بوفاة الكونتيسة والكونت تباعًا، هدأت محاولات الاغتيال، لكن الخلل الذي ضرب كيان كل شيء لم يعد إلى سابق عهده.
أصبح النوم حلمًا بعيد المنال.
كان إيرن يسهر لياليه، ممزقًا بين أفكاره، غارقًا في تساؤل وجودي:
لماذا كان يتمسك بالحياة بكل هذا اليأس؟ لم يسبق له أن خاض معركة وهو يضع حياته على المحك،
ومع ذلك تساءل:
لو لم أقاتل منذ البداية، أكنت سأموت ببساطة؟
لأي غاية كنت أقاتل بكل تلك الشراسة؟ للشهرة؟ للمال؟
لكن أياً منهما لم يكن يعني له شيئًا.
لم يكن يقاتل سوى حين يطل العدو من الظلال.
“يشعرني بالغثيان حين يوجه أحدهم نصل سيفه نحوي”
نعم، ذلك كان السبب.
لم يكن دافعه سوى أن يصد إحساسه بالقذارة حين يجد الموت محدقًا به.
لكنه حين فقد سببًا للحياة ومعنى للقتال، غدا كل شيء في عينيه عبئًا ثقيلاً.
صار يتجول وكأنه يحمل رأسه بين يديه، مستعدًا لتقديمه لأي مغامر يجرؤ على قطعه.
وقد يبدو هذا سخيفًا لأولئك الذين بذلوا حياتهم في محاولات قتله، لكنه الآن كان مجرد إنسان بلا وجهة، تائهًا بعد أن تحولت تلك المحاولات إلى عبث خالص.
كانت الأيام تمر كأنها واقفة في مكانها، يبددها إيرن بين أكواب الخمر، يعيش بلا مبالاة ولا حماية.
ومع أن الموت بدا له أقرب من أي وقت مضى، إلا أن الحياة كانت تتمسك به بجنون، أو ربما كان القدر يرفض استقباله بعد.
لكن حين أصابه السأم من كونه الناجي الوحيد، جاءه الموت.
في الحقيقة، هو لا يتذكر متى مات.
كان غارقًا في سبات عميق، هاربًا من اليقظة وكأنها عدو لدود.
ثم فجأة، كأنما قوة خفية جذبته من الأعماق، فتح عينيه ليجد امرأة وضعت يدها بين ساقيه.
“ما هذا؟ متّ ثم عدت إلى الحياة؟ وبعد خمسين يومًا دون أن يتحلل جسدي؟”
عبس بغضب وهو يمزق الغطاء، ملتحفًا به في محاولة يائسة لتغطية عريه.
هل هذا عقاب؟ أن أُمنع حتى من الموت؟
لو أنه تحوّل إلى شبح، لكان الأمر أقل عبثًا.
“أعيدي الميدالية”
صوّب غضبه نحو هنري، الجالس على طرف السرير بنصف وعي.
رد هنري محاولًا الدفاع عن نفسه:
“ما الذي يخيفك وأنت الذي خضت أهوال الحرب؟ ومع ذلك تصرخ؟”
“عندما تنهض جثة فجأة من الموت، كيف لي ألا أصرخ؟”
رد إيرن ببرود متجهم: “تلك المرأة لم تصرخ”
“اسمها’جوديث هارينغتون'”
قال هنري بإيجاز
” إنها أجبرت على الزواج به أثناء احتضاره وورثت بذلك اسم عائلة راينلاند”
لم يكن يعرف عنها شيئًا يُذكر، إلا حقيقة واحدة:
أنها تبدو مختلة العقل.
أول مرة سمعها تناديه بـعزيزي، شكّك في سلامة سمعه.
قال هنري بتردد:
“لابد أنها كانت في حالة صدمة. عندما غادرت، بدا وجهها… أحمر بالكامل”
قاطعه إيرن:
“انتظر، أحمر؟ لم يكن شاحبًا؟”
هنري متذكرًا أين كانت جوديث تقف بالضبط، اكتفى بهز رأسه.
أما إيرن، الذي بدا لامباليًا حدّ البرود، فلم يهتم بالتفاصيل.
حتى أن هنري لم يجرؤ على سؤاله عن حاله، مدركًا أن الإجابة ستكون مستفزة لا محالة.
“هل هي حقًا امرأة لا تعرفها؟”
“هذا أول لقاء بيننا”
ضغط إيرن على رأسه الذي كان ينبض كأنه ساحة معركة.
ما الذي حدث لي؟ من الذي قتلني؟ ولماذا تحولت إلى جثة لا تتحلل؟
ثم، لماذا زوجوني بهذه المرأة؟
وبينما كانت تلك التساؤلات تضرب رأسه، فتحت جوديث الباب بحذر.
“هل يمكنني الدخول؟”
رفع إيرن بصره نحوها.
بدت أكثر هدوءًا مما توقع.
قال بصوت جاف:
“…حتى لو التقينا مرة أخرى، فهو لقاؤنا الأول”
كانت تحمل صينية بين يديها، تتقدم بخطى مترددة، وكأنها تواجه وحشًا مفترسًا.
قالت بتلعثم:
“أحضرت لك شيئًا لتشربه”
تناول كوبًا ساخنًا من الصينية، رفعه إلى أنفه دون وعي، ثم تقطب جبينه باستغراب.
“ما هذا؟”
“مجرد ماء ساخن”
رفع حاجبه مستهجنًا:
“ليس خمر؟”
أشاحت جوديث بنظرها خجلًا وقالت:
“ألم أخبرك من قبل أن عائلة راينلاند غارقة في الديون؟”
تدخل هنري مسرعًا محاولًا تهدئة الأجواء، مدركًا أن إيرن قد ينفجر غضبًا في أي لحظة.
“ألم تفتقدين ليلة العرس الأولى؟”
على الرغم من أن إيرن كان يعاني من بعض الاضطرابات الشخصية، إلا أن نبرته في هذه اللحظة كانت خالية من أي سخرية.
كان فضوله يدفعه فقط لاستفسار حول ما إذا كان لهما ليلة عرس، خاصةً وأن عهدهما قد تَرَسَّخ بتبادل قبلة العهد.
حتى في لحظات غيابه عن الوعي، كانت قوته الجسدية قد تكون ما تزال نشطة.
“…آه، هل هذا حقًا ما حدث؟”
ولكن الغريب أن الإجابة التي حصل عليها كانت غير مريحة، بل ومربكة بعض الشيء.
وقد زاد ذلك من شعوره بالانزعاج لأنها جاءت بعد تفكير طويل.
“هل هذا حقًا ما كان؟
لا، أظن أن الأمر ليس كذلك”
ورغم أنها لم تكن متأكدة من السبب، فإن شعورها كان يصرّح بأن شيئًا ما كان غير صحيح.
أومأت جوديث برأسها وكأنها قد اتخذت قرارًا حاسمًا.
“نعم، دعنا نعيش تلك ليلة معًا”
تنهدت جوديث تنهدة قصيرة.
هل كان ذلك مجرد خياله أم أن تنهدها كان يحمل معنىً يقول:
“الرجال لا يمكن مساعدتهم”؟
مرّ إيرن بلحظة صمت وهو يمرر لسانه على شفتيه.
يقولون إنه حين يكون الأمر غير معقول تمامًا، يواجه الإنسان العجز عن التعبير، وهذا تمامًا ما كان يشعر به الآن.
“سيد هنري، هل يمكنك أن تنصرف؟”
إذا كان الأمر سيؤول إلى كارثة في النهاية، فلماذا لا ننهيه الآن دفعة واحدة؟
أخذت جوديث لمحة سريعة من صدر إيرن الممشوق وبطنه المشدود.
لم تكن قد توقعت أن تكون هذه هي ليلة العمر، لكن مظهره القوي جعلها تخفف من ترددها.
‘نعم، في حياتي السابقة كدت أن أصبح شبحًا عذراء، إذًا ربما من الجيد أن أعيش مع رجل في هذه الحياة’
بصراحة، متى سأحظى بفرصة العيش مع رجل مثله؟ حتى لو كانت هذه رواية خيالية، لكان الأمر صعبًا.
وعلاوة على ذلك، بما أنه ذكر “الليلة الأولى”، بدا أن إيرن يبادلها نفس المشاعر.
‘هل يعود ذلك لأن النسخة الأصلية كانت رواية للكبار؟ إنها مثيرة من النظرة الأولى.
حسنًا، لن يكون هناك ضرر إذا استمر زواجنا لعامين على الأقل’
بحلول ذلك الوقت، من المتوقع أن ترتفع أسعار العقارات، لذا سيكون الأمر ذا فائدة كبيرة على العديد من الأصعدة.
نظرت جوديث إلى إيرن وأومأت لهنري، الذي بدا مترددًا، بأن يخرج سريعًا.
“إذن، هل يجب أن أخرج؟”
نهض هنري بارتباك، وكانت نبرة صوته تتلاشى بشكل غير مألوف.
“…إلى أين تذهب؟”
مسح إيرن جفونه بكف يده، وبدأ يشعر بالضيق من هنري بدون سبب واضح.
“ألم تقل في وقت سابق أنك لا تمتلك أي ميول غريبة؟”
بينما كانت جوديث تهمس بكلماتها وهي تقترب من إيرن، رفع صوته مخاطبًا إياها.
“لا!”
إلى أين يتجه هذا الحوار؟ وما الذي يحدث هنا؟
فقد إيرن قدرته على الصمود وهو يرى جوديث تدير شفتيها في حركة دلّالة، وكأنها تشعر بخيبة أمل لعدم تمكنها من جذبه كما كانت تأمل.
في تلك اللحظة، أدرك “كلب الإمبراطورية المجنون” لأول مرة أن محاربة شخص مجنون لن تفيد سوى في إلحاق الأذى به.
“إذن، هل ستطلبين الطلاق؟”
أجاب إيرن على سؤال جوديث في لحظة، شاربًا الماء البارد دفعة واحدة، وأومأ برأسه في تسليم تام.
كان ذلك هو النظام الطبيعي للأمور.
“ربما يكون ذلك أفضل لكِ”
على أي حال، لم يكن هذا زواجًا رغبت فيه هي. صحيح أنهما كانا على عجلة للقيام بـ”الليلة الأولى”، لكن ذلك لا يعني الكثير في النهاية.
“إذا تم الطلاق، فلن تضطرين إلى تسديد ديون هذه العائلة”
“…أوه، لقد اقترضت المزيد من المال”
التعليقات لهذا الفصل " 7"