استمتعوا
كان خاتم الإمبراطور أحمرَ داكنًا، يبعث في النفس شعورًا مشؤومًا، بينما خاتم آيدن كان يشعّ بهالة صافية وهادئة، كأنها الضوء الخافت المنبعث من روحه.
[ليلي. هل هذا صحيح؟]
“نـ، نعم، هذا صحيح.”
استفاقت ليلي من شرودها على صوت نداء آيدن، فسارعت إلى جمع السبحة ووضعها في جيب بعيد عن الخاتم. ثم أعادت صندوق السبحة ومنضدة الليل إلى موضعهما كما كانا، والتقطت أحد الكتب التي اعتاد النبلاء الاحتفاظ بها في غرفهم.
ولكي لا تثير الريبة، تحرّكت بخفة وسرعة، حتى ليُخيّل لمن يراها أنها قد تثير زوبعة من سرعتها.
أسرعت تهبط الدرج بأقصى ما أوتيت من قوة، غير آبهة بأنها سقطت عليه سابقًا. وما إن تجاوزت درج الطابق الثاني حتى صادفت فارسًا من فرسان الإمبراطورية.
“تبدين في عجلة من أمرك. هل وجدتِ الشيء؟“
مرّ الفارس بنظره الحاد على جسد ليلي من رأسها حتى أخمص قدميها. لا بد أن بحثها طال أكثر مما ينبغي. كانت قبضتها مشدودة على الكتاب بقوة حتى برزت مفاصلها، وكان خفقان قلبها عاليًا لدرجة أنها شعرت به في أذنيها.
‘ماذا لو قرر أن يفتشني؟ ماذا سأفعل…؟‘
كان عليها أن تتصرف ببرود وجرأة، لكن هول الموقف كان أكبر من قدرتها. احمرّ وجهها كالجمر، وارتعشت المنطقة أسفل عينيها.
ولم يكن مستغربًا أن يساوره الشك من مظهرها المتوتر.
‘صحيح. في هذه اللحظة، التصرف كفتاة مذعورة سيكون أفضل.’
اتخذت قرارها. ضمّت الكتاب إلى صدرها بشدة وارتجفت.
“لـ، لقد خرج!”
“ما الذي تقصدينه؟“
“قلتُ إنه قد خرج!”
اقتربت ليلي من الفارس وهي تفتح عينيها على وسعهما، وذراعها الحاملة للكتاب تكاد تلامس درعه.
[ليلي…]
صدر صوت متذمّر بجانبها، لكن ليلي لم تكن تملك الوقت للرد.
“لقد سمعتَ الضجة من الطابق الرابع أيضًا، أليس كذلك، سير الفارس؟ لا يمكن أن تكون لم تسمعها. بصراحة، لو لم أكن مكلّفة بالعمل في المكتب، لما وطأت قدمي المبنى الرئيسي أصلًا. آه! إلا إن كان هناك شبح أو شيء من هذا القبيل!”
تظاهرت بالذعر وهي تهمّ بالنزول مجددًا، لكن الفارس وقف في طريقها.
‘لم أكن أتوقّع منه أن يتركني أذهب بهذه السهولة.’
رفعت ليلي رأسها سريعًا ونظرت في عينيه.
‘أوه؟‘
كانت حدقتاه متسعتين أكثر مما سبق، وبدا عليه الارتباك قليلًا.
لم يكن في نظره ما يشير إلى نيته استجوابها أو اتهامها بالكذب.
“ماذا تقصدين؟ هل تحدث أشياء كهذه في قصر الدوق أيضًا؟“
سمعته بوضوح يقول ‘أيضًا‘ حين تحدث عن قصر الدوق. ‘أيضًا‘؟ أيعني ذلك أن شيئًا مماثلًا يحدث في القصر الإمبراطوري كذلك؟
‘آه، تلك روح الإمبراطور.’
توصلت إلى استنتاجها سريعًا. بدا الفارس وكأنه يرغب في الحديث أكثر. لقد اختفى التوجّس من عينيه تمامًا.
الميزة صارت في صفّها الآن.
“مـ، ماذا قلتُ مجددًا؟“
واصلت تمثيلها الخائف وتظاهرت بأنها تلعثمت في الكلام.
“لقد تحدثتِ عن الأشباح…”
“أعتقد أنك أسأت السمع. لم أقل شيئًا.”
“لا، لقد قلتِ بالتأكيد…”
“ششش.”
رفعت ليلي سبّابتها لإسكاته.
ثم وسّعت عينيها وهمست بنبرة مذعورة.
“إن كنت لا تريد أن تُتَّهم بالهرطقة لأنك تتحدث عن خرافات مثل الأشباح، فالأجدر بك أن تنسى الأمر برمّته.”
اتّسع وجه الفارس بالاستنكار، وكأنه يحتج.
“لكنّكِ أنتِ من قالها أولًا.”
“تصرّف وكأنك لم تسمع شيئًا. فهمت؟“
ولكي تؤكد موقفها، حاولت تجاوز الفارس والنزول، لكنه أمسك بمعصمها دون نية للسماح لها بالرحيل.
“أرجوكِ، انتظري.”
في تلك اللحظة، نفد صبر آيدن.
وبصوت هائل، انخلع شمعدان مثبّت بالحائط وتهشّم بقوة خفية. كان أحد الأثاثات القليلة المتبقية في المبنى الرئيسي، وها هو قد تحطّم.
رفعت ليلي عينيها نحو الحائط بنظرة شاردة. كان من المفترض أن يزور الإمبراطور المبنى اليوم، وها هو الخراب يعود إليه مجددًا…
“هل رأيتِ ذلك؟“
“هاه؟ ماذا؟ لم أرَ شيئًا.”
“لا تكذبي عليّ.”
بدأ الفارس ينظر حوله بجدية.
“منذ متى بدأت هذه الأمور تحدث في قصر الدوق؟ هل لها علاقة بانهيار سموّه؟“
ومن دون وعي، شدّد قبضته على معصم ليلي.
“آه…!”
أطلقت ليلي أنينًا خافتًا. لو كان الفارس قادرًا على رؤية الأرواح، لخرّ صريعًا من الخوف من النظرة المشتعلة في وجه آيدن.
حاولت ليلي بشدة أن تهزّ رأسها، علّها تلتقي بنظرات آيدن.
بهذا الإيقاع، قد يرتطم الشمعدان الساقط برأس الفارس. بل إنها بدأت تسمع طقطقات خافتة.
“هل تعلمين شيئًا؟ أنا حاليًا…”
“أنت تؤلمني!”
ضربت ليلي ذراع الفارس بالكتاب الذي كانت تحمله. ومقارنة بسحب جثة علقت في رأسها شمعدان، فإن الوقوف في وجه فارس لم يكن بالأمر العسير.
أخيرًا، أدرك الفارس تجاوزَه، فأفلت معصمها.
“أعتذر.”
هبطت ليلي بضع درجات، ثم التقطت الشمعدان المكسور، ونظرت حولها بتوتر، قبل أن تحذّره.
“لا يمكنني إخبارك بشيء. لا أحد في قصر الدوق يجرؤ على التفوّه بكلمة. الأمر ذاته ينطبق على القصر الإمبراطوري، أليس كذلك؟ لذا، انسَ كل ما رأيته.”
تبادلا النظرات للحظة. بدا الفارس مترددًا، ثم اتخذ قراره.
“فهمت ما تقصدينه. من الأفضل ألا يُكشف هذا النوع من الأمور.”
كان صوته مشبعًا بالريبة العميقة. وبعد أن ألقى نظرة على الكتاب الذي حملته ليلي، سمح لها أخيرًا بالرحيل.
في الخارج، التفتت ليلي نحو المبنى الرئيسي.
‘هل كان ينبغي أن أستمع إليه أكثر؟‘
ترددت للحظة، لكنها سرعان ما هزّت رأسها. لم يكن من شأنها أن تتدخل.
التورط مع القصر الإمبراطوري كان خارج نطاق خادمة بسيطة مثلها. وآيدن قد رأى كل شيء — سيتكفّل بالأمر.
في الوقت الراهن، كان عليها أن تعود إلى السكن وتخفي نفسها.
‘فلنرَ، كيف حال سموّه؟‘
تظاهرت بتأمّل المنظر حولها، ثم نظرت إلى جانبها. كان آيدن يسير بقربها مباشرة.
وبالمقارنة مع رعبه السابق، حين بدا وكأنه سيجرّ أحدهم إلى الجحيم، فقد اصبح الآن أشبه بفتى تائه لطيف.
‘أهو مسرور لهذا الحد بالخروج من المبنى الرئيسي؟‘
أبطأت ليلي من خطواتها. كانت في عجلة من أمرها للعودة، لكنها أرادت أن يستمتع آيدن بهذه اللحظة.
ربما، لاحقًا، يمكنهما التجوّل مع السبحة في أرجاء القصر.
لا بد أن يزورا الحديقة الغارقة في ضوء المغيب.
حتى في غياب سيده، كان بستان قصر الدوق يُعتنى به بعناية وجمال دائم.
هبّت الريح، وراحت الأوراق المجاورة تصدر خشخشة عالية. أغمض آيدن عينيه، ووقف ساكنًا كمن يتأمل جريان الهواء.
توقفت ليلي عن السير تمامًا لتنتظره.
الوقوف هكذا وسط الطريق كفيل بجذب الأنظار، وكم كانت تكره أن تبرز بهذا الشكل، لكنها في هذه اللحظة، لم تُبالِ.
وحين خفّت خشخشة الأوراق، فتح آيدن عينيه.
والتقت نظراته بنظرات ليلي، ثم ابتسم ابتسامة مشرقة. كانت ابتسامة دافئة للغاية، حتى إن وصفه بالقاسي بدا فجأةً كذبة.
لكن هذه اللحظة العذبة شُوّهت بروح الإمبراطور التي كانت تتبعهم من بعيد، تحاول الفرار دون جدوى، وكأنها مربوطة بسلسلة تُجبرها على البقاء.
ومن نظرة واحدة، كان واضحًا أن الإمبراطور قد أساء إلى آيدن بشكلٍ ما. صحيح أن زعيم الطائفة استعمل السحر، لكن هذا لا يعني أن الإمبراطور بريء تمامًا.
ضيّقت ليلي عينيها. وقد شعر آيدن بشيء فسألها فورًا.
[ليلي، بمَ تفكرين؟]
“لا شيء على الإطلاق.”
أجابت ليلي بخفة، وأسرعت في خطواتها.
لكن في داخلها، لم تستطع إلا أن تتابع ذلك الخاطر المتهور.
‘هو ليس حقًّا في صفّنا على أية حال… هل يمكننا أن نجري بعض التجارب على روح الإمبراطور؟…’
***
ولسوء الحظ، رغم عجلتها، وصلت ليلي متأخرة عن اجتماع الصباح بفارق بسيط.
ولهذا اضطرت إلى الذهاب مباشرة إلى مكتب كبيرة الخدم. وفي الغرفة الهادئة التي لم يكن يُسمع فيها سوى صوت ابتلاع ريقها، قدّمت ليلي الشمعدان المكسور بكلتا يديها بأدب.
لم تسألها أنجيلا عن سبب تأخّرها أو ما هو الشمعدان.
فانحنت ليلي انحناءة عميقة، مستخدمة أكثر أساليب الكلام رسمية على الإطلاق.
“السيدة دينتا طلبت بعض الوثائق بشكل عاجل، فاضطررتُ لدخول المبنى الرئيسي دون إذن مسبق. هذا الشمعدان سقط لسبب ما، فأحضرتُه إلى هنا. إنه الشمعدان المثبّت على الحائط في السلم المركزي بين الطابقين الأول والثاني. أنـ، أنا آسفة.”
كان آيدن يراقب المشهد كله بهدوء من جانب الغرفة.
شعرت ليلي أن الأرض قد ابتلعتها من شدة الإحراج، لكنها ارتكبت خطأً، وكان لزامًا عليها أن تتواضع أمام أنجيلا.
كل ما كانت تتمناه هو أن يتذكّر آيدن هذا الموقف المُذلّ الذي مرّت به لأجله.
راقبت أنجيلا ليلي بصمت، فيما انخفض رأس الأخيرة أكثر فأكثر. ثم، بصوت يكاد لا يُسمع، همست باعتذارها مرة أخرى.
“أنا آسفة حقًا…”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 26"