهل يفطس