استمتعوا
في طريق العودة، كاد الإمبراطور أن يتعثر مرارًا، دون أن يكون ثمة ما يعيق خطواته. وبجواره، لم يكف الشبح عن الهمس، يطالب بجسده المفقود.
ورغم ذلك، بلغوا الجناح الشرقي دون حوادث تُذكر.
كان كبير المساعدين وعدد من الفرسان بانتظارهم خارجًا، وما إن لمحوا الإمبراطور حتى أسرعوا نحوه من بعيد.
تنحّت ليلي جانبًا، وانحنت برأسها احترامًا.
“جلالتك، كنا قلقين للغاية. أرجوك، في المرة القادمة، لا تخرج دون مرافقة.”
لكن الإمبراطور لم يرد على كبير المساعدين، بل أخرج شيئًا من ردائه وقدّمه إلى ليلي.
تناولت ما دُفع نحو أنفها. كان حزمة من المناديل.
“شـ… شكرًا لجلالتك.”
تمتمت وهي ما تزال مطرقة الرأس.
ثم اقترب الإمبراطور من أذنها، وهمس.
“أرسليها إلى الدوق. تعبيرًا عن امتناني…”
ارتعش جسدها. غرائزها التي صُقلت في حياة الخضوع والمهانة صرخت بأن هذا ازدراء، فيه سخرية واستهزاء.
فبدلًا من أن يهدأ غضبه أثناء العودة، ازداد كآبة وثقلاً.
نظرت ليلي إلى راحتها.
‘لا تقل لي… هل استخدمها لمسح أنفه؟‘
كان في نبرته شيء يذكّر بنساء النبلاء الساخرات في الروايات، حين يمارسن ألاعيبهن الخبيثة. ما جعل الشكوك تتفاقم في ذهنها.
ثم دخل الإمبراطور المبنى برفقة كبير المساعدين وحراسه. وتحت أنظار الفرسان الواقفين، وضعت ليلي فانوسها برفق، وبدأت في فك المنديل بحذر.
وما رأته جعل عينيها تكادان تخرجان من محجريهما.
في داخل المنديل، كان هناك خاتم ألماسي مذهل.
ارتعشت يداها حتى ارتجف الخاتم نفسه فوق القماش.
كان خاتمًا رجاليًا، مصنوعًا من البلاتين، تتوسطه ماسة كبيرة تحيط بها ماسات أصغر في تصميم متقن بديع.
حدّقت ليلي في لمعان الأحجار، والنار المتراقصة عند المدخل تنكسر داخله، ترسم وهجًا لا ينتمي إلى هذا العالم…
دفعها حدسها إلى قلب الخاتم، لتنظر إلى داخله، وهناك رأت اسم العائلة الإمبراطورة. شايفرتز، منقوشًا بخط أنيق.
قفزت ليلي واقفةً وهرعت نحو الباب. إلا أن الفارس الذي كان يراقبها منذ البداية اعترض طريقها.
“غير المصرح لهم لا يُسمح لهم بالدخول.”
“أ… أرجوك! عليّ أن أرى جلالة الإمبراطور!”
نظر إليها الفارس وكأن عقلها قد اختل. وحتى ليلي كانت تدرك كم بدت كلماتها مجنونة… لكنها كانت يائسة.
“لا بد أن جلالته أعطاني هذا عن طريق الخطأ! أريد فقط أن أعيده!”
أخرجت الخاتم بحذر، حريصة ألا يسقط، فقال الفارس.
“رأيت جلالة الإمبراطور يمنحه لك بنفسه. تفضّلي بالعودة.”
“لكن… هذا هدية عظيمة للغاية! لا يمكنني قبولها! إن احتفظت بها، فربما أموت ميتة مبكرة! إن لم أستطع رؤية جلالته، فدعوني على الأقل أُحدّث كبير المساعدين! أرجوك، أوصل له رسالة!”
لم تكن ليلي راغبة في الاحتفاظ بكنز إمبراطوري.
لو كانت سيدة نبيلة، لربما قبلته بسرور. لكن كونها مجرد خادمة جعل الأمر عبئًا لا يُحتمل.
لا يمكنها بيعه — لأنه هدية امبراطورية— ولا تستطيع ارتداءه. سيكون كالجوهرة في حافر خنزير.
عدا عن الحسد الذي سيثيره، فقد يجذب اللصوص أيضًا.
لكن فوق كل ذلك—
لم تكن ليلي تريد شيئًا من هذا الإمبراطور الزائف. لم يُشعرها بالعطاء، بل بالقشعريرة والاشمئزاز.
“كبير المساعدين ليس من تستدعينه بإرادتك. توقفي عن إثارة الضجة، واقبلي كرم جلالته بشكر.”
“…فهمت.”
لم تجد ليلي سوى أن تدير ظهرها.
خطواتها نحو المهاجع كانت ثقيلة. لماذا منحها ذلك الخاتم؟ مكافأة على إرشاد الطريق؟
رغم أنه بدا من النوع الذي ينثر الذهب بلا مبالاة، إلا أن ما فعله كان مبالغًا فيه. ونبرة السخرية حين قدّمه زادت الشكوك في قلبها.
على كل حال، كان هذا الخاتم ينذر بشرّ ما.
‘لا… لست أتخيل. هناك أمر خطير فعلًا في هذا!’
فكّت ليلي قبضة يدها، التي كانت تضغط على الخاتم بشدة.
ومع أنها ابتعدت عن وهج المشاعل وضوء الفانوس، ظل الخاتم يتلألأ ببريق أزرق مع مسحة من القرمزي الداكن، كما لو أن غبارًا سحريًا قد نُثر عليه…
[خاتمي.]
“آه!”
جعلها الهمس المفاجئ تقذف الخاتم دون وعي. قلبها انقبض بشدة من الخوف.
ارتطم الخاتم بالحجارة وسقط بين الشجيرات. وفي لحظة، ظهر شبح الإمبراطور خلفها، واقفًا فوقه، يتأمله في صمت.
اتسعت عينا ليلي.
‘يجب… يجب أن أهرب.’
أرادت أن تتحرك، لكن ساقيها عصيتاها، متجمدتين.
أدار الشبح رأسه. ولأن ليلي كانت تنظر إليه، تلاقت أعينهما قبل أن تتمكن من تفاديه.
ثبت الشبح بصره فيها وبدأ يقترب ببطء.
‘هذا… هذا الشعور مألوف!’
كان مظهره مرعبًا. عيونه شاردة، وتعبيره أشبه بالقناع، ينذر بالخطر.
وعندما بدأت شفتاه تتحرك—
‘لا… لا أستطيع. هذا فوق احتمالي!’
والدموع تغمر عينيها، استجمعت ليلي آخر ما تبقى لديها من قوة، وركضت عائدة إلى سكن الخدم.
***
بحلول الوقت الذي أنهى فيه الإمبراطور أول وجبة له منذ استفاقته، كانت الشمس قد قاربت كبد السماء.
ولم يُسمح لوولفرام بالدخول عليه في الجناح الشرقي إلا آنذاك. وحتى بعد أن أنهى تحيته، أُبقي جاثيًا على ركبتيه فيما تحدّث الإمبراطور.
“هناك شيء أبحث عنه.”
تألقت عينا وولفرام المنخفضتان بحدة. تذكّر المعلومات التي أوصلتها ليلي دينتا بالأمس.
روح مجهولة قد طردت روح الإمبراطور واستولت على جسده. والمشتبه به كان على الأرجح زعيم طائفة سولمون…
وبهذا، اتضحت تصرفات الإمبراطور في القصر.
فبالأمس، أنهى زيارته المزعومة بمجرد أن رمق وجه الدوق للحظات. وولفرام ما زال يتذكر جيدًا ابتسامة الازدراء الخفيفة التي اعوجت شفتيه.
ثم، تحت ذريعة ‘مأدبة عزاء‘، أقام حفلاً حتى قبل غروب الشمس.
لم يراعِ أي مظهر من مظاهر الوقار، وكأنه مهووس بتدنيس قدسية القصر. جلب موسيقيين لعزف ألحان الرقص، وفتح غرف الجناح الشرقي عشوائيًا، وترك الناس يتجولون كما يشاؤون.
ولا تزال آثار تلك الفوضى شاهدة — طعامٌ نصف مأكول، كؤوس مكسورة، وآثار أقدام دنّست السجاد.
وحين طلب وولفرام أن يُسمح للخدم المحليين بتنظيف المكان، على الأقل إن لم يُرِدوا استخدام عمال القصر، رفض كبير المساعدين. كان من الواضح أن الإمبراطور أمر بترك الخراب كما هو.
فإن شاء الإمبراطور شيئًا، لا يجرؤ أحد على معارضته.
والآن، كشف الإمبراطور عن مقصده الثاني.
“الشيء الذي باركه الحاكم. أين هو؟“
تظاهر وولفرام بالجهل.
“لا أفهم مقصد جلالتك.”
نظر الإمبراطور إلى كبير المساعدين. ذلك الثعلب العجوز، البارع في التقاط نوايا سيده، تولّى الترجمة بسلاسة.
“جلالته يسأل عن أداة الحماية المقدّسة الخاصة بالدوق.”
ورغم أنه بلا شك أدرك كم تغيّر الإمبراطور، إلا أن كبير المساعدين واصل لعب دوره دون تردد.
كان يُقال قديمًا إنه لو طُلب منه لعق حذاء الإمبراطور، لفعل دون تردد. وفي هذا، كان على الأقل ثابتًا — يتمسّك بالسلطة، أيًّا يكن من يحملها.
رفع وولفرام بصره قليلًا. وكان الإمبراطور يحدّق فيه بوجه وادع، وكأن من الطبيعي أن ينال ما يشاء.
لكن كيف يجرؤ على الطمع في شيء مقدّس؟ بالنسبة لأتباع لوميون، فإن ذلك يعدّ إهانة لا تغتفر.
فكل مواطن في الإمبراطورية يمتلك أداة حماية. إنها رحمة الحاكم الممنوحة للبشر.
تحفظ الروح حتى يوم الحساب، وتُرشدها إلى الطريق القويم، وتعمل كوسيلة تواصل مع المقدّس.
يوم يولد الطفل، يجهز الوالدان هذه الأداة، ويقوم كاهن بتكريسها باسم الحاكم — وغالبًا ما تكون خاتمًا أو مسبحة أو ما شابه.
وتُعدّ هذه الأداة شيئًا شخصيًا بالغ القداسة. تمثل اتصالًا مباشرًا بالروح، ولا يُؤتمن عليها أحد، ولا يُباح السؤال عنها.
ومع ذلك، ها هو الإمبراطور يطلبها بوقاحة، متجاوزًا كل القيم الإمبراطورية.
لو كان الدوق في تمام عافيته، لكان خدمه، حتى في غيابه، قد ثاروا ووقفوا في وجه الإمبراطور.
لكن الدوق يبدو أنه لن يستفيق أبدًا، ولا أحد يجرؤ على المخاطرة بإغضاب الإمبراطور من أجل سيد قد سقط.
ولذا، لم يكن أمام وولفرام سوى أن يعتمد على دهائه.
“أحمل في قلبي الرغبة الصادقة في خدمة جلالتك، لكن ويا للأسف فإن الدوق كان يدير الأمر بنفسه. ولا أحد يعلم مكانها الآن.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 23"