استمتعوا
لأن ليلي دينتا، في نهاية المطاف، لم تكن سوى أداةٍ لنقل كلماته.
وبصفته مالك الأداة، كان عليه أن يتحكم بها، لا أن يتأثر بها في المقابل.
من الواضح أنه انغمس كثيرًا في أدائه. كانت المشاعر غير الضرورية قد تراكمت بداخله. وعلى الأقل، عندما يكون بمفرده، ينبغي له أن يفكر في أمورٍ أخرى.
انتقل آيدن إلى مكانٍ آخر لتغيير مزاجه. حاول أن يُركّز على الزيارة الوشيكة للإمبراطور أو على سبب بقائه محصورًا في المبنى الرئيسي طوال هذا الوقت.
سار بمحاذاة النوافذ المفتوحة. ومن دون قصد، استحضر في ذهنه صورة الخادمة التي كانت تُرجع خصلة شعرها خلف أذنها، والكلمات العفوية التي خرجت من شفتيها.
“بالطبع قلقتُ عليك لأنك سيدي. لست من النوع الوقح الذي يتجاهل مرض سيده أو خطرًا يتهدده ويهتم فقط براتبه.”
لم تكن تلك هي الإجابة التي أرادها آيدن. لقد تمنّى لو أن قلق ليلي دينتا حمل شيئًا أكثر من مجرد حسّ الواجب كخادمة.
لأنه… لأنه رغم أن علاقتهما كانت مقيّدة بالواجب والعقد والمكافأة، إلا أنها لم تكن مجرّد علاقة بين سيد وخادمة.
فمن الناحية الموضوعية، هذا صحيح. لكن أين يمكن أن تجد في الإمبراطورية علاقة بين خادم وسيد تشبه علاقتهما؟ لقد كانا أقرب بكثير من ذلك.
حتى وإن كان آيدن نفسه يعتبرها أداة، ما كان ينبغي لليلي دينتا أن تتحدث بذلك الشكل. كانت شخصًا مختلفًا… شخصًا يفهم معنى المودّة، يمتلك قلبًا دافئًا…
‘يكفي. عليّ أن أتوقف عن التفكير في هذا الآن.’
نقر آيدن بلسانه بغيظ وسار بخطى عنيفة.
‘لا بد أنني جُننت.’
كانت الأفكار المتضاربة التي تدور في رأسه، والمشاعر التي تهبط وتصعد، تُشبه إلى حدٍّ بعيد حوارات داخلية لممثل مسرحي رخيص.
الجمهور سيضحك، وهو يسمع البطل ينكر مشاعره الواضحة، بينما يراها الجميع جليّة.
لم يكن آيدن يصدّق أنه يفكّر بهذه الطريقة تجاه ليلي دينتا.
لو كانت سيدة شابة من عائلةٍ نافذة، لربما تقبّل مشاعره بطريقة منطقية وإيجابية.
ففي النهاية، لا يمكنه أن يبقى أعزب إلى الأبد. وإذا كان لا بد من الزواج، فالأفضل أن يرتبط بشخص يليق بمكانته.
ومع ذلك، ها هو الآن، يعاني بسبب خادمة عادية لم يكن يعرف بوجودها حتى قبل أن يتحول إلى شبح.
وطوال هذا الوقت، كانت تتصرّف بكمالٍ تام، تعامله ضمن حدود واجبها كخادمة لا أكثر.
في الحقيقة، لم يكن يملك أي حق في الشعور بخيبة الأمل من ليلي دينتا. فهي على الأقل كانت صادقة، بينما هو كان مخادعًا، يعاملها كأداة ولا يفكر إلا في كيفية التلاعب بها.
‘لكن لم يكن كل شيء كذبًا… صحيح أن البداية كانت زائفة، لكن مع مرور الوقت بدأت… بدأت أُعني ما أقول حقًا… هاه…’
أدرك مجددًا أنه غارق في أفكار مجنونة، وزفر تنهيدة طويلة.
وهكذا مرّت تلك الليلة كاملة.
كان الأمر محتومًا. فهي الوحيدة التي نثرت الدفء في هذا العالم الرمادي، الوحيدة التي كانت تبتسم بصفاءٍ كشمسٍ صغيرة.
ملامحها الجميلة، طريقتها في التنقّل كعصفور صغير، قلبها النقي الذي يبعث السلام لمجرد وجوده — كل هذا بقي عالقًا في ذهنه، شاء أم أبى.
ظلّ يتجوّل، ممزّقًا بين أفكاره، إلى أن بدأ ضوء الفجر الأول يلوح في الأفق.
وكأنّه كلبٌ مدرَّب، وجد نفسه يتجه نحو الباب الجانبي.
لم تأتِ ليلي دينتا في الوقت المعتاد. كان قد سمع أن الإمبراطور سيزور القصر، ولكن ألم يكن بإمكانها أن تسرق لحظة واحدة لرؤيته؟
مزاجه ازداد سوءًا، وأخذ يراجع كل ذكرياته بدقة، متسائلًا إن كان هنالك ما يوحي بأنها ستفرّ.
وفجأة، فُتح الباب بقوة، واقتحمته ليلي دينتا راكضة.
“سيدي! اختبئ!”
تلك العينان البنيتان الكبيرتان، الدافئتان، واللتان انتظر رؤيتهما طوال الليل، كانتا هناك، تحدّقان فيه.
***
بسبب الزيارة المفاجئة للإمبراطور، عمّت حالةُ الطوارئ أرجاء قصر الدوق. واضطرت ليلي إلى البقاء في المطبخ للمساعدة، بدلًا من التوجه إلى المبنى الرئيسي.
فقد أُقيمت الليلةَ مأدبةُ عزاء، جمعت كبار الشخصيات من المنطقة.
وبينما كانت تقشّر البطاطا، تمتمت ليلي في داخلها بسخط.
‘السيد لا يستطيع حتى أن يفتح عينيه، فما فائدة مأدبة العزاء؟ لمجرد أنه الإمبراطور، يظنّ أنه يملك المكان؟ والمغفّلون الذين لبّوا الدعوة ليسوا أفضل حالًا. لا عقل لديهم.’
على أية حال، كان القصر في فوضى عارمة، إذ يُهرع الجميع لإعداد قاعة المأدبة في الجناح الشرقي، وترتيب غرف النوم للإمبراطور ومرافقيه.
وأخيرًا، قرابة الثالثة مساءً، وصل موكب الإمبراطور.
في حدود المفردات التي تعرفها ليلي، لم يكن بإمكانها وصف المشهد سوى بكلمة. مبهر.
حتى الحرس الإمبراطوري، بدرعهم اللامع، كان مشهدًا فخمًا. ومعهم الخدم، والخادمات، والموظفون، والعربات المحمّلة وكأنهم جلبوا قصرًا كاملًا معهم…
لقد كان الأمر مبالغًا فيه إلى حدٍّ مُخجل، خصوصًا أن الزيارة يُفترض أن تكون زيارة ودّية لصديق مريض. بدا الأمر وكأنه محاولة يائسة لاستعراض الثراء.
اصطفّ جميع العاملين في القصر أمام الجناح الشرقي لاستقبال حاكم الإمبراطورية.
وحين توقفت العربة وفتح السائق الباب، ركعوا جميعًا وأحنوا رؤوسهم. سُمِع صوت الإمبراطور وهو يهبط من العربة.
“نحيّي شمس الإمبراطورية.”
تحدث وولفرام أولًا نيابةً عن سيد المنزل، ثم تبعه الآخرون.
لكن الإمبراطور لم يرد. بل تحدث شخص آخر نيابة عنه، قائلاً. “يسرّ جلالته ترحيبكم، ويمنحكم مكافأة قدرها عشر قطّع ذهبية.”
صُدمت ليلي من تصرّف الإمبراطور، الذي لم ينبس بكلمة واحدة مباشرةً مع العامة. وبالعودة للتفكير، بدت علاقتها مع الدوق كاشيمير غير اعتيادية حقًّا.
وبينما مرّ الإمبراطور وسط الناس برفقة وولفرام، لم تصدر أي تعليمات أخرى، لذا حافظت ليلي على جبينها ملتصقًا بالأرض كالبقية.
ويبدو أنهم سيبقون على تلك الحال حتى يدخل الموكب بالكامل.
ولكن… عندما مرّ الإمبراطور مباشرة أمامها، سمعته.
صوتٌ بارد، خافت، همس في أذنيها.
[أعيد إليّ جسدي…]
اتسعت عينا ليلي، رغم أنها ما زالت تحدّق في الأرض.
[أعيد إليّ جسدي…]
مع كل مرة يتردد فيها الصوت، كانت تشعر بوخزٍ غريب في عقلها، مزعج وغامض في آنٍ معًا.
[جسدي…]
ومع ابتعاد الإمبراطور، بدأ الصوت يختفي تدريجيًا. ورغم أنها قد تُوبّخ إن كُشف أمرها، إلا أن ليلي لم تتمالك نفسها ونظرت من طرف عينها.
وفي المسافة البعيدة، رأت ظهر الإمبراطور. ولكن خلفه، رأت شيئًا آخر — شبحًا شفافًا يتبعه.
رأته بوضوح. لم يكن هنالك شك. لقد كان شبحًا.
‘مستحيل. شبحٌ ملتصق بالإمبراطور. لهذا لم أسمعه بأذني مباشرة!’
ما الذي يحدث في هذا المكان؟ لماذا الأشباح في كل زاوية؟
كانت تريد أن تركض عائدة إلى غرفتها في الحال. فالرعب الذي شعرت به الآن يختلف كليًّا عمّا شعرت به حين رأت الدوق.
فآيدن على الأقل كان له هوية معروفة وكان يحتفظ بعقله.
أما هذا الشبح، فلم يكن له وجهٌ واضح، وكان يكرر العبارة ذاتها كأنه ببغاء مكسور. لم يكن سويًّا إطلاقًا.
ذلك الصوت البارد، المشبع بالحزن — مجرد تذكّره جعلها ترتجف.
“ليلي.”
همس أحدهم باسمها من الخلف، فعادت ليلي إلى رشدها بسرعة، وانخفضت برأسها من جديد.
زمّت شفتيها بامتعاض، وهي تتأمل مواجهتها الرابعة مع الأشباح في حياتها.
‘تشش. بحق الجحيم، هذا المكان ملعون… لكن ماذا قال الشبح مرة أخرى؟ “أعيد إليّ جسدي“؟ جسدي؟‘
استدارت مجددًا بسرعة، وارتفع نصف جسدها معها.
لكن الإمبراطور كان قد اختفى. وكذلك الشبح.
“ليلي!”
عند ذلك التأنيب المتوتر، خفضت ليلي رأسها مرة أخرى على مضض.
‘ما هذا، مهرجان؟ لماذا كل هؤلاء الناس يتجمّعون؟ إلى متى علينا البقاء بهذه الوضعية؟‘
التحليل بسيط. هناك الإمبراطور. يتبعه شبح. الشبح يقول.
“أعيد إليّ جسدي.”
إذًا، جسد الإمبراطور كان في الأصل ملكًا لذلك الشبح.
فمن يكون الشبح إذًا؟ الإمبراطور الحقيقي!
لم ترَ وجهه بوضوح، ولكن من خلال كلماته وثيابه الفخمة، كان استنتاجًا منطقيًّا.
وعند التفكير، كان ظهره يشبه ظهر الإمبراطور الحالي أيضًا.
‘الناس أصحاب النفوذ يُنتزعون من أجسادهم… هذه الإمبراطورية في طريقها إلى الزوال. ربما عليّ أن أهاجر. سمعت أن هناك ممالك صغيرة على أطراف القارة لم تُحتل بعد. آسفة، يا سيدي…’
تخيّلت ليلي نفسها للحظة وهي تهرب إلى أرضٍ بعيدة، ثم تخلّت عن الفكرة.
‘مستحيل. بالكاد أستطيع الذهاب للبلدة المجاورة، فكيف سأعبر حدود دولة؟ لكن… إن كان الشبح هو الإمبراطور الحقيقي، فمَن أو ما الذي في جسد الإمبراطور الآن؟ ولماذا جاء إلى قصر الدوق؟ وكيف يتجوّل الشبح في الخارج؟‘
أسئلة لا تنتهي كانت تنهش عقلها.
وبعد وقتٍ طويل، انتهى الموكب أخيرًا، وعاد الخدم إلى مهامهم. ولكن ليلي كان عليها التوجه لكبيرة الخدم بدلًا من المطبخ. فقد وشى بها أحدهم على ما يبدو بسبب سلوكها غير اللائق سابقًا.
“ليلي دينتا، أشعر بخيبة أمل كبيرة منكِ. حتى لو لم يكن لديكِ معرفة عميقة بالقواعد، أكان من الصعب تحمّل بضع دقائق فقط؟ أكان من الصعب أن تُبقي رأسك منخفضًا؟ هه؟ إلى درجة المجازفة بشرف العائلة؟“
“أعتذر، سيدتي.”
كان صوتها حزينًا، وكأنها تحمل ذنب العالم كله، لكن في داخلها، لم تكن نادمة على الإطلاق.
كانت ما تزال تفكر في الإمبراطور… وفي شبح الإمبراطور.
‘لماذا جاء حقًا؟ لا، الأهم… من هو الموجود الآن داخل جسد الإمبراطور؟ من يملك القدرة على طرد صاحبه والاستيلاء على جسده؟‘
ثم، وكأن صاعقة نزلت على رأسها، جاءها الجواب.
‘من غيره؟ لا بد أنه زعيم الطائفة!’
مهما كان نوع السحر المظلم الذي استخدمه ذلك الشرير، فلا شك أنه استولى على جسد الإمبراطور، وقد جاء الآن لينهي أمر آيدن، الذي لم تنكسر روحه بالكامل بعد.
كان عليها أن تجد وولفرام فورًا!
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 19"