4
ⵌ31
“الفوز في القتال ليس هو المشكلة.”
كان إيرن يعتقد ذلك أيضًا، لكنه لم يستطع أن يوافق بسهولة.
فعلى الرغم من كونه ابنًا غير شرعي، إلا أنه عاش منذ أن كان في الثامنة من عمره كابن لكونت وكفارس.
لم يُطلب منه قط أن يتدرب على المبارزة، بل طُلب منه فقط أن يقاتل.
لكن بإمكانه بالتأكيد كسب المال.
وعلى عكس جوديث، التي كانت تملك ضميرًا مرنًا، شعر إيرن ببعض الذنب تجاه وضعهما المالي الحالي.
فقد كانت جوديث هي من تكفلت بكافة نفقات المعيشة، وتوسلت من أجل الطعام، بل حتى كانت تؤمّن علفًا للخيول.
“لا توجد حتى بَقّات!”
حاول إيرن أن يستخرج مخصصات تقاعده كفارس، لكنه كان بحاجة أولًا لإثبات أنه ما يزال حيًا.
وقد تخلّى عن الأمر عندما قيل له إن إثبات هويته كـ”إيرن” ضمن إجراءات إثبات البقاء على قيد الحياة عملية معقدة وقد تستغرق ما لا يقل عن نصف عام.
ولم يكن يرغب في إزعاج أي أحد بإخبارهم أنه لا يزال على قيد الحياة.
“إذا أردت البقاء في القصر ومتابعة التحقيق، فعليّ على الأقل أن أدفع ثمن الطعام.”
كان واثقًا من قدرته على القتال، لذا قرر أن يغضّ الطرف عن كل شيء ويجرب حظه.
“أرجوك، يا عزيزي.”
فتحت جوديث عينيها كما لو كانت جروًا مبتلًا، وظنت أن صمت إيرن يعني الرفض، فأمسكت بكمّه بتوسل.
“ماذا تقولين أمام الناس؟ الجميع يستطيع سماعك.”
تفاجأ إيرن وكأنها قالت شيئًا لا ينبغي قوله، وابتعد عنها بسرعة.
لكن بالطبع، لم يكن ما قالته فاحشًا أو غير لائق، لذا لم ينتبه أحد.
“عزيزي.”
“لا تقولين هذه الكلمة إلا عندما تريدين مني شيئًا.”
“إذن هل عليّ أن أناديك بها بانتظام؟”
“هل تتحدينني في مبارزة؟”
“لا تفعل ذلك، فقط جربها مرة واحدة.
اكسب ما يكفي للفائدة المستحقة الشهر المقبل، ثم توقف.
أليس كذلك؟ نحن حتى لا نملك ما يكفي لنأكل ونموت بكرامة!”
تشبثت جوديث بذراعه بتوسل عندما لاحظت أنه بدأ يتردد.
كان مشهد معصمها النحيف، الذي بدا أنه فقد الكثير من وزنه من كثرة التفكير بالديون، كافيًا ليحرّك مشاعره.
وفي النهاية، وافق إيرن لأنه لم يستطع تجاهل ذلك المشهد المؤلم.
“…سأتوقف بعد أن أجمع الفائدة.
أعدك.
لن أكررها مرة أخرى.”
—
“آخ!”
“تشاا!”
بعد بضعة أيام، تلقى إيرن صدمتين: الأولى من حجم الحلبة غير القانونية، والثانية من المصارعين الذين كشفوا عن عضلاتهم العارية وهم يستعرضون أجسادهم.
جميعهم كانوا يتمتعون بعضلات مفتولة بطرق متعددة.
لطالما اعتقد أن العضلات المفرطة تبدو قبيحة، لكن عندما رآهم على أرض الواقع، وجد أن الرجولة بتلك الهيئة ليست بالأمر السيء.
لا بأس، ليست سيئة تمامًا.
“هل جئتِ لتُعجبي بالرجال؟”
“سير إيرن، أقصد إيرن فقط، أنا أُقيّم حالة الخصوم لا أكثر.”
بالطبع، كان من الضروري إخفاء حقيقة أن إيرن فارس، لذا قررت أن تناديه باسمه فقط في الحلبة.
فهذا المكان موقع قمار غير قانوني، وإذا اكتشف أحد أن إيرن فارس، فسيُطرد فورًا.
“امسحي لعابك قبل أن تتحدثي بهذا الشكل.”
لمعت عينا جوديث كما لو كانت ترى عملات ذهبية.
نظر إيرن حوله.
رغم أن الجميع عمل على بناء أجسامهم، إلا أنه لم يرَ بينهم من يستحق الذكر.
هيه، سأري هؤلاء الحمقى، وهذه المرأة التي لا تملك ذوقًا في الرجال، كيف تبدو العضلات الحقيقية التي تُبنى في المعارك.
بدأ إيرن في فك أزرار قميصه، لكن جوديث أسرعت بإيقافه.
“لا.”
“لماذا؟”
“لأنك اليوم يجب أن تبدو كمقاتل يتفاخر كثيرًا بلا محتوى حقيقي.”
ما هذا الهراء؟ لم أكن يومًا من هذا النوع.
“كلما ظهرت أضعف، قلّ عدد من يراهن ضدك.”
وإذا فاز إيرن، فستربح جوديث، التي راهنت عليه، مبلغًا ضخمًا.
“لذا لا تفز بسهولة.
اجعلها معركة صعبة جدًا، أفهمت؟ “
“أنت لا تعتقدين أنني قد أخسر حتى.”
“بالطبع لا.
أبدًا لم أفكر بذلك.”
“لديك نظرة ثاقبة يا آنسة هارينغتون.”
قال إيرن ذلك بنبرة يملؤها الرضا.
آه، أنت غير محظوظ.
مهارتك لا تُنكر، لكن الحظ ليس حليفك.
ومع ذلك، ابتسمت جوديث بحيوية وربّتت على ذراعه.
“فقط لا تتأذى، حسنًا؟”
ثم بدأ الإعلان عن الجولة التالية، ثم التي بعدها.
شجّعت جوديث إيرن حتى اللحظة الأخيرة قبل أن تذهب لتضع رهانها.
أما إيرن، الذي سجل نفسه كلاعب، فتوجّه إلى غرفة الانتظار المخصصة للمقاتلين فقط.
لم يكونوا ضخامًا جدًا، لكن كان هناك الكثير من الرجال القذرين يتشاجرون بنظراتهم وهم يقومون بتمارين الإحماء.
“ها قد جاء نجم اليوم.”
قال أحدهم وهو يبتسم بخبث ويغمز لإيرن بينما كان يُحمّي ذراعيه.
شعر إيرن بالغثيان.
“أظن أن هذا الأحمق لا يفهم ما تعنيه كلمة نجم.”
تدخل رجل آخر مغطى بالوشوم وقال بسخرية.
شعر إيرن بالدهشة.
كيف لا يفهم معنى “نجم الحلبة”؟
نصف وجهي مغطى، ومع ذلك أنا الأكثر وسامة هنا. من الطبيعي أن أكون النجم.
“أيها الجديد، نجم اليوم يعني الشخص الأسهل في القتال.”
“ماذا تعني؟”
“سنختار خصومنا للجولة الأولى.”
بمعنى آخر، بدا ضعيفًا لدرجة أن الجميع أراد أن يقاتله.
“إذًا أنا من يختار خصمي؟”
“هاها، بالضبط.
الجميع يريد القتال معك، لذا الاختيار لك.”
“من هو أقوى رجل هنا؟”
لقد وقع إيرن في فخ الاستفزاز.
—
“نعم، ستبدأ الجولة قريبًا.
من لديه رهان، فليسرع!”
صرخ المذيع من إحدى زوايا المدرجات ليحث الجمهور على المراهنة.
“لا حاجة للتفكير، أراهن على كين القبضة الحديدية.”
قال الرجل الذي يقف أمامي ووضع قطعة فضية على كين دون تردد.
قبضة حديدية؟ ما هذا الاسم السخيف؟
سخرت في نفسي وأنا أنظر إلى الساحة.
في وسط الحلبة، كان إيرن وكين يستعدان.
أدار إيرن معصميه بهدوء، بينما كان كين يركض ويضرب صدره مثل الغوريلا، ما أثار حماس الجمهور.
“كين القبضة الحديدية، أنت وسيم!”
“هاهاها! من قال ذلك؟
سأعانقك حتى تنكسر ضلوعك!”
لوّح كين بيديه وهو يضحك بصوت عالٍ.
وكانت يداه تلمعان حقًا، فقد كان يرتدي قفازات فولاذية تمتد حتى معصميه.
ما هذا؟ هذا غش صريح!
في المقابل، دخل إيرن الحلبة بلا سيف.
لماذا لم يحضر سيفه؟ صحيح أن القوانين تمنع استخدام السيوف الحقيقية، لكنها تسمح بالسيوف الخشبية!
“آنسة، على من ستراهنين؟”
“أنا، آه…”
“بمجرد بدء القتال، لا يُقبل الرهان.
كين القبضة الحديدية؟ أم ذاك النحيل؟”
ترددت قليلًا.
لو أن إيرن أحضر سيفه فقط، لما كنت في حيرة الآن.
لكن طالما هو واثق، فلا بد أن لديه خطة.
كل شيء يسير كما هو مخطط.
“أراهن على النحيل.”
وضعت عشر قطع فضية على إيرن.
في القصة الأصلية، أليس هو فارسًا لا يُجارى؟ حتى بدون سيف، لا تزال مهاراته رائعة.
أخذت نفسًا عميقًا وذهبت لأقف في المدرجات. دخل الحكم إلى الحلبة وأعلن بدء المباراة.
“تقدم أولًا، أيها الجديد.”
لوّح كين بيده نحو إيرن، فضحك هذا الأخير.
لقد استفززتني لقتال بالأيدي، ثم دخلت مرتديًا قفازات فولاذية؟ هكذا تبدو الحلبات غير القانونية.
“ألديك حتى ذرة من الشرف؟”
“هاها، إن هاجمتُ ضعيفًا مثلك أولًا، فأين كرامة كين القبضة الحديدية؟”
ضحك بعض الحضور على سخرية كين.
“حسنًا، سأبدأ إذًا.”
لا تندم.
قبض إيرن يده بخفة، ثم اندفع بسرعة نحو كين.
تفاجأ كين من سرعته، لكنه ابتسم بعدما تلقّى ضربة على جانبه من قبضة إيرن.
“يالك من أحمق، إنها تُدغدغ، هاهاها!”
ضحك كين بصوت عالٍ كما لو أن الضربة لم تكن سوى لمسة خفيفة.
“مستعد لتُضرب، أيها الجديد؟”
أرسل لكمة نحو إيرن، الذي أمال رأسه بخفة وتفاداها بحركة كتف بسيطة.
“يا له من سمكٍ زلق!”
لكن في الحقيقة، كان إيرن يُعاني.
لأنه لا يعرف مدى القوة التي عليه استخدامها.
وفقًا للقواعد، عليه أن يُخضع خصمه دون قتله.
ولكن كيف يطرح هذا الوحش على الأرض ويبقيه هناك لعشر ثوانٍ؟
كما أنه لا يستطيع أن يُصاب، إذ لديه جولات لاحقة.
المشكلة أن إيرن اعتاد أن يقاتل بعقلية مستعد للتضحية بذراع أو ساق.
أما الآن، فعليه القتال وهو يحمي جسده… ضد خصم ضعيف؟ لم يفعل شيئًا كهذا من قبل.
“توقف عن المراوغة! هل أتيت لتلعب الغميضة؟”
فقد كين أعصابه أخيرًا وهو يحاول اللحاق بإيرن دون جدوى.
“قلت إنك تحب بيت مات، أليس كذلك؟”
“ما هذه الأسئلة؟ تضيع وقتك.”
قال كين بغيظ، ثم أجاب:
“نعم، مات ذكي.
لا يسقط بسهولة حتى لو ضربته مرارًا، لذا هيا، اضربني إن كنت تقدر.”
“لا تندم على كلماتك، يا قبضة الحديد!.”
“أقلت قبضة الحديد؟ “
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ32
“قبضة من حديد،
أهي؟”
في النهاية، أليست كلها متشابهة؟
حين أطلق إيرن ضحكة ساخرة، كان كين قد بلغ ذروة الغضب، فانقضّ موجّهًا لكمة عنيفة نحو خصمه.
ورغم جسده الضخم، تحرّك بخفة لافتة.
تفاداها إيرن بانحناءة بسيطة لعنقه، ثم اندفع للأمام، رافعًا ركبته ليصيب كين في معدته، قبل أن يعرقله حين ترنّح إلى الخلف.
ارتطم كين بالأرض بعنف، وحين حاول النهوض، عاجله إيرن بركلة قوية إلى جانبه، ثم ثبت قدمه على صدره، مانعًا إياه من الحراك رغم مقاومته.
“الحكم!”
“عشرة… تسعة… ثمانية…”
طوال العدّ التنازلي، حاول كين أن ينهض، لكن عناده لم يُفلح.
“واحد.”
أعلن الحكم نهاية الجولة، بينما كان كين يلهث غاضبًا، يضرب الأرض بقبضتيه في خيبةٍ لا طائل منها.
كان الأمر بمثابة صدمة له، أما إيرن، فقد كان واثقًا من فوزه منذ اللحظة الأولى.
ومع ذلك، لم يتوقع أن يشعر بهذا القدر من الرضا… بل إن فرحته المفاجئة كانت غريبة عليه.
شعر، بطريقةٍ ما، بسعادة خفيفة.
لم يتصور أنه سيبتسم بعد نزال نتيجته محسومة مسبقًا، لكنه فعل.
وسُرّ.
“رائع!!”
صدحت هتافات جوديث في أرجاء المدرج، الذي عمّه الصمت بعد سقوط “كين القبضة الحديدية”.
التفت إيرن نحو الصوت، فرآها تقفز فرحًا وتلوّح له وسط جمهور من العجائز أنهكتهم الحياة.
أن تضحك بهذا الصخب؟!
حدّق فيها بدهشة، وكأنها توشك على الانهيار من فرط الحماسة، وقبل أن يستوعب الموقف، صدح صوت الحكم مجددًا:
“الفوز للضعيف النحيل!”
“…من هذا بحق الجحيم؟!”
—
واصل الرجل النحيل تقدمه.
“ههه…”
اتسعت ابتسامتي حتى لامست صدغَي رأسي.
إيرن فاز في أول ثلاث مباريات متتالية، ورهاني البسيط الذي بدأ بعشر قطع فضية، تضاعف إلى مئة، ثم ثلاث عملات ذهبية.
“الفوز للنحيل!”
رفع الحكم الراية مجددًا، معلنًا فوز إيرن، لكن ملامحه لم تُظهر أي فرح.
“أيها الحكم، أنا اللاعب رقم ٣٦.”
قالها إيرن محتجًا وهو يمدّ الرقم الذي حصل عليه عند التسجيل.
“أعرف، أيها النحيف.”
أتعرف فعلًا؟ لا يبدو الأمر كذلك…
“هل تراني نحيفًا؟!”
حتى في طفولته البائسة، حين كان ينام جائعًا، نما جسده بسرعة.
بل كان يُعد ضخمًا بين الفرسان.
فكيف يُقال له الآن إنه نحيف؟!
“لا تغضب، كل من يشبهك يُلقّب هكذا هنا.”
“كل من يشبهني؟”
غمغم إيرن بضيق واضح.
“إذن، سأدعوك الوسيم.”
مرّر يده على عرقه، فكشف عن ملامحه الحادة: عينان باردتان، جبين عريض، وأنف مستقيم بارز.
“…يا للغباء، حظي سيء.”
حتى خصمه الملقى على الأرض قالها.
أن تسمعها من رجل قبيح أمر معتاد، أما من رجل وسيم؟ فذاك شيء آخر.
“اخرج، أيها النحيل.”
ربما شعر الحكم بنفس الإحساس، لذا تجاهل وسامته عمدًا.
“تغار؟ يا لك من بشع.”
غمز إيرن ساخرًا، ثم غادر الحلبة غير مكترث بشتائم الحكم واللاعبين.
ما حيلتي؟ وُلدت وسيمًا.
في غرفة الانتظار، خلع قميصه الملطخ بالعرق ودماء خصومه.
رغم بساطة القتال، كانت حرارة التنافس تتسلل إلى عضلاته المتوترة.
وبينما كان يُجفف جسده، انفتحت الستارة فجأة، واقتحمت جوديث المكان.
“إيرن!”
أرتمت عليه بعناقٍ مفاجئ، دافئ، التصق بجسده العاري تمامًا.
“هَي، ما الذي تفعلينه؟!”
أمسك بكتفيها محاولًا إبعادها، لكنها كلما دفعها، زادت تشبثًا.
من أين لها بهذه القوة؟
يمكنها خوض المعركة بدلًا عنه بهذا العزم!
“كنت أعلم أنك ستنتصر.
هيهي.”
مع كل نفس يلامس بشرته، كانت عضلات صدره تنتفض.
“أجل، فهمت.
لذلك كفي عن الضحك بهذه الطريقة.”
“اهدأ.”
دفعها بعيدًا بحسم.
“أنا متعرق.
يا للقرف.”
” قرف؟ أنت من تقاتل من أجل المال.
دعني أغسلك إذًا.”
“كلا.”
انتزع المنشفة من يدها، بعدما حاولت سرقتها خلسة.
خلف الستار، دوّت ضحكات اللاعبين.
“هل هي زوجتك؟ أم حبيبتك؟”
“لا هذا ولا ذاك.”
“أ أنت محرج، أيها النحيل؟”
“لست نحيفًا!!”
كانت جوديث، التي فاضت جيوبها بالمال، في مزاج بهيج أكثر من المعتاد.
لكنها على الأقل بدت خجلة قليلًا.
—
عشر عملات ذهبية… كم من الوقت كنت سأحتاج لصنع مئة فضية لأحصل على هذا المبلغ؟ لقد راهنت، وربحت.
عشر فضيات صارت عشر ذهبيات، وقد تصبح مئة!
ولو راهنت بمئة؟ ربما أربح ألفًا…
لم يعد سداد الدين البالغ 200 مليون مجرد حلم.
“إيرن…”
عادت جوديث إلى القصر، وأسندت رأسها إلى باب غرفته.
“هل هناك ما تشتهيه؟”
ليأكل جيدًا… ليقاتل أفضل.
ابتسمت بهدوء.
لقد بدا إيرن مفيدًا جدًا اليوم.
حتى وسامته أشرقت أكثر.
“ما بكِ؟ تصرفي بطبيعتك.”
هل تغيّرت فقط لأنه جلب المال؟ تنهد، لكن ابتسامتها لم تتبدل.
“هل ترغب بطعام خاص؟ أم أدلّك جسدك المتعب؟”
“هل تحقّقين رغباتك الأنانية؟”
“أنانية؟ يا سيدي، أنانيتي واحدة: المال.”
لم يجد ردًا على صدقها العفوي، رغم أنها لم تتناول مصل الحقيقة!
“أرجوك، كرر إنجازك هذا غدًا.”
“هاه، وسأُلقب بالنحيف مجددًا.”
“دعك منهم، هذا غيظ من وسامتك.
الجميل مثلك لا بد أن يُحسد.”
هل أصبحت بارعة في المديح فجأة؟! لطالما رمقته بنظرات حانقة حين يتفاخر…
أما الآن؟ فقد غمره التحوّل المفاجئ.
“ابتعدي.”
لوّح لها بيده ليصرفها.
“ستلجأ للنوم؟”
“بل سأغوص في فلسفة المال لدى البشر.”
لكن جوديث لم تبتعد، بل بدأت تعبث بكتفه.
“هل هذا وقت الفلسفة؟ علينا التفكير كيف نجعل القتال أكثر إثارة، والرهانات أعلى.”
“لستِ من سيتقاتل غدًا.”
“وإن فعلتُ، فاعلم أنني أعتزل.”
وضعت يدها على بطنها، وانحنت قليلًا ثم غادرت.
لن تفعلها.
لا أعلم ما الذي لن تفعله، لكنها لن تفعلها.
استلقى إيرن على السرير، وأصغى إلى أصوات جوديث من خلف الباب المفتوح جزئيًا.
مدّ يده، وخدش صدره حيث لامس شعرها جلده، فشعر بوخزٍ غريب.
القتال معتاد، والنصر متوقع.
لكن… هل سبق أن أسعد فوزه أحدًا؟
خاض عشرات المعارك، وربحها، لكن لم يشاركه أحد فرحته… حتى اليوم.
لم يكن ذلك غريبًا سابقًا، لكنه الآن يشعر بالغربة من فرحة جوديث.
إن فاز غدًا، هل ستفرح مجددًا؟
خطرت ابتسامتها في باله، فارتجف.
هل أصبحت تعنيه فعلًا؟
تنهد ضاحكًا.
“ربما اعتدت وجودها… كوننا نعيش تحت سقف واحد.”
هكذا هي الألفة، تُخدع بها تدريجيًا.
حتى امرأة ترسل زوجها لساحة قتال غير شرعية، قد تبدو مثيرة للشفقة إن ابتسمت.
“هل أنا طبيعي؟”
بدأ إيرن يشك في سلامة عقله.
—
“نعم… نعم، إيرن، لا، سيدي إيرن… لقد انتهى الأمر!”
كانت جوديث تحتضن كيس الذهب، تحدّق به بعينين دامعتين.
مرّت خمسة أيام منذ دخوله الحلبة، ولم يخسر مرة واحدة.
رهاناتها كانت رابحة، وجيوبها امتلأت.
مرّ أحد اللاعبين بجانبه وقال:
“ستفوز مجددًا، أيها النحيل!”
تجهّم إيرن.
“إن كان ينتصر دائمًا، فلماذا لا يزال لقبه ‘النحيل’؟ لماذا لا يُقال له ‘القوي’ أو ‘الفائز الدائم’؟”
“ما هذا، أطفال؟”
“أم أن ‘النحيل’ يناسبه؟”
“أفضل من ‘القذر’.”
أليست هذه مبالغة؟! لم يختر هذا اللقب أصلًا!
لكن جوديث لم تعبأ باعتراضه، بل اندفعت نحو منصة الرهان بعينين تلمعان بالحماسة.
“سنفوز بهذه المباراة أيضًا، إيرن!”
قبضت بيديها بحماسة وانطلقت بخفة.
هل ستتحوّل إلى نسخة من شقيقها؟ يا للأسف…
وبينما كان إيرن يدخل غرفة اللاعبين، سمع صوتًا غريبًا خلفه:
“قالوا… إنها جثة خالدة؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ33
“قالوا إنها جثة خالدة؟”
“هل شيء كهذا موجود فعلًا في هذا العالم؟”
توقف إيرن عن الجلوس على الكرسي الخالي حين تسللت إلى أذنه نبرة كين الحادة، كأنها قبضة من حديد.
“عن أي جثة تتحدث؟”
“آه؟ جثة غير قابلة للتحلل؟”
جثة لا تتعفن.
رغب إيرن في استجوابه فورًا ليعرف مكانها، لكنه تمالك نفسه حتى لا يبدو مريبًا.
سأل متظاهرًا بالهدوء:
“هل توجد جثة خالدة حقًا؟”
“نعم، ستُعرض في المزاد.”
“مزاد؟”
ضحك كين ساخرًا وقال:
“لا عجب أنك لا تعرف، فأنت جديد هنا.”
كان صاحب الحلبة يدير أيضًا دار مزاد غير قانوني، وغالبًا ما كان يستعين بلاعبي الحلبة كحراس هناك.
كين نفسه عمل عدة مرات معهم، وأثناء جلسة سُكر مع مدير المزاد الذي صار صديقه، سمع منه عن جثة خالدة ستُعرض قريبًا.
“قالوا إنها ستُطرح في المزاد هذا الأسبوع.”
“وكيف يمكنني دخول المزاد؟”
“كضيف؟”
حك كين رأسه بينما أومأ إيرن.
“تحتاج إلى دعوة خاصة، ولا أعرف من أين تحصل عليها.”
“حتى لو عرفنا، أشخاص مثلنا لن يُسمح لهم بالدخول كضيوف.”
ضحك اللاعبون الآخرون ساخرين:
“الطريقة الوحيدة لدخولنا المزاد هي أن نعمل فيه، أيها المبتدئ.”
لكن لاعبًا آخر، وهو يضغط بإصبعه، قاطعهم قائلًا:
“مهلًا، أيها النحيل، إن فزت هذه المرة، ستكون فزت خمس مرات متتالية، أليس كذلك؟ هناك تقليد يقول إن من يفوز خمس مرات، يحصل على شراب مع المدير.”
“وماذا في ذلك؟”
“اطلب منه دخول المزاد حينها.
ربما يسمح لك بالدخول لمرة واحدة.”
انتصار واحد إضافي فقط، وسينال فرصته.
وكانت تلك، حتى الآن، أقصر الطرق إلى الجثة الخالدة.
جثة خالدة… هل هي من صنع أتباع أولئك الكائنات؟
ربما إذا تتبع مصدرها، سيعثر على معقل أولئك الأتباع.
حتى وإن لم يحدث ذلك، فقد يكتشف سبب عدم تحلل جسده.
لكن، عليه أولًا أن يراها بعينيه.
—
في اليوم التالي:
“أيها النحيل، أبذل جهدك هذه المرة أيضًا!”
“إلى متى سأظل نحيفًا، هه، هذا يكفي.”
دخل إيرن الحلبة، بينما كان المذيع بالخارج يصرخ معلنًا قرب انتهاء وقت المراهنات.
استند إلى عمود في زاوية الحلبة، وأخذ يتفحص الحشد بعينيه، فرأى شعرًا بنيًا مربوطًا بإحكام على شكل ذيل حصان صغير.
كان رأس صغير يتنقل بين الرجال الكبار، يضع الرهانات بحماسة.
وهو ينظر إليها بتسلية، صفّق الحكم بيديه:
“استعدوا! استعدوا!”
وعندما انتبه، كان الخصم قد بدأ التسخين.
لف إيرن كتفه بخفة استعدادًا، لكنه توقف فجأة عند سماع ضوضاء شديدة.
“ما هذا؟”
اتجه بنظره إلى مدخل الساحة.
الضجيج يزداد وضوحًا.
“صوت حوافر خيل؟”
لم يكن وحده من لاحظ، فقد تبادل الآخرون النظرات بقلق.
“مداهمة!
إنهم يداهمون المكان!”
وما هي إلا لحظة حتى بدأت الأرض تهتز تحت الأقدام.
سُمعت أصوات الحوافر تتبعها صرخات وتحطيم أشياء.
“أهربوا!!”
تحول النداء إلى إشارة فوضى.
هرع الجميع إلى الباب الخلفي، يتساقطون ويتصادمون.
إيرن جال بعينيه يبحث عن جوديث.
“أين أنتِ بحق الجحيم؟”
كانت جوديث تقاوم تيار الناس الهاربين، بالكاد توازن خطواتها.
“إلى أين ذهبت تلك الحقيبة؟!”
اللعنة!
أطلق إيرن سبة وهو يشق طريقه خارج الحلبة، شاقًا الزحام حتى أمسك بجوديث.
“ما الذي تفعلينه؟ تعالي بسرعة!”
“انتظر لحظة، نقودي، إنها هناك!”
أشارت إلى رجل يهرب ومعه حقيبتها.
“هل المال أهم من حياتك؟ لو سقطتِ الآن فلن يعثروا حتى على عظامك!”
ولم يكن ذلك مجرد مجاز.
“أرجوك، إيرن، نقودي! إنها كل ما أملك!”
رفع إيرن جوديث وسحبها معه من الباب الخلفي.
ثم غيّر اتجاهه ليتجه مباشرة نحو القوات المداهمة.
“تصرّفي وكأنكِ لستِ مذنبة.
خذي نفسًا عميقًا وامشي بجانبي وكأننا زوجان.”
رفع ذراعها ولفها حول ذراعه، ثم…
وقفت أمامهم فرس، وصرخ فارسها:
“توقفا! رأيتكما تخرجان من الحلبة.
ارفعا أيديكما واستديرا.”
كان إيرن على وشك الانقضاض عليه وسرقة الفرس، لكنه تجمّد عند سماع صوت مألوف.
رفعت جوديث رأسها ببطء.
“… السير هنري؟”
ابتسمت بخجل.
“الكونتيسة؟ إيرن؟”
فرك هنري عينيه ونظر إليهما مجددًا بدهشة.
لحظة صمت مرّت بينهم كأنها دهر.
من بين الجميع… هنري؟
غمر إيرن شعور بالخزي والعار.
“حقًا يا إيرن؟”
“أنت لم تكتفِ بالموت والعودة،
بل صرت تتورط في كل هذه الفوضى؟”
تنهد هنري ومسح وجهه بيده، ثم أشار بيده:
“اذهبا، بسرعة.”
هرب إيرن دون كلمة، وهو يجر جوديث خلفه.
بينما تابع هنري صديقه بنظرة معقدة.
“… دفعت مقابلها ذهبًا.
ذهبًا كاملاً.”
—
بعد عدة أيام:
“يجب أن تلمس شفتيك، هكذا.”
زمّت جوديث شفتيها بضيق بينما كانت تحاول التظاهر بأنها بخير.
هز إيرن رأسه وضغط برفق على شفتيها المزمومتين.
“ستعضين إصبعكِ هكذا.”
“انسَ الأمر، لا تذكره مجددًا.”
“لا يمكن، لقد خسرنا بلا فائدة.”
قالت:
“تحدث بدقة، يا سيد إرنست.
لم نخسر، فقط فقدنا شيئًا… وكان يمكن تعويضه.”
هي محقة. خسرت رهاناتها الأخيرة، لكنها جنت أرباحًا تكفي لتسديد فوائد ثلاثة أشهر، وتكاليف المعيشة، وشراء مواد بحثها.
لكن كلما تذكرت تلك الأموال، كانت تتألم وكأن قلبها انكسر.
“فكرت في الذهاب بك إلى حلبة أخرى، لكن…”
صرخ إيرن:
“لا تذكري حتى كلمة ‘حلبة’.
أسمعها وسأعتبرها طلاقًا رسميًا!”
من الواضح أنه لا يزال يشعر بالخزي من هروبه من الشرطة ولقائه بهنري.
“فكر في العمل الشريف لكسب المال.”
“أنت آخر من يحق له قول ذلك.”
“ارخي حاجبيك، ستظهر التجاعيد.”
ضغط على جبينها بخفة، فدفعت يده وسألت:
“لكن إيرن، ألم تقل إنك ستذهب لرؤية الجثة الخالدة اليوم؟”
—
كاد المخطط ينهار، لكن إيرن تمكن أخيرًا من التسلل إلى دار المزاد بأمان.
وكان لكين، ذو القبضة الفولاذية، فضل كبير في توظيفه هناك كحارس.
حين أخبر إيرن جوديث بذلك، تهلّل وجهها فرحًا:
“هل أصبح لدي زوج يتقاضى راتبًا؟!”
“ليومٍ واحد فقط.”
“تمنيت لو استمريت.”
لكن لسبب ما، هذه المرة، لم يرغب إيرن في تلبية أمنياتها.
فمن الممتع رؤية شفتيها الممتعضتين وهي تقول:
“ولمَ أتقاضى راتبًا وأنت تطعمني؟”
**
عُيّن إيرن كحارس، مما منحه فرصة لرؤية المعروضات عن قرب.
وقبل بدء المزاد، أخذه مدير المزاد إلى المستودع ليتفقد البضائع.
مرّا على الكثير من المقتنيات الغريبة والباهظة، حتى وصلا إلى… “هي”.
قال مدير المزاد بحماس:
“التحفة الأهم اليوم! الجثة الخالدة!”
تابوت خشبي قديم، باهت من أثر الزمن.
صفق المدير بفرح، ففتح عاملان غطاء التابوت.
كيييك—
صدر صوت ثقيل ومزعج.
لم يُفتح الغطاء بسرعة، بل ارتفع ببطء، فتطاير منه غبار كثيف.
“آخ، الغبار…”
غطى إيرن أنفه وفمه بقطعة قماش سوداء، وسعل مرارًا.
فقط بعدما تلاشى الغبار، تمكّن من النظر إلى داخل التابوت…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ34
“إذًا لم تكن جثة طازجة مثل جثة إيرن، بل كانت جثة مشوّهة؟”
“نعم.”
قد يبدو غريبًا وصف جثة بأنها “طازجة”، لكن ما رآه إيرن لم يكن قريبًا حتى من هذا المفهوم.
رغم أنه ذهب بنفسه ليفحصها، بل وتولى مرافقتها، فإن ما واجهه لم يكن سوى جثة محنطة مشوّهة.
كانت محفوظة جيدًا، ملامح الوجه واضحة، الشعر والأسنان في أماكنهم، لكن لم تكن تلك “الجثة الخالدة” التي سعى خلفها…
الجثة التي تخيلها نابضة بالحياة.
“لقد أكلت الكثير من الغبار.”
“وما زال عالقًا.”
“حقًا؟”
على الرغم من محاولاته المتكررة لنفضه، ظل الغبار ملتصقًا بثيابه.
خلع قميصه ونفضه من النافذة.
“آه، الغبار…”
اندفع الغبار الكثيف إلى الداخل مع الرياح، فاستنشقته جوديث وسعلت وهي تلوّح بيديها لإبعاده.
“كان من الأفضل لو ابتلعناه دفعة واحدة.”
أومأ إيرن موافقًا، ثم توقف بينما كان يطوي قميصه ويضعه في سلة الغسيل الممتلئة حتى حافتها.
نظر كل من جوديث وإيرن إلى السلة وتنهد كلاهما في اللحظة نفسها.
منذ اختفاء الحشرة الذهبية، والقصر انقلب إلى فوضى تامة.
نوافذ مغبّرة، أرضيات مكسوة بالأتربة، أعشاب ضارة تنبت داخل الردهات، وخيول تتجول بحرّية وتضرب أبواب الإسطبل المهجور.
رغم جهودهما، كان من المستحيل على شخصين فقط تنظيف قصر بهذا الحجم.
اتفقا — أو بالأحرى استسلما — على الاكتفاء بتنظيف المطبخ والحمام وغرف نومهما.
“…لا يمكنني تأجيل الغسيل أكثر.”
“نحن بحاجة إلى خادم.”
“هذا قصر هرب منه جميع الخدم.”
نظرت جوديث إلى القصر المنهار بهدوء، ثم هزّت رأسها بيأس، كأنها تسلّم بأن المحاولة باتت بلا جدوى.
“لكن كيف تحوّلت تلك الجثة إلى مومياء؟”
“قالوا إنه ارتكب خطيئة عظيمة.”
تذكّر إيرن ما سمعه من المسؤول عن المزاد.
“قالوا إنه من قبيلة تؤمن بحاكم قديم في صحراء بعيدة… أما الخطيئة، فلا أحد يعرفها، فالسجلات فُقدت… لكنها بالتأكيد كانت عظيمة.”
عادةً ما تحرق تلك القبائل جثث موتاها، إيمانًا بأن الجسد يجب أن يزول ليولد مجددًا في حضن الحاكم.
لكن تحنيط الجثة ومعالجتها بمواد تحفظها، يشير إلى أنها ارتكبت ذنبًا لا يُغتفر.
“أظن أنه ارتكب جريمة قتل.”
“ومن قد يرغب في شراء جثة كهذه؟”
“سمعتُ أنك اشتريتها.
وكانت بـ200 قطعة ذهبية.”
“واو، هل بدأ المال يتعفّن لدينا؟”
تفاجأ إيرن قليلًا، فقد قال نفس الشيء بالضبط حين رأى المشتري.
يبدو أن العيش المشترك جعلهما يتشابهان في التفكير.
قرر أن يتوخى الحذر… لا يجوز أن يشكّلا جبهة موحدة في هذا القصر الموحش.
“دعنا ننام الليلة بإضاءة خافتة.”
قالها إيرن حين رأى الشمعة التي أحضرتها جوديث، والتي ما زالت تحملها منذ استقباله.
تسللت بها إلى غرفته محاولةً إشعالها دون أن يلاحظ.
قبل يومين، أتمّت جوديث أول نموذج من شموعها المعطرة، وكانت تشعل واحدة في غرفتها وغرفته كل ليلة لتجربة الرائحة.
“أغمض عينيك جيدًا وستشعر بالظلام، أليس كذلك؟”
“لكن النور لا يزال موجودًا.”
“إذن أدر ظهرك له.
الرائحة ستكون مريحة أثناء النوم.”
رغم تذمره، وضعت الشمعة على الطاولة بعزم.
وما إن أشعلتها، حتى انبعثت رائحة خفيفة من اللافندر في المكان.
“إذن، خذ قسطًا من الراحة.”
غادرت الغرفة وهي تشعر بالرضا، غير آبهة بتنهيدات إيرن.
أزاح شعره جانبًا متأففًا، وعبس حين شعر بالغبار عالقًا فيه.
“مهما غسلت جسدي، لا يزول الغبار.”
لا نتيجة… فقط غبار لا ينتهي.
نهض إيرن وهو ينفض الغبار عن ثيابه، بملامح لا توحي بالراحة.
تلك الجثة التي قيل إنها اقترفت خطيئة عظيمة ولم يُسمح لها بالتحلل…
لماذا؟ هل كان ذلك عقابًا؟ هل أراد أتباع الحاكم منعها من الراحة الأبدية؟
أم ربما تم تحنيطها عمدًا لأجل بيعها؟ إن كان المشتري مثل كليف، فلا شك أن المال كان ذا أهمية.
“إذا كانت الجثة المشوّهة تساوي 200 قطعة ذهبية، فجثة تُشبه الأحياء قد تساوي ألفين.”
كره أن يعترف بهذا، لكن مظهره كان يستحق هذا الرقم.
إذًا، لماذا تُرك في الغابة؟
كلما فكّر، زاد ارتباكه.
لم يكن يتوقع نومًا هادئًا، فأمسك بزجاجة شراب.
رفع الزجاجة نحو ضوء القمر وهمّ بصبّها في كأس.
“يبدو أن النبيذ ناقص قليلًا…
هل سرقته جوديث وأنا غائب؟”
تمتم ساخرًا وهو يشرب، ولو كانت جوديث تسمعه، لانزعجت بلا شك.
رائحة اللافندر ما تزال عالقة في الهواء، حتى وسط مرارة الشراب.
—
بعد ثلاثة أيام، وكانت شموع جوديث توشك على النفاد، جاءه هنري بوجه شاحب مرهق.
وبدون مقدمات، سأله:
“هل أنت بخير؟”
“الأجدر بي أن أطرح عليك السؤال.
هل الشرطة مشغولة مؤخرًا؟”
فحصه إيرن بعين قلقة.
عيناه غائرتان، بشرته باهتة، وقميصه المرتب دائمًا صار مجعدًا.
حتى أبرد الأشخاص لم يكن ليتجاهل مظهره.
تنهد هنري ومسح وجهه براحة يده.
“تتذكر دار المزاد غير القانوني الذي بلّغت عنه؟ داهمناه وألقينا القبض على بعض المتورطين.”
من بينهم، ذلك المسؤول عن المزاد الذي رافقه إيرن سابقًا.
“ذلك الرجل… خرج سريعًا؟
كان يزعم أنه يعرف عددًا من النبلاء.”
وبالفعل، أُطلق سراحه بسرعة.
“ليته اكتفى بالخروج، لكنه… إيرن، لقد مات.”
“ماذا؟”
“أصيب بحمى شديدة أثناء الاعتقال، أخذ يهذي ثم… مات.”
استُدعي طبيب، لكن دون فائدة.
“ولم يكن وحده. أربعة من العمال، الفيكونت هوستليتون، وثمانية من خدمه… كلهم ماتوا أو ظهرت عليهم نفس الأعراض.”
“الجميع؟”
“نعم.
حتى البارون بيتو، الذي حضر المزاد معه، حالته حرجة.
وحراسه ماتوا كذلك.”
كان هنري قلقًا على إيرن لأنه كان من الحاضرين أيضًا، فقرّر الاطمئنان عليه بنفسه.
“هوستليتون رجل قصير بلحية طويلة؟”
“نعم، هو.
اعتقدنا في البداية أنها عدوى، لكنها لم تنتشر بعد ذلك.”
وهنا، ومن بين أسماء الموتى، تذكّر إيرن شيئًا بالغ الأهمية.
المزادجي، العمال، الفيكونت وخدمه، البارون وحراسه… جميعهم لمسوا الجثة أو اقتربوا منها.
“لا أعتقد أنها عدوى تقليدية.”
“بل ماذا إذًا؟”
“كل من مات كان على تماس مباشر أو قريب من الجثة المحنطة.”
الفيكونت والبارون شاهداها بعد المزاد، الخدم رافقوهما، حتى الحراس شاركوا بالمعاينة.
“تظن أن المومياء كانت السبب؟”
“إن لم تتوسع دائرة الإصابات، فهي السبب الأقرب.”
“لكن… لماذا لم تُصب أنت؟”
“لأني قوي.”
رمش هنري بدهشة من هذا الرد.
“سأعتبره تفسيرًا مؤقتًا… لكن هناك شيء لم نفهمه.
خادمة الغسيل لدى البارون بيتو أُصيبت بالأعراض نفسها، رغم أنها لم تحضر المزاد قط.”
“هممم…”
“هل يمكن أن تكون لعنة المومياء؟”
قالها هنري وهو يربّت على صدره بقلق.
“هل تعتقد أن الجثة تلعن خادمة الغسيل من باب الملل؟ توقف عن هذا الهراء، وابحث جيدًا إن كانت اقتربت من الجثة بأي طريقة.”
غادر هنري للتحقيق مجددًا.
حتى تلك الليلة، ظل إيرن غارقًا في التساؤل… لماذا هو بخير بينما الخادمة مريضة؟ وهل كانت الجثة حقًا السبب؟
وأثناء انشغاله بالتفكير، سمع صهيل حصانٍ وهمهمات في الخارج.
“ما الذي أيقظه في هذا الوقت؟”
ربما تسلل ثعلب؟ نهض إيرن وتوجه إلى النافذة.
وما إن مدّ يده لفتحها، حتى سمع طرقًا خفيفًا على الباب.
طرقات هادئة… ثم صوت.
“هل السير إيرن هنا؟”
كانت جوديث.
أخبرته سابقًا أنها ستتوقف عن إشعال الشموع عند النوم، لكنها على ما يبدو أرادت تجربة أخيرة.
ردّ دون تفكير:
“طبعًا، أنا هنا.
إلى أين سأذهب في هذا الوقت؟ أأنتِ في غرفتي مجددًا…”
فتح الباب فجأة وهو يتحدث… ثم تجمّد.
لم يكن هناك أحد.
فقط الرياح، والغبار المتطاير.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ35
في اليوم التالي، استيقظ إيرن متأخرًا على غير العادة.
كان يشعر بثقل في رأسه وحالة مزاجية سيئة.
أمسك بجوديث، التي كانت تتحرك بنشاط منذ الصباح الباكر، وسألها بصوت متعب:
“هل جئتِ إلى غرفتي الليلة الماضية؟”
“الليلة الماضية؟
لا، كنت متعبة جدًا، فنمت مبكرًا.”
ردّت جوديث بنبرة صادقة.
لم تكن من النوع الذي يكذب في أمر كهذا، مما جعل إيرن يتساءل: ماذا حدث إذًا؟ هل كان مجرد حلم؟
استعاد شريط الليلة الماضية في ذهنه.
كان قد سمع صوت جوديث، ففتح الباب… لكن لم يكن هناك أحد.
أو لعلّه لم يفتح الباب أصلًا؟
ذاكرته كانت مشوشة، كما لو أنه أسرف في الشرب.
ربما كان حلمًا لا أكثر—أن يسمع صوتها، ويخرج من غرفته.
وأثناء انشغاله في التفكير، وضعت جوديث يدها على جبينه.
“ما الأمر؟”
“إيرن، أعتقد أنك مريض فحرارتك مرتفعة.”
“حرارتي مرتفعة؟”
أبعد يدها، ثم لمس جبينه، ثم جبينها هي.
كانت يدها باردة، بينما جبينه كان ساخنًا فعلًا.
“أعتقد أنك أصبت بالبرد.”
لم يحدث قط أن أُصيب بالزكام، حتى عندما كان يقف تحت المطر في عزّ الشتاء.
هل بدأ يضعف لأنه توقف مؤخرًا عن التدريب؟
لكن مهلاً… هل هو مجرد برد؟
“لا تلمسيني.”
سحب يده بسرعة عن جبينها، فتبدّى الارتباك على وجهها.
“أنت من لمسني، أليس كذلك؟”
“قد تنتقل إليكِ العدوى.”
“بالطبع، لأنك مريض.”
“لا…”
مرر يده بين شعره في توتر، ثم أمسك برأسه الذي يؤلمه.
اللعنة… هذا بالضبط ما حذّر منه هنري.
مرض مجهول، لا يُعرف مصدره، ولا يوجد له علاج، سواء أكان عدوى أم نوعًا من الجراثيم الغامضة.
—
بدأ كل شيء بحمى خفيفة.
في البداية، كان إيرن يتحدث بشكل طبيعي مع هنري، الذي جاء لزيارته فور تلقيه الخبر.
“لا يبدو أنه وباء.
لم تُسجَّل حالات جديدة.
لكن، فقط احتياطيًا، كوني حذرة يا آنسة.”
سمعت القصة كاملة من هنري.
يبدو أن من اقتربوا من المومياء أو لمسوا جثتها، تلوّثوا بجراثيمها.
بعضهم مات، بينما آخرون لم يُصبهم شيء.
لذا أوصوا بالحذر.
“لكن الأمر غريب.
إيرن كان بخير… لماذا تدهورت حالته فجأة؟”
بحسب تقرير الشرطة، فإن جميع المصابين ظهرت عليهم الأعراض في اليوم ذاته.
لكن حمى إيرن بدأت متأخرة.
هل يعني هذا أنها ليست بسبب المومياء؟ ربما مجرد نزلة برد؟
لكن للأسف، كانت تلك مجرد أمنية ساذجة.
ففي اليوم التالي، اشتدت الأعراض.
كانت الحمى تتأرجح بين الارتفاع والانخفاض، أما وعي إيرن فلم يعُد.
“إيرن، هل أنت نائم؟”
“…”
لم يصلني أي رد.
فتحت الباب قليلًا. كان ممددًا على السرير دون حراك.
وضعت صينية العصيدة وخافض الحرارة على الطاولة، وعدتُ حاملة حوضًا من الماء البارد ومنشفة.
“جسده… جسده يغلي تمامًا.”
لمست جبينه بحذر، وعضضت شفتَي من شدة الحرارة المنبعثة من جلده.
بهذه الحرارة، حتى شخص قوي كإيرن لن يصمد.
“ما نوع الجراثيم التي حملتها تلك المومياء؟”
كان الهدف هو دراسة جثة لم تتحلل، لكنها تسببت في وقوع ضحايا.
“…”
تنفّسه كان غير منتظم.
بدا غريبًا أن أراه ممدًا هكذا، وهو الذي لم يتغير تعبير وجهه حتى عندما طُعن بسكين مسمومة.
مسحت جبينه وعنقه بمنشفة مبللة.
لكن الحمى كانت شديدة، لا تنخفض حتى بالكمادات.
فتحت أزرار قميصه بحذر.
صدره الذي كان يعلو ويهبط بصعوبة، كان ساخنًا كالجمر.
تنزلق المنشفة من عنقه إلى صدره، ومن جانبه إلى عضلات بطنه.
“ما جدوى كل هذه العضلات؟ لا تستطيع حتى هزيمة الحمى.”
هل يجب أن أخلع سرواله أيضًا؟ وضعت يدي على فخذه.
حتى من فوق القماش، كان جسده دافئًا للغاية.
“…”
عليّ أن أخلعه.
أعلم أن الأمر يبدو منحرفًا، لكنني لا أفعل هذا لأي غرض خاطئ.
إنه لأجل علاجه.
لقد رأيت جسده من قبل.
الأمر ليس جديدًا.
وبالطبع، لا أنوي تعريته بالكامل.
فقط السروال… فقط هذا…
“ماذا تفعلين؟”
بمجرد أن لمست أطراف سرواله، أمسكت يده الساخنة بمعصمي.
حرارة بشرته اخترقت جلدي فورًا.
“لماذا في كل مرة أغيب فيها عن الوعي وأستيقظ، أراك تفعلين هذا؟”
كان صوته مخنوقًا بأنفاس ساخنة ومتقطعة.
“كيف لي أن أستريح وأمرض بسلام هكذا؟”
على الأقل، لا يزال حيًا بما يكفي ليمزح.
“ماذا تقول؟ أنا فقط أعتني بك.”
“أي ممرضة تبدأ بإزالة الملابس؟ هذا يُعد تحرشًا يا آنسة هارينغتون.”
“تشه، حتى وأنا أعتني بك…”
تمتمت باستياء، ورميت المنشفة في الحوض، ثم رفعت صينية الطعام.
“إن كنت قادرًا على المزاح، فتناول هذه العصيدة.”
جلس إيرن بصعوبة، وأسند ظهره إلى السرير، وكأن الحركة تستهلك منه طاقة هائلة.
تأمل العصيدة الدافئة بلا اهتمام.
لم يكن لديه شهية، ولا حتى الرغبة في التذوق.
ومع ذلك، أمسك بالملعقة.
لم يستطع تجاهل اهتمام جوديث، التي أعدت له الطعام رغم انشغالها بكل ما حولها.
كانت العصيدة لطيفة في فمه، بطعم مقبول، وهو أمر نادر هذه الأيام، حيث بات كل شيء كالرمال.
لكن رغم ذلك، قال بصوت أجش:
“طعمها سيئ.”
“ومن قال إن العصيدة تؤكل من أجل الطعم؟ هي تؤكل لتبقى حيًا.”
لم تكترث جوديث لتذمره، فهما لم يعتادا المجاملات الرقيقة.
“كُلها، ثم تناول الدواء.”
“ولماذا؟”
لماذا؟ هل يحتاج المريض إلى تفسير ليأخذ دواءه؟
نظرت إليه بدهشة.
“ألن يكون من الأفضل لكِ، آنسة هارينغتون لو متُّ؟”
حتى إيرن لم يفهم سبب قوله.
ربما أراد القليل من الدلال.
لكنه في أعماقه، كان يتساءل…
في وضع كهذا، جوديث ستكون الرابحة إن مات: لا طلاق، لا نفقات، وستحتفظ بكل العائد من بيع القصر.
بمعنى آخر، بقاؤه حيًا يعني خسارتها.
فلماذا تفعل كل هذا لأجله؟ وهي التي تكره الألم أكثر من الموت؟
“أظن أنه يستحق البقاء حيًا… طالما العصيدة مليئة بالحبوب.”
ظنت جوديث أنه يمزح، فتجاهلت كلماته.
“خذ الدواء.”
“…”
“هل هو مرّ أم حلو؟ يقولون إن الدواء النافع غالبًا ما يكون مرًّا.”
“لم أسمع هذا من قبل.
هل اختلقتِه للتو؟”
“ألا يوجد هذا المثل هنا؟”
هزّت رأسها، ثم أزاحت الصينية.
بدأ تأثير الدواء يظهر على إيرن، وعيناه تغلقان ببطء.
“انتظر، إيرن.
بدّل ملابسك، ثم نم.”
كانت المنشفة قد بللت قميصه.
لم تكن قادرة وحدها على مساعدته في تغييرها.
حاول خلع القميص بصعوبة، ومال بجسده مبتعدًا عنها.
“أأنتِ متأكدة أنكِ لا تختلقين الأعذار لإشباع رغباتك؟ لا يُفعل هذا بمريض.”
جزّت جوديث على أسنانها وهي تراقبه يتجرد من قميصه.
“أيمكنك فقط لفّ نفسك بالبطانية؟!”
—
هل هذه هي “كثرة الكلام دون أفعال”؟
تذمّر من مرارة الدواء، ثم غرق في النوم.
بات وقت يقظته ينكمش يومًا بعد يوم.
رفعت الحوض، ونهضت.
“كم أن أكمامي مبتلّة.”
كنت أبلّل المنشفة مرارًا، حتى تبللت ملابسي.
ذهبت لتبديل ثيابي.
“ماذا كنت تقصد، إيرن؟”
ألن يكون من الأفضل لكِ لو متُّ؟
عادةً ما يمزح بهذه الطريقة، لكن في ظل هذه الظروف… بدا كأنه يوصي بشيء ما.
وخزني شيء في صدري.
لم أعد واثقة إن كان جادًا أم لا.
حين عاد إيرن إلى الحياة أول مرة، لم أكن سعيدة.
بسبب عودته، اضطررت لتقاسم المال الناتج عن بيع اللقب والقصر، والذي ظننته لي وحدي.
لكن الآن، لو سألني أحد إن كنتُ ما زلت أظن أن موته أفضل…
“لا أعلم.”
ربما سيكون من المحبط اقتسام ثمن القصر لاحقًا، لكنني لم أتمنّ موته مرة أخرى منذ ذلك اليوم.
لا، لا أريد أن يموت.
في لحظة ما، اعتدت العيش مع إيرن.
نستيقظ صباحًا، نتشاجر، نأكل معًا، ونتقاسم المهام.
لو مات، سأبقى حيّة، لكنني سأأكل بصمت، وأعيش دون أي ضحكة.
ربما يبدو الأمر بسيطًا، فقد اعتدت هذا طوال حياتي، لكن مع ذلك…
“لا أريد أن يموت إيرن.”
هذا هو شعوري الحقيقي.
ربما كان عليّ قول ذلك له، أن أخبره بحقيقة مشاعري…
“أوه… أوه…”
لكن، مجرد تخيل قولها يبدو غريبًا.
مستحيل أن أتفوه بكلمات كهذه.
حككت ذراعي بلا سبب.
في اللحظة التي نهضت فيها لأطفئ الشموع وأعود إلى غرفة إيرن—
“هيييييييينغ—”
صهيل عالٍ لفرس في الحديقة.
“انظر إلى هذا الحيوان المدلل، يأكل طعامًا باهظًا ويسهر بلا سبب.”
ليس من الطبيعي أن تسهر الخيول… فلم لا ينام؟
تنهدت، واتجهت إلى النافذة لأطمئن، خصوصًا أن ذلك الحصان ثمين للغاية.
“ما القصة؟ لماذا يصهل عندما يراني؟”
الأمر غريب.
في تلك اللحظة، أملت رأسي.
طق طق.
طرقات على الباب.
طق طق.
لا أحد يطرق باب هذا القصر.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ36
طرقة… طرقة…
دقٌّ متكرر على الباب.
طرقة… طرقة…
من هناك؟
أدرت رأسي، لكن الحصان أطلق صهيلاً خافتًا وراح ينبش الأرض بحافريه الأماميين.
لم نكن نفهم لغة بعضنا، لكن حدسًا غريزيًا تسلل إلى قلبي، وكأن الحيوان يحذرني: لا تفتحي الباب.
ترددت، عاجزة عن الحراك، ثم دوّى الطرق مجددًا.
طرقة… طرقة…
“آنسة هارينغتون، هل أنتِ هناك؟”
كان صوت إيرن.
طرقة… طرقة…
استمر الطرق.
ازدردت ريقي بصعوبة.
كان صوت إيرن، لا شك في ذلك.
ولكن… لا يمكن أن يكون هو.
مستحيل.
كيف له، وهو بالكاد يقوى على الجلوس بسبب الحمى، أن يقف على قدميه ويأتي إلى غرفتي؟
فما هذا الذي يقف خلف الباب؟
تجمدت مكاني، وكأن قدميّ التصقتا بالأرض.
طرقة…
“سيدتي، هل أنتِ في الداخل؟”
صوت السير هنري؟
شهقت برعب من تبدّل الصوت المفاجئ.
ثمة شيء يقلّد الأصوات!
“آنسة هارينغتون، هل أنتِ هناك؟”
وهذه المرة… صوت ابنة البارون بريكس؟ وضعت يدي على فمي بسرعة.
الكائن خلف الباب لم يتوقف عن تكرار السؤال ذاته.
كان لديّ إحساس قوي بأن عليّ التظاهر بعدم وجودي.
طرقة… طرقة…
ازداد الطرق عنفًا.
حبست أنفاسي، لم أجرؤ حتى على الزفير.
طرقة… طرقة…
تبدّل الصوت مجددًا، إلى صوت الماركيزة فيردي، ثم كليف.
“كونتيسة، هل أنتِ هناك؟”
طرقة… طرقة…
تحوّل الطرق إلى ضربات بقبضة غاضبة.
ارتجّ الباب تحتها، وأحكمت جوديث قبضتها على فمها.
“كونتيسة، هل أنتِ هناك؟”
ضرب ضرب
“آنسة هارينغتون، هل أنتِ بالداخل؟”
ضرب ضرب ضرب
“أنتِ هناك… أعلم أنك هناك…”
ضرب ضرب ضرب…
الباب يهتز كأنه سيسقط في أية لحظة.
شهقت رغماً عني، وهرعت نحو الإناء الكبير، أتنفس ببطء.
لم أكن واثقة إن كان سيفيد، لكنه الشيء الوحيد الذي استطعت الإمساك به.
…
وفجأة، حين لامست يدي مقبض الإناء، ساد صمت مطبق.
…هل رحل؟
ترنحت مكاني قبل أن تخونني ساقاي، فجلست على الأرض.
سال عرق بارد على ظهري.
عضضت شفتي دون وعي، خائفة أن يصدر مني صوت يعيد الكائن إلى الباب.
كم مضى من الوقت؟
لم أعد أشعر بمرور الزمن، حتى قطع صهيل الحصان سكون المكان.
صحوت من شرودي، وبدأ الخوف ينحسر تدريجيًا.
نظرت نحو النافذة.
كان الفجر يشقّ حجاب الظلام.
الحصان، الذي ظلّ يدور حول نفسه طوال الليل، توقف عند اقترابي.
ما الذي كنت تحاول تحذيري منه؟
جمعت شجاعتي وفتحت النافذة.
هبّت نسمة باردة، وعاد إلى ذهني وجه إيرن.
ترى، هل هو بخير؟
شعرت ببعض الطمأنينة، لأن حالته الصحية لا تسمح له بالنهوض، وبالتالي لم يكن هو.
فتحت باب الغرفة بحذر، وقلبي ما زال يرتجف.
كانت الردهة ساكنة تمامًا.
خطوت خطوة… ولم يحدث شيء.
عندها فقط تجرأت على التحرك.
كان ثمة شيء تحت قدميّ…
نظرت إلى الأسفل ببطء.
“…غبار؟”
لم يكن هناك سوى الغبار.
—
تدهورت حالة إيرن منذ البارحة.
السير هنري، الذي جاء لزيارته، لم يخفِ قلقه.
“أتساءل… هل كان لإيرن دور فيما حدث؟”
لقد عاد إلى الحياة كجثة لا تتحلل، ثم مات على يد جثة أخرى من ذات النوع.
“يا له من مصير غريب.”
تمتم السير هنري، وكأن عينيه توشكان على البكاء.
وفي تلك اللحظة، بدأ القلق يتسلل إلى قلب جوديث أيضًا.
“عذرًا، سير هنري…
هل ظهرت أعراض أخرى على المصابين، غير الحمى؟”
“أعراض أخرى؟”
تردد هنري، ثم قال:
“سمعت أن بعضهم راودته هلوسات سمعية.”
“هلوسات؟”
“نعم، أحدهم قال إن والدته المتوفاة كانت تطرق على بابه.”
والدته المتوفاة؟ شعرت جوديث بجفاف حلقها.
“فتح الباب، فلم يجد أحدًا.
وبدأت الأعراض تلك الليلة.”
تذكرت حين قال لي إيرن:
“هل جئتِ إلى غرفتي الليلة الماضية؟”
وتذكرت أنني سألته: “هل فتحت الباب؟”
وضعت يدي على جبيني.
لو لم يكن مريضًا، لفتحت الباب فورًا حين سمعت صوته.
“ما الأمر، سيدتي؟”
“لا شيء… فقط أفكر.”
تمتمت شاردة، وأخذت نفسًا عميقًا.
“أعتقد… أن السبب هو الغبار، يا سير هنري.”
هلوسات بأصوات مألوفة تطرق الباب.
سواء كانت هلوسات أم لا، فإن فتح الباب يبدو بداية كل شيء.
لكن يبدو أن الأعراض لا تبدأ إلا إذا فُتح الباب.
رغم أنني سمعت تلك الأصوات بالأمس، فإنني بخير اليوم، بلا حمى.
فكرت: إن كانت الهلوسات هي العلامة الأولى، فلا بد أن المصابين بها يتشاركون شيئًا.
ثم تذكرت الغبار المتراكم خلف الباب.
“غبار، نعم… الغبار.”
“هاه؟ غبار؟”
“نعم، عندما ذهب إيرن لرؤية المومياء، عاد مغطى بالغبار.
وعندما فُتح التابوت، تطاير الغبار في كل اتجاه.”
رغم أنه نظّف نفسه مرتين، بقيت آثار الغبار عالقة.
وكذلك حدث مع الفيكونت هوستليتون والبارون بيتو.
لا بد أن بقاياه ظلت في ملابسهم وشعورهم.
“بما أنهما رجلان، فقد بدّلت خادمتهما ملابسهما، أليس كذلك؟”
“نعم، خادمة الغسيل تهتم بذلك.”
لكن خادمة غسيل البارون بيتو… كانت قد ماتت.
رغم ذلك، يظل سؤال يراودني: لماذا تأخرت أعراض إيرن عن الآخرين؟ ولماذا لم أبدأ أنا بالهلوسة إلا بعد استنشاق الغبار؟
“على كل حال، اعذرني، سير هنري.
لدي مشوار اليوم.”
رغم كثرة الأسئلة، كان عليّ أن أخرج.
“لا تقلقي واذهبي، سيدتي.”
جمعت أغراضي واستعددت للمغادرة.
حتى وإن كان إيرن مريضًا، فالعمل لا ينتظر.
سميث لن يعفيني من فوائد الديون بسبب مرض إيرن.
بل العكس، سأحتاج إلى مالٍ أكثر لشراء دوائه.
رغم أن الطلبات انخفضت إلى النصف منذ رحيل الخنفس الذهبي إلى ليون، لم يتوقف الدخل كليًا.
فقط المتعاونتان الدائمتان، البارونة ليلى بريغز والماركيزة فيردي، ظلّتا تشتريان الشموع مني.
“هل يمكنك شراء خافض للحرارة؟ الزجاجة نفدت.”
“بالطبع.”
لكن خافض الحرارة لم يعد نافعًا.
لم أعد قادرة على إعطائه له.
الحمى ليست المرض، بل عرض فحسب.
هناك أمر آخر.
مومياء، غبار، كائن يقلّد الأصوات…
هذا لا يُعالج بالدواء.
من أين نبدأ؟
بينما كنت أفكر، وصلت إلى قصر البارونة بريغز.
حاولت تسليم البضاعة والانصراف سريعًا، لكن
ليلى منعتني.
“آنسة هارينغتون، تعالي معي.”
“إلى أين؟”
بعد أن ارتدت ملابسها، قادتني إلى العربة وكأن الأمر طبيعي تمامًا.
“أعرف مكان الوسيط الروحي الذي باعني ذلك الخاتم.
لا يمكنني السكوت بعدما كدت أتعرّض للخطر بسببه.”
بدت ليلى متجهمة وهي تستعيد ذكرياتها.
“لكن، لماذا آتي أنا؟”
“لأنكِ شريكتي.
وأنتِ من أكّد هوية الخاتم من وسيط آخر.
تعالي، لنبحث معًا.”
“أرغب في ذلك، لكن لدي أعمال اليوم…”
“سأدفع لكِ أجر يوم.”
“اتفقنا.
سأتأكد من استرداد ثمنه.”
فتحت باب العربة بنفسي وساعدت ليلى على الصعود.
لم يكن دافعي الطمع بالمال، بل الأمل في شراء دواء أغلى لإيرن، وربما قطعة لحم لصنع حساء مغذٍّ له.
وسيط مثل سيريس، الذي يبيع لُعنات، قد يعرف أكثر من غيره عن المومياء.
حتى إن كانت بضاعته مغشوشة، فإن معرفته واسعة.
فلنذهب ونسأله.
لكن فجأة خطر ببالي سؤال…
لماذا تهتم ليلى باسترداد المال، وهي ليست بحاجة إليه؟
“مقرف… من يظن نفسه ليخدعني؟”
آه… إنه كبرياؤها، لا المال.
—
“أيها المحتال!”
ما إن وصلنا خيمة الوسيط سيريس، حتى هتفت ليلى بغضب.
“هاه؟ ما الذي يجري الآن؟ تفضّلي، اجلسي. حدثيني أولًا.”
كان سيريس، الذي يبدو في أوائل الأربعينيات من عمره، معتادًا على هذه المواقف.
دعانا للجلوس بهدوء.
كانت خطة ذكية، لكنها لم تنطلِ على جوديث.
نظرت إلى ليلى نظرة تعني: دعي الأمر لي.
ثم همست:
“السيدة كادت تتعرض لخطر جسيم بسبب خاتمك.”
“حقًا؟ أنا آسف جدًا.
سأفعل ما تطلبانه، آنستي.”
تواضع سيريس أربك جوديث، فترددت في المتابعة.
“أتمنى فقط أن تتفهمي ظروفي.”
“وما هي ظروفك؟”
بدأ سيريس يشرح موقفه.
هو مجرد تاجر يبيع تعويذات جاهزة.
المسؤولية كاملة على المصنع.
هو مجرد وسيط.
“جميل! وهل يُطلب منا الآن أن نبحث عن المصنع بأنفسنا؟”
“بالطبع لا.
إذا رغبتِ، سيأتي الوسيط الأحمر بنفسه إليكِ.”
لحظة… من هو هذا “الوسيط الأحمر”؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ37
ارتجفت لا إراديًا حين سمعت ذلك الاسم غير المتوقع.
“إذا كنت تعني ‘وسيط النبيذ الأحمر’، ألم يكن هو ذاته أحد المتمردين الذين قالوا لي من قبل أن أبحث عنه لأنه كان مسكونًا بشيء شرير؟”
قالت سيريس بهدوء:
“هو ليس وسيطًا يراه الجميع، بل هو وسيط بين الوسطاء، يمتلك مهارات استثنائية.
وهذا النبيذ الأحمر دليل على أنك اشتريت شيئًا منه.”
كانت الربطة الحمراء التي مدتْها سيريس أكبر قليلًا، لكنها تشبه تمامًا الربطة التي كانت معلقة في خيمة المتمردين.
ليلى، التي لم تكن تعلم أن هذه الربطة علامة على الخيانة، مدت يدها دون وعي.
أمسكت بمعصمها تحت الطاولة حتى لا تلاحظ سيريس ما فعلته.
تنحنحت بخفة، كإشارة صامتة، وفهمت ليلى، فدفعت الربطة الحمراء بيدها الممدودة باتجاه سيريس دون أن تمسكها.
لم يكن من الحكمة قبول النبيذ الأحمر في تلك الظروف، فحيازته قد تعرض صاحبها للخطر.
الأفضل أن نراقب سيريس أولًا، ثم نعود إلى هنا عندما تتحسن حالة إيرن.
قالت سيريس:
“لم أكن أتوقع كل هذا.”
“حقًا؟ إذًا لماذا أتيت…”
أمالت رأسها بحيرة.
تحت الطاولة، وخزتني ليلى بيدها كأنها تحذرني ألا أرفض استرجاع المبلغ، فعلي أن أتصرف بحذر.
تكلمت بدلاً منها:
“في الحقيقة، جئت اليوم لسبب آخر.
الآنسة جاءت لتدلني على الطريق ولتقدم اعتذارًا.”
“اعتذار؟”
“هل تعتقدين أن البارونة بريغز ستأتي تطلب استرداد مبلغ زهيد لمجرد الاعتذار؟ قالت إن الاعتذار يكفي.”
غمزت ليلى، التي ردت بنظرة مرتبكة لكنها أومأت بالموافقة.
“فلماذا جئت إذًا؟”
ألقيت الطُعم:
“كنت أتساءل إذا كنت تعرفين شيئًا عن الجثث الخالدة.”
كنت أريد أن أكتشف ما إذا كانت سيريس على صلة بوسيط النبيذ الأحمر أم أن العلاقة بينهما مجرد تعامل تجاري كما ادعت.
لقد أخذ أتباع ذلك الوسيط جسد إيرن وحولوه إلى جثة لا تتحلل.
وإن كانت سيريس متواطئة معهم، لكان لابد أن تظهر عليها علامة أو ترد بطريقة ما.
يمكنها أن تتظاهر بالجهل، أو تسأل إن كنا رأينا جثة خالدة من قبل.
راقبت تعابير وجهها بدقة.
لكن، على نحو غير متوقع، ابتسمت ابتسامة خفيفة وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال.
“سمعت أن العاصمة تعيش حالة من الاضطراب مؤخرًا بسبب جثة خالدة.
أهو الكونت الذي اشترى هذه الجثة ثم مات؟”
بدل الحديث عن جثمان إيرن الذي يشبه الجثة الحية، بدأت تتحدث عن المومياء.
شعرت للحظة بالارتباك، هل سيريس ليست تابعة لهم؟ هل هي مجرد وسيطة تجارية؟
قالت:
“سمعت أن الشرطة تحقق في الأمر بجدية، لكن هذا ليس شيئًا يمكن حله.
إنه نوع من اللعنات.”
ثم قامت وفتحت صندوقًا خشبيًا، وبدأت تبحث بين الكتب.
“قبل يومين، جاءت السيدة التي تسكن بجوار عائلة هَستليتون واشترت هذا.”
عادت إلى الطاولة وهي تحمل كتابًا رقيقًا وسلمته لي.
“هذا كتاب كتبه عالم قضى حياته في دراسة الجثث الخالدة وقبائل الصحراء.
سيساعدك هذا في الوقاية من اللعنة.”
رغم أن الكتاب لم يكن نادرًا من ناحية المظهر، إلا أن غلافه اللامع وزواياه المتهالكة أضفيا عليه قيمة.
“لا يبدو غاليًا.”
“رغم ذلك، من الصعب جدًا الحصول عليه.
لو أردت شراءه بنفسك، فستقضين نصف يوم تتجولين بين المكتبات المستعملة.”
إذًا يمكن شراءه من المكتبات.
أخذته جوديث بنية قراءته لاحقًا.
“ثمنه عشرة عملات نحاسية فقط.”
قالت ليلى بدهشة: “رخيص جدًا!”
أما أنا فلم أشاركها الرأي، فالثمن ليس رخيصًا بالنسبة لي، لكنه ليس باهظًا أيضًا.
“ألم أبعك شيئًا معيبًا؟ قلتِ إنك لا ترغبين في استرداد المبلغ، لذا أنا صادقة.”
حافظت سيريس على لباقة الحديث حتى النهاية.
“إذا أردتِ يومًا ما إنهاء اللعنة، تعالي إلي.”
تأرجح النبيذ الأحمر الذي لم يُرفع بعد على الطاولة بفعل نسمة هواء دخلت الخيمة.
أخذت الكتاب، وأمسكت بيد ليلى وغادرنا مسرعين.
بالنظر إلى الظروف، بدا أن علاقة سيريس بأتباع النبيذ الأحمر علاقة تجارية بحتة، ولكن للحيطة، كان من الأفضل الابتعاد مؤقتًا.
—
“ما الذي حدث بحق السماء، الآنسة هارينغتون؟”
سألتني ليلى بمجرد أن أُغلق باب العربة.
“لا تخافي.
وسيط النبيذ الأحمر متواطئ مع الخونة.”
عبست ليلى جميلة الحاجبين عند سماع ذلك.
أي علاقة بالخونة، حتى لو كانت بسيطة، تعني تحقيقًا مطولًا مع فرسان الإمبراطورية، وقد تؤدي إلى مصادرة الممتلكات، أو حتى الإعدام.
هزّت يديها وكأنها تطرد حظًا سيئًا.
“كان من يستحق ذلك إنقاذ حياتك.”
“لا يمكنك أن تصنّفي زبونًا عاديًا كخائن.”
أنا واحدة من زبونين فقط، لا أستطيع أن أخسر أحدهما بسبب خائن.
“هل أبلغ الشرطة؟”
“هناك من يراقبهم سرًا.”
أخبرني إيرن أن شخصًا من العائلة الإمبراطورية يساعد أتباع النبيذ، وأن الماركيز موسلي يحقق معهم سرًا.
خطتي كانت أن أخبر هنري بقصة سيريس فور عودتي.
فقد يكون هناك من في الشرطة يساعد أتباعهم.
—
بمجرد عودتي، توجهت إلى غرفة إيرن.
“كيف حال إيرن؟”
هز هنري رأسه بصمت.
لمست جبينه برفق.
لم تكن الحرارة مرتفعة، لكن تنفسه كان متقطعًا، ومن الممكن أن يتوقف في أي لحظة.
“إيرن…”
بالأمس، كان يرتجف عندما أناديه، أما الآن فلم يظهر أي استجابة.
“هل اشتريت دواء خافض للحرارة؟”
“نعم، لكن لا أظن أنه مفيد.”
أخرجت الكتاب الذي حصلت عليه من الوسيط.
“قد تكون لعنة المومياء.”
اتسعت عينا هنري دهشة.
فتحت الكتاب، وكان تمهيده يحكي قصة للأطفال:
“إذا طرق أحدهم الباب ونادى باسمك، لا تفتحه، فإن الحاكم الشرير سيأخذك.”
قال هنري: “سمعت هذه القصة وأنا طفل.”
“انظر، سيدي هنري.
قصص مشابهة تنتقل في ممالك أخرى.”
كانت تحذيرًا للأطفال من فتح الباب للغرباء، مع اختلاف في الهوية التي تؤخذ: حاكم شرير، جنية، أو وحش.
“إنها نسخة مشوهة من أسطورة حاكم قديم كان يمجده قبائل الصحراء.”
كان اسمه كلوبر، أي “الطارق”.
كانت القبائل تعيش في جماعات صغيرة، ترتبط بنسب حتى الجيل الثامن، ولكل قبيلة قصتها الخاصة عن كلوبر.
بعض القبائل مجدته كحاكم هادٍ، وأخرى اعتبرته روحًا شريرة.
لكن الجميع اتفقوا على أمر:
“يطرق الباب بصوت مألوف، وبمجرد أن تجيب تكون قد وقعت في الفخ، وستفتح الباب بلا خيار.”
أثنيت على نفسي لعدم استجابتي للنداء أمس، وأيقنت أن من ماتوا بأعراض مشابهة هم ضحايا زيارة هذا للحاكم القديم.
“انظر، سيدي، سبب تحنيط الجثث ليس ما يُشاع.”
الكتاب قال إن التحنيط لم يكن عقابًا، بل كان الكهنة أنفسهم يضحون بأجسادهم لاستدعاء الحاكم.
“إذًا الكاهن الذي تحول إلى مومياء… نجح.”
لأنه أينما ذهب، استدعى الحاكم القديم.
تنهدت وقلبت الصفحة.
“هاه؟”
“ما الأمر؟”
“ها هي طريقة للوقاية من الحاكم القديم!”
“الحكماء القدامى يأتون في الظلام، فلا تكن وحدك في الظلام.”
صفقت بيدي مندهشة.
“كنت أشعل الشموع في كل الغرف بسبب أبحاثي عن البخور، لذلك تأخر ظهور الأعراض على إيرن.”
فمنذ الليلة التي سبقت ظهور الحمى، لم أشعل شمعة في غرفته لأن الضوء أزعجه.
لكن في غرفتي بقيت الشموع مشتعلة.
‘لو استمعت إليّ وأشعلت الشموع، لكان ذلك أزال الحاكم وأضفى رائحة طيبة.’
نقرت لساني بتذمر، لكن الندم لن يفيد الآن.
المهم: هل هناك طريقة لإنقاذ من تلبسه الحاكم القديم؟
“ها هي وصفة خافضة للحرارة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ38
يُقال إنك إن أجبت نداء الحاكم القديم، فإنه يأتيك كل ليلة، يحرق روحك ويأخذها معه.
ولهذا السبب يعاني الناس من حمى مروّعة.
لذلك، لا جدوى من أدوية خفض الحرارة العادية في تلك الحالة.
ما يُحتاج إليه هو دواء خاص…
والمشكلة تكمن في مكوّنه الأساسي.
“يجب أن يُصنع من ماء الواحة؟
ومن أين لي أن أحصل على ماء الواحة؟”
قطّبت حاجبي في ضيق.
قبل أن أتمكن من جلب ماء الواحة، سيكون إيرن قد فارق الحياة وهو يمسك بيد الحاكم القديم.
“سيدتي، هذه وصفة لطرد الحاكم القديم.”
بين صفحات الكتاب، ظهرت وصفة تقضي عليه.
أنا وهنري قرأناها بشغف كما لو عثرنا على نبع في صحراء جافة، غير أن بصيص الأمل ما لبث أن انطفأ على وجوهنا.
Ⅰ.
أحضر توأمين متماثلين وأدخلهما إلى غرفة.
عندما يأتي الحاكم القديم وينادي اسم أحدهما، يجب على التوأم الذي لم يُنادَ باسمه أن يفتح الباب.
Ⅱ.
على التوأم الذي نودي باسمه أن ينظر إلى الباب عبر مرآة.
لا يُسمح له بتحويل نظره عنها إطلاقًا، مهما رأى، حتى يغادر الحاكم القديم كليًا.
Ⅲ.
يقول التوأم الذي نودي باسمه: “ما اسمي؟ لقد جئت إلى الشخص الخطأ.
عد في المرة القادمة.”
وتُكرر العبارة حتى يستدير الحاكم القديم ويغادر.
وعندما يرى التوأم انعكاس وجهه في المرآة، فذلك يعني أن الحاكم قد رحل، ويمكنه حينها أن يطمئن.
أغلقت الكتاب بقوة، ساخطة من هذا الهراء.
“وأين سأجد توأمين متماثلين؟”
توأمان مستعدان للتضحية بحياتهما من أجل إيرن؟ أمر مستحيل.
—
من دون أن ننتبه، كانت الشمس قد بدأت بالغروب، وبالمقابل، تدهورت حالة إيرن على نحو مقلق.
لسنا أنا ولا هنري طبيبين، لكننا أدركنا تمامًا أن هذه الليلة ستكون فاصلة.
وبينما تولّى هنري العناية بإيرن للحظات، خرجت لأخذ الأغطية التي نشرتها لتجف.
كان جسد إيرن يتصبب عرقًا بغزارة، لدرجة أنني اضطررت إلى تغيير أغطية سريره ثلاث مرات يوميًا.
وبينما كنت أجمع الأغطية الجافة دون تركيز، نظرت نحو غرفة إيرن.
لم تكن الغرفة مرئية من مكاني، ومع ذلك لم أتوقف عن الالتفات بقلق.
كل ما كنت أراه هو انعكاس خافت لوجهي في زجاج النافذة.
“أنتِ ممرضة مهملة.”
هل سأدفع الثمن مرتين بنفس الطريقة؟ لقد حدث ذلك في حياتي السابقة أيضًا… لحظة.
خطر لي أمرٌ فجأة.
أسرعت بجمع الأغطية وعدت إلى غرفتي.
فتحت الكتاب الذي تلقيته من سيريس، وقلبي يخفق بقوة.
كنت أقلب صفحاته بأنامل مرتجفة.
“السبب في الحاجة إلى توأم متماثل هو لإرباك الحاكم القديم.”
نحتاج إلى توأمين ليظن أنهما شخصان مختلفان. لكن، ماذا لو كان هناك جسد واحد يحمل اسمين؟
“هل يمكن أن ينجح هذا…؟”
بينما كنت غارقة في التفكير، كانت الشمس تنحدر والظلام يبتلع الأرض.
حملت غطاءً جافًا وتوجهت إلى غرفة إيرن.
“إنه لا يستطيع التنفس طبيعيًا.”
كان تنفّسه متقطّعًا وثقيلًا، وكأنه كان يعدو للتو. هل سيفارق الحياة حقًا؟
راودتني فكرة. قد تنجح، وربما لا.
وإن فشلت، فلن يكون إيرن وحده مهددًا، بل حتى أنا.
“إيرن…”
موته لن يكون خسارة عظيمة… مجرد فراغ بسيط.
لن يحيّيني أحد في الصباح، لن أسمع المزيد من نكاته الباهتة.
كنت معتادة على الصمت. أن أعود إلى بيتٍ خاوٍ وأنام وحدي.
لذلك، كانت الحياة مع إيرن مزعجة في البداية.
لكنني اعتدت عليه.
على مشاركة الطعام، على الوداع كل صباح، على كل التفاصيل الصغيرة.
والآن، لا أريد أن أعود لصمتي القديم.
إنها مجازفة… لكنها تستحق.
ففي حياتي السابقة، كنت أحسب كل شيء بمقياس الربح والخسارة، ومع ذلك… انتهى بي المطاف تحت عجلات شاحنة.
عبثًا.
ولهذا، في هذه الحياة، ولو لمرة واحدة فقط…
“اتخذي القرار الذي ترغبين به.”
—
غرقت الشمس بالكامل، وساد الليل بسواده الحالك.
وقفت وأنا أمسك مرآة الطاولة، وفي الغرفة التي بها هنري وإيرن، أشعلت ثلاث شمعات احتياطًا.
“مهما سمعت، لا تفتح الباب، سير هنري. هل فهمت؟”
“نعم، سيدتي.
لكن، أليس هذا خطرًا جدًا؟ أنا قلق عليك.”
“أقدر قلقك، لكن يجب أن أنقذ إيرن.
لقد جاء الحاكم القديم بالفعل.
لا يمكنني أن أعيش أبدًا تحت ضوء شمعة في غرفتي.”
إنقاذ إيرن… هو إنقاذ لنفسي.
قررت.
نظريًا، الأمر منطقي.
جسدي يُدعى جوديث هارينغتون، أما روحي فاسمها لي يو-جين.
وقفت أمام الباب، وجهي للداخل وظهري للباب. أمسكت المقبض بيد، والمرآة بالأخرى.
انعكس وجهي المتوتر في الزجاج.
هل سيأتي الحاكم القديم فعلًا؟ كنت أظنها مجرد احتمالية… حتى سمعت طرقًا خافتًا.
“آنسة هارينغتون، هل أنتِ هناك؟”
صوت إيرن.
ابتلعت ريقي الجاف.
طرق… طرق…
ازداد الطرق إلحاحًا، ويدي الممسكة بالمقبض بدأت تتصبب عرقًا.
“آنسة هارينغتون، أعلم أنكِ هناك.”
اهدئي… اهدئي…
تنفّست بعمق وأدرت المقبض.
صرير—
أصدر المقبض العتيق صوتًا حادًا.
لا تحوّلي نظرك عن المرآة.
حدّقت بانعكاسي فيها.
رأيت الباب ينفتح ببطء.
الممر الخارجي ظهر فجأة.
لم يكن هناك شيء غير طبيعي.
هل كانت تعليمات الكتاب خاطئة؟ لكن، حين تنفّست براحة، ظهر ظل خلفي.
رجل.
ينزف بغزارة.
وربما بسبب الفرق في الطول، كانت المرآة تُظهر فقط الجزء السفلي منه.
الرجل ذو الندبة الممتدة من شفتيه إلى ذقنه ابتسم، وفي يده سكين صغيرة وحادة.
“…!”
فجأة، رفع السكين ليطعن عنقي من الخلف.
غريزيًا، التفتُّ، ناسيةً ألا أحوّل نظري عن المرآة.
صهيل—
صهل الحصان فجأة.
كان في الخارج، يدور في دوائر، وحوافره تصدر ضجة.
أعادني الصوت إلى وعيي.
أعدت تثبيت المرآة.
الرجل نقر بلسانه بخيبة أمل.
العرق البارد كان يتصبب من عنقي.
عندما استعدت وعيي، اختفت حركته خلفي.
استفيقي.
حتى لو عضك النمر، ما دمتِ استعدتِ وعيك، فستنجين.
“آنسة جوديث هارينغتون، هل أنتِ هناك؟”
هذه المرة، كان صوت ليلى.
نبرة أنثوية لطيفة زادت القشعريرة في جسدي.
بللت شفتي الجافتين.
“…اسمي هو…”
كان صوتي بالكاد يُسمع.
حدّقت في الرجل بثبات.
السكين لا تزال قريبة من عنقي، لكن…
وضع ذراعه بدا غريبًا.
لماذا يمسك السكين بتلك الزاوية؟ أصابعه متجهة نحوي؟
من المفترض عند الإمساك بسكين أن تشير الأصابع نحو الداخل، ويظهر ظهر اليد.
أما الآن… فالعكس تمامًا.
“آه…!”
ما هذا بحق الجحيم! رقبته ملتوية؟!
عضضت خدي من الداخل، فالرجل…
رقبته ملتفة بالكامل للخلف!
تحت عنقه، لم يكن هناك صدر، بل ظهر.
جسد مشوّه يضحك بخبث.
القشعريرة اجتاحتني.
“آنسة جوديث هارينغتون، هل أنتِ هناك؟”
الدم يقطر من ذقنه.
أطرافي تجمدت، بينما الجانب الأيمن من رقبتي
وكتفي احترق، والباقي كقطعة جليد.
كنت أرتعش، وأتعرق بلا توقف.
“اسمي… لي يوجين، لقد جئت إلى الشخص الخطأ.
عد هذه المرة.”
انتزعت الكلمات من حلقي الجاف.
الرجل في المرآة رفع شفتيه قليلاً ثم تجمد.
“آنسة جوديث هارينغتون، هناك، هل أنتِ هناك؟ هناك؟ آنسة جوديث، الكونتيسة من راينلاند، هناك، هناك، جوديث، هل أنتِ هناك؟”
اهتزّ فمه، وبرزت أوتار ملتوية من عنقه، وانبثقت العظام من يده الحاملة للسكين.
اللعنة… كم هو مقزز!
عنقي وكتفي اليمنى كانت تحترق، وبقية جسدي يتجمد.
رعشة تسري فيّ.
“اسمي لي يوجين، لي يوجين! لقد جئت للشخص الخطأ.
عد، عد في المرة القادمة!”
لي يوجين… الشخص الخطأ… عد… المرة القادمة…
يدي المرتجفة تمسك بالمرآة.
الرجل يدور، وسكينه تلامس عنقي، والمرآة تتحطم بصوت شنيع.
أنا وهو وقفنا، وبيننا شق ذهبي يقسم الزجاج نصفين.
أنزل سلاحه، وانحنى قليلًا.
عندما أصبحت ملامحه أوضح، حتى أن أنفه بدا مألوفًا، حرّك شفتيه.
مؤسف.
لم أسمع صوته، لكنني كنت واثقة أنه قالها.
في تلك اللحظة…
صفير—
تشقق الزجاج، ثم تساقطت الشظايا.
صهيل—
صهل الحصان مجددًا من الخارج.
“…يا إلهي.”
عندها فقط، أطلقت الزفير الذي كنت أحتبسه، وجثوت من الإنهاك.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ39
تعلّقتُ بإطار الباب ألهث بصعوبة، والأرضية كانت تغصّ بشظايا الزجاج المحطم.
“لا يوجد غبار.”
لم يكن هناك أثر للغبار.
الغبار الذي تراكم في المكان الذي مرّ فيه الحاكم القديمة… تبخّر تمامًا.
وضعتُ المرآة المحطّمة، والتي لم يتبقّ منها سوى لوحها الخلفي، وأبصرت خيوط الفجر الباهتة تتسلل من الأفق البعيد.
مسحت جبيني ورقبتي المتعرقتين بكُمّي، وتلمّست عنقي بحذر… لكنه كان سليمًا، بلا أذى.
“يا للعجب، لقد نجوت… إيرن!”
وبينما بدأ نبضي يعود لطبيعته، خطرت ببالي صورة إيرن.
أجبرتُ ركبتي المرتجفتين على الوقوف، وسرت نحو غرفته.
مددت يدي إلى الباب، لكنه كان مغلقًا.
“أوه… صحيح.”
كنتُ قد طلبت من السير هنري أن يقفله قبل بدء الطقوس.
طرقت الباب بلطف.
“سيدي هنري، انتهى كل شيء، افتح الباب من فضلك.”
…لا رد.
طرقت مجددًا وحاولت تحريك المقبض.
“أنا، جوديث.
قلت لك، كل شيء انتهى.”
“ابتعدي! أيتها النجسة!”
“إنها أنا!
جوديث، لستُ شيطانًا!”
“لن أنخدع! دعي إيرن وشأنه!”
هل يُفترض أن أكون فخورة ببراعتي في التمثيل؟ أم أشعر بالإهانة الآن؟
طرقت الباب مرة أخرى، لكن في النهاية، جلست أمامه مستسلمة.
هاه… لا بأس.
سيفتحه عند شروق الشمس على الأرجح.
—
لم يُفتح الباب إلا بعدما أشرق الصباح تمامًا.
“هل… كنتِ حقًا السيدة جوديث؟”
“أجل، يا سير هنري، أنت دقيق للغاية.”
“هاها، لستُ سيئًا في التعامل مع الأمور.”
هل هذا مديح؟ أم سخرية مغلّفة؟
حككت رأسي بصمت وتوجهت إلى سرير إيرن.
تنفّسه كان منتظمًا.
“إيرن؟”
حاولت إيقاظه بلطف.
أطلق تأوّهًا خافتًا وفتح عينيه بصعوبة.
خلفه، كان السير هنري يُخفي مشاعره ويبحث بعينيه عن أي أثر للحاكم.
“هل أنت بخير؟ تشعر بتحسن؟”
أومأ ببطء، وتمتم بصوت مبحوح:
“…لماذا كنتِ تصرخين هكذا البارحة؟”
قاوم جفونه المتثاقلة، محاولًا البقاء مستيقظًا.
“ماذا… حدث؟”
كان هو من عاد من عتبة الموت، ومع ذلك يسأل عن ما جرى.
“صراخ؟ لم يُصدر أحد أي صوت.”
أجاب هنري بنظرة مستغربة وهو يناوله كأس ماء.
“هل سمعتَ طرق السيدة على الباب قبل قليل؟”
“لا… أقصد الليلة الماضية.”
“كانت ليلة هادئة تمامًا.”
ليلة هادئة؟
تذكرت المواجهة المرعبة التي خضتها تلك الليلة.
ربما كان صوته لا يُسمع إلا لي، لكن صوتي…
لا بد أنه دوّى في أنحاء القصر.
لقد صرخ بأعلى صوته في النهاية، طالبًا مني أن أرحل.
حتى مع الباب المغلق، كيف لم يسمع هنري صراخي؟ حتى لو لم يفهم الكلمات، كان سيسمع الضجيج على الأقل.
“طالما انتهى الأمر بسلام… فلا بأس.”
ارتشف إيرن بعض الماء، وغفا مجددًا.
“لكن، يا سير هنري، هل حقًا لم تسمع شيئًا البارحة؟”
“أبدًا، فقط صهيل بعض الخيول.”
هنري لم يسمع شيئًا…
لكن إيرن، وهو شبه فاقد للوعي، سمع.
هل كان هو الآخر يتعرض لهجوم من الحاكم القديم؟
“على أي حال، أنا سعيد لأن السيدة نجت.”
تنحنح هنري بتأثر، وكأنه تنفّس الصعداء أخيرًا.
“بصراحة، ظننتكما سترحلان معًا.”
ثم أضاف بنبرة ساخرة: “كنت أفكر… هل نقيم لكما جنازة مزدوجة؟”
أومأت برأسي وجلست على حافة السرير بجانب إيرن.
لم أعد أملك طاقة للوقوف.
“سيدتي، شاحبة تمامًا… هل أحضر لك شايًا دافئًا؟”
“شاي؟ سير هنري، لا يوجد شاي في المنزل.
ربما ماء ساخن؟”
نظرت إليه نظرة توبيخ واضحة: أنت تعرف الوضع.
تمتم بخجل:
“…ما زالت الأمور على حالها؟”
—
عندما فتح إيرن عينيه مجددًا، كانت الشمس قد تجاوزت كبد السماء.
اجتاحه عطش شديد، لكن الحمى والصداع اللذين لازماه لأيام… اختفيا تمامًا.
حاول النهوض من السرير، ثم توقف.
لماذا تنام بهذه الوضعية الغريبة؟
كانت جوديث نائمة فوق السرير، وجهها مدفون بين ذراعيها.
إنهاكتها الجهود صباحًا لدرجة أنها لم تستطع العودة لغرفتها، فنامت وهي مستندة إلى السرير.
حتى هنري، الذي قضى الليل قلقًا، شعر بالراحة حين استعاد إيرن وعيه وغفا مجددًا على الكرسي.
أنا متأكد أنني سمعت صوتها البارحة.
حتى مع أذنين شبه مغلقتين بفعل الحمى، استطاع تمييز اسمها “يوجين”، قبل أن يُغشى عليه.
سأسألها لاحقًا عندما تستيقظ.
لم يرغب بإيقاظها.
لم يعرف تمامًا ما حدث، لكنه أدرك أن جوديث… فعلت شيئًا أنقذه.
لماذا؟ لم تربح شيئًا من إنقاذي.
أليست هي من تتحرك بمنطق الربح والخسارة؟
حتى قبل أن يفقد وعيه، كانت تمسح جسده بمنشفة مبللة، وتواصل أبحاثها على البخور أو شيء من هذا القبيل.
هل أنقذتني لتُعيدني إلى الحلبة؟
آه، هل يعني هذا أنني يجب أن أعود للقتال؟
ابتسم بخفة، وأزاح خصلات الشعر عن عينيه.
ربما لم تكن تنوي منعي من العودة… وربما، كانت ستُسرّ بذلك، حتى علنًا.
بابتسامة غامضة، غادر السرير من الجهة المقابلة لمكان نوم جوديث.
أن أُسقط بسبب حفنة غبار تافهة؟ ما هذا المصير؟
ارتخى كتفاه، وعاهد نفسه أنه إن صادف جثة ذلك الحاكم مجددًا، فسيحوله إلى غبار… ويعيده للعدم.
كان جسده بخير.
يشعر بالجوع… وهذه علامة جيدة.
“نومًا هانئًا.”
توجه نحو جوديث، التي كانت لا تزال تغطّ في نومٍ عميق.
حتى عندما أزاح خصلة شعر عن وجهها، لم تتحرك.
ربما لو قلت “حان وقت إعداد البخور”…
ستفتح عينيها؟
همس في أذنها بكلمة: “عطر”.
رفرفت رموش جوديث بخفّة.
لو قلتِها من البداية، لاستيقظتِ، أليس كذلك؟
أنتِ… كما أنتِ.
كتم ضحكته، وحملها برفق.
كانت خفيفة بشكل مقلق، كما لو أنها لم تأكل شيئًا أثناء اعتنائها به.
“همم…”
“نامي أكثر قليلاً.”
عندما وضعها على السرير، تقلّبت قليلاً، وكأنها تبحث عن وضع أكثر راحة.
مدّ يده ووضعها فوق عينيها، فتنهدت بهدوء.
غطّى عنقها بالبطانية، ثم خرج ليغتسل.
لم يعد يشعر بالحمى، لكن ذاكرة ارتفاع حرارته دفعته للرغبة في سكب الماء البارد على جسده.
وبينما كان يفكر بفتح النافذة لإدخال الهواء، صادف صديقًا غير متوقّع.
ذلك الصديق بدا سعيدًا حقًا برؤيته متعافيًا.
إيرن أيضًا شعر بالسعادة… لكن، لا ينبغي لذلك “الصديق” أن يكون هنا.
“…ما الذي تفعله داخل القصر؟”
حصان؟ في الحديقة؟ ربما.
لكن يتجوّل في الممرات الداخلية؟ هذا غير منطقي.
ربت إيرن على أنفه بلطف، رغم غرابة الموقف.
“هل كل شيء يصبح غريبًا داخل هذا القصر؟ أم أن ما تُعدّه جوديث… يُغيّرك قليلًا؟”
كان يتساءل بصدق.
—
“أنت من نقلني إلى هنا؟”
عندما استيقظت، وجدت نفسي على سرير إيرن.
كنت أظنني نمت مستندة إلى الحائط، لكن يبدو أنني… صعدت إلى السرير أثناء نومي.
“أجل، ربما كنتِ تنامين بطريقة مزعجة.”
أومأ إيرن، معتقدًا أن جوديث ستشكره على كرمه كمريض تخلى عن سريره.
“كنت مرهقة جدًا… كنت أحاول إنقاذ حياة شخص ما.”
بدت نظراتها فخورة، وهي تراه يمشي كأنه لم يكن على شفير الموت.
كان من المفترض أن تُبدي بعض الارتياح، لكنها اكتفت بالفخر.
“نعم، إيرن.
عبّر عن امتنانك كما تشاء.
أنا أنقذت حياتك.”
أومأت جوديث بثقة، وكأنها تطلب الشكر دون أن تنطق به.
إيرن كان ممتنًا… بصدق.
لكن الغريب أنه لم يستطع قولها.
كانت الكلمة على طرف لسانه، لكن شفتيه لم تتحركا.
رفع إصبعه، وضغط على طرف أنفها.
“أنفك مرتفع جدًا.”
“وكيف أُخفيه؟”
“إذا ارتفع كثيرًا، سينخفض لاحقًا.”
ضربته على ذراعه، فضحك، ثم ضغط على أنفها مجددًا.
جوديث لم تتحرك، فقط فتحت عينيها تحدق فيه.
“بذلتُ كل جهدي لإنقاذك، ومع ذلك… لا تعرف حتى كيف تقول شكرًا.”
“لدي الكثير من الأسئلة.”
تجاهل كلماتها، وواصل العبث بأنفها.
“أولًا، لماذا ذاك الفتى هنا؟”
أشار إلى الحصان الواقف عند الباب، يحدق نحوهما بثبات.
كان وجه جوديث يقول: أجل، دخل الحصان القصر.
لكن… لماذا كل هذه الضجة؟
“ذلك الفتى أكثر من مؤهل لدخول القصر.
إنه روح… روح حارسة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ40
رفعتُ إبهامي مُبديةً إعجابي بالحصان.
لا بد أنه كان قلقًا على سيّده، فقد دخل القصر هذا الصباح عندما فتحتُ الباب الأمامي، وبدأ يتجوّل كما لو كان في دورية تفقدية.
مع أنني كنت أترك الباب الأمامي مفتوحًا عادةً، فإنه لم يسبق له أن دخل إلى الداخل.
“أتعلم يا إيرن؟ في كل مرة كان يظهر فيها الحاكم القديم، كان يصهل محذرًا إيانا.”
بصفته من الكائنات الروحية، كان الحصان يستشعر وجود الحاكم القديم ويحاول تحذيرنا، أنا وإيرن، من خلال الصهيل والركل.
لكن للأسف، لم يسمعه أيٌّ منا في حينه.
“لا يمكنني أن أُهدي حصانًا بهذه الفطنة اسمًا عاديًا.”
“هل هذا حقيقي حقًا؟”
استغليت ارتباك إيرن وحاولت عض إصبعه الذي كان يضغط على طرف أنفي، لكنه تفاداني برشاقة.
“أدرك تمامًا أنني لا أحلم.”
“ولم تُصابي بأي عضة.”
“إذن… ماذا ستُسمي حصانك؟”
“أريد أن أُهديه اسمًا يليق به.”
ابتسمت ببهاء وأنا أتأمل الحصان.
“غولدن(ذهبي).”
“هاه؟”
“غولدن… الأفضل دومًا.”
… نعم، هذا هو الاسم الأنسب من وجهة نظري.
نظر إيرن إلى حصانه الوفي بعينين متفحصتين.
ذلك الحصان الذي لا يمتّ للذهب بصلة لا من قريب ولا بعيد.
لكن، وماذا لو لم يكن المال أو البريق هو المقياس؟ هكذا واسى نفسه.
“حسنًا، سؤال آخر: من هو يوجين؟ ولماذا قلتِ له إن اسمك يوجين؟”
قبل ساعة، أخبره هنري، الذي استيقظ قبل جوديث، بكل ما جرى.
وكان إيرن قد اقتنع بعد قراءته للكتاب الذي يحتوي على طرق القضاء على الحاكم القديم.
الصوت الذي قال إن اسمي يوجين… كان صوت جوديث.
“ذاك كان…”
كما توقعت… لقد سمعني.
عضّت جوديث خدها من الداخل بتوتر.
عندما خططت لهذه الحيلة، كانت تتوقع أن يسمعها هنري، لكنها لم تتخيل أن يسمعها إيرن أيضًا.
على أية حال، كانت جوديث قد أعدت مسبقًا عذرًا مناسبًا، فلا يمكنها أن تكشف الحقيقة الآن.
“كان اسمي، حين كنت صغيرة، يُوجين هارينغتون. غيرته لاحقًا خلال العام.”
“يوجين؟ كان اسمك يوجين؟”
“أجل.”
بدأت ملامح التردد تتسلل إلى وجه إيرن.
تُراه سيصدّقها؟
حتى لو لم يقتنع، كانت تنوي التظاهر بأن الاسم غريب.
وإذا قال أحدهم إنه اسم رجولي، فستدعي أن هذا هو السبب الذي دفعها لتغييره.
“عادةً ما يُستخدم هذا الاسم للذكور.”
نَعَم.
تنفّست جوديث الصعداء.
“لهذا السبب غيّرته.
كان الجميع يقول إنه اسم للرجال.”
“أفهم.”
“لم أتمكن من إنقاذ التوأمين، فقررت على الأقل أن أستفيد من اسمين.”
ولحسن الحظ، لم يطرح إيرن أي سؤال إضافي.
“سؤال آخر إذن.”
“ألا تملك غيره؟”
“لو أنك ارتكبتِ خطأ، لكنتِ في عداد الأموات الآن. لماذا خاطرْتِ بهذا الشكل؟”
طبعًا، فعلت ذلك من أجل إنقاذ إيرن.
بل وتباهت بذلك في وقت سابق، وقالت له إنه يجب أن يشكرها لأنها أنقذته.
لكن، الآن بعد أن طرح سؤاله بهذا الجِدّ، شعرت بالحرج.
أن تقول له ببساطة: “خاطرت بحياتي لأجلك”… لم تكن عبارة يسهل قولها.
لم تعتد قول مثل هذه الأمور طوال حياتها، ولم تسمعها من أحد من قبل.
“وماذا لو كنتِ قد متِّ؟”
ولما لم تجب، نقر أنفها بخفة.
حتى لو أنقذتِني، لكان الوضع كارثيًا.
“آه، حسنًا، كنت واثقة من نفسي… أوه، صحيح!”
كانت تراوغ بدهاء، لكنها فجأة تذكّرت أمرًا بالغ الأهمية كانت قد نسيته تمامًا.
أمسكت جوديث بذراع إيرن الذي كان لا يزال يضغط على أنفها، وسحبته للأسفل.
“لقد وجدت وسيلة للعثور على وسيط النبيذ الأحمر!”
“ماذا؟”
“إنه كتاب عن الحاكم القديم، حصلت عليه من شامان يُدعى سيريس.
تتذكّره، أليس كذلك؟ ذاك الذي باع الخاتم الملعون لابنة البارون بريغز.”
نقلت جوديث لإيرن ما قاله سيريس بالتفصيل.
“لا أعلم إن كان من أتباع الوسيط أو مجرد شريك تجاري.
لكن في جميع الأحوال، أعتقد أننا نستطيع استخدامه للاقتراب من وسيط النبيذ الأحمر.”
ذاك الوسيط الذي ظل الماركيز موسلي يبحث عنه بجنون في العاصمة دون أن يعثر عليه.
وكان بعض فرسان الدرجة الثالثة الذين نجوا من إعدام روام لا يزالون يتنقلون مع ذلك الوسيط، لذا من المرجح أنهم مختبئون في نفس المكان.
إذا استُخدم سيريس بحكمة، فربما يمكن الإيقاع بهم جميعًا دفعة واحدة.
“أظن أن عليّ الذهاب للاستماع إليه أولًا.”
كما أرادت جوديث تمامًا، ما إن طُرح موضوع الأتباع حتى توقّف إيرن عن الاهتمام بأي شيء آخر.
“هل تعرفين أين يمكن إيجاده؟”
تنفست جوديث الصعداء بارتياح، ولكن هذه المرة في سرها.
—
قماش أبيض مُبلّل بماء مالح ومتصلّب بالملح، دم بقرة، فرشاة كبيرة، وورقة كُتب عليها نص صغير مكتظ بالحروف.
ألقى سيريس نظرة على الأدوات الموضوعة أمامه، وهزّ رأسه برضا.
جمعها بعناية داخل حقيبته، ثم فتح صندوق المجوهرات.
ومن داخله، أخرج سوارًا طويلًا مصنوعًا من خرز أوبسيديان أسود قاتم.
“يا للغباء، لماذا يجب أن تكون بقرة تحديدًا؟ الأمر مزعج بحق.”
رغم تذمّره، فإن طرق التعامل مع هذه الأمور القديمة قد وصلت إليهم دون تفسير.
يبدو أن الزمن لم يُبقِ سوى على الأجزاء الأكثر أهمية.
“لكنني محظوظ فعلًا هذه المرة.”
“محظوظ؟”
“نعم، نعم، لا تمر عليّ أيام كهذه كثيرًا… من أنت؟!”
تفاجأ سيريس حين رأى شخصًا يفتح خيمته بعنف ويدخل دون استئذان.
وتراجع خطوة إلى الوراء… ولحسن حظه فعل، إذ إن سيفًا طُعن في الأرض مكان وقوفه بالضبط.
لو بقي هناك، لاخترق النصل قدمه.
“محظوظ فعلًا.”
“ما هذا الجنون؟”
“جنون حقيقي.”
هل هذا رجل فقد عقله تمامًا؟ كانت جوديث ترتجف قليلًا وهي ترى إيرن يُخرج سيفه ويغرسه في الأرض.
هذا جنون صريح.
عندما خططوا للقاء سيريس، كان من المفترض أن يبدأ الحديث بهدوء.
قال إيرن إنه سيختبره ليرى إن كان تابعًا أم لا… لكن أهذا هو الاختبار؟!
رغم أنه أنقذ البلاد، فإن لقبه في الإمبراطورية لا يزال “الكلب المجنون”.
تمتمت جوديث لنفسها: لا ينبغي أبدًا استفزاز شخص يحمل سيفًا.
“مَن… مَن أنتم؟!”
اهتزّ صوت سيريس.
وأخذت عيناه تتفحّص المكان بقلق.
“هل تفكر بالهرب؟ باستخدام تلك العربة بالخارج؟”
ابتسم إيرن ابتسامة مشرقة، وكأنه يتحدّاه أن يجرؤ على ذلك.
“لا… لا، أنت من أتى مع ابنة البارون بريغز، أليس كذلك؟”
ثم وقع بصر سيريس على جوديث.
لمع بريق في عينيه وكأنه وجد طوق نجاة… لكن سرعان ما اختفى ذلك البريق ليحلّ محله العبوس.
“هل أنتِ أيضًا من أتباعه؟”
“هاه؟”
من تقصد؟
“ألستِ كذلك؟!”
ازدادت حيرة سيريس، وصرخ في وجه جوديث المحيّرة التي أمالت رأسها دون فهم.
“إذن، مَن أنتما بحق الجحيم؟!”
—
تابع…
ذلك هو الاسم الذي ينادي به الأتباع بعضهم البعض. وبما أنهم يعرفونه، فلا شك أنهم ليسوا مجرد شركاء تجارة.
“ولِمَ ظننت أننا منهم؟”
سأل إيرن بنبرة حانقة.
“هذا الشخص اشترى كتابًا عن المومياوات مؤخرًا.”
وكان سيريس على وشك سرقة المومياء التي تسببت للتو في مقتل مالكها.
وفي تلك اللحظة، دخل رجل يحمل سكينًا برفقة المرأة التي سألته عن المومياء.
فظن أنهم كشفوا خطته لسرقتها دون إذن، فجاءوا لقتله.
“إذًا… تلك المومياء صُنعت على يد الأتباع؟”
سحب إيرن سيفه، لكنه أبقى خنجره موجّهًا نحو سيريس.
هزّ سيريس كتفيه ونفى.
“لم يصنعوها، بل كانوا يحتفظون بها.”
“ولماذا عرضوها في مزاد؟ هل كان الدافع ماديًا؟”
“لا، كانوا يحتفظون بها، ويُخرجونها فقط عند الحاجة.
تلك المومياء ليست عادية، كما تعلم.”
أجل، نعلم ذلك جيدًا.
تنهد كلٌّ من إيرن وجوديث في آنٍ واحد.
“كلامك يثير الشك.
تدّعي أنك لست تابعًا، ومع ذلك تعرف تفاصيل دقيقة عن استخداماتهم.”
“لا. كانت مجرد تعاملات تجارية.
لكن مع طول العلاقة، عرفت بعض الأمور رغمًا عني.”
كان سيريس يتعامل مع الأتباع، ولا سيما وسطاء النبيذ الأحمر.
“يتحرّك الأتباع كجماعة منظمة.
ووسيط النبيذ الأحمر ليس مجرد لقب، بل هو اسم المنظمة ذاتها: النبيذ الأحمر.”
اسم المنظمة هو “النبيذ الأحمر”، ووسيط النبيذ الأحمر هو زعيمها.
وتضم الجماعة أفرادًا ليسوا فقط ذوي قوى روحية، بل أيضًا أصحاب لياقة بدنية، ودهاء، وكاريزما ظاهرة.
“أنا أعرف فقط وسيط النبيذ الأحمر.
أما البقية، فلا أعرف حتى وجوههم.
لهذا اشتبهت بكما.”
لم يكن يكذب عندما قال لجوديث وليلى إنه مجرد بائع.
لقد حصل على تميمة مجانًا من وسيط النبيذ الأحمر.
حتى الخاتم الباكي الذي اشترته ليلى كان تميمة من صنعهم.
فتعويذاتهم الملعونة كانت تفوق بكثير ما يصنعه سيريس بنفسه.
“في البداية، صنعت لنفسي سمعة من خلال بيعها.”
ومع تزايد شهرة بضاعته، بدأ النبلاء يأتونه بأنفسهم.
وعندها، تلقى أمرًا من وسيط النبيذ، متنكرًا في هيئة اقتراح:
“إذا زارك شخص من عائلة ثرية أو ذات نفوذ، فعليك أن تُهديه شيئًا يحمل خللًا؟.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 4"