2
ⵌ11
“أنا؟ أنا مشغول؟ يا لسخافة هذا الادعاء!”
كان ليون هارينغتون يغلي غيظًا.
فمنذ شهرين أو ثلاثة، سلّم جوديث لمحامٍ يبحث عن نبيلة شابة.
غير أن الأمور انقلبت فجأة، إذ بعث ذلك الرجل برجاله ليقتادوا ليون إلى مكان ناءٍ، وهناك هددوه لاسترجاع المال الذي تقاضاه.
السبب؟ لم تكن جوديث تتسم بالهدوء والبراءة كما وصفها.
لكن ليون، بطبيعة الحال، لم يُبقِ من المال شيئًا.
ولم يُطلق سراحه إلا بعد أن جثا أمام كليف، متوسلًا منه أن يسمح له بـ”إعادة تهذيب” شقيقته.
“الناس باتوا يثيرون الضجر فعلًا، أليس كذلك؟”
وما إن بزغ الفجر، حتى قصد ليون قصر راينلاند.
“توقف! ما الذي جاء بك فجأة؟!”
انفجر غاضبًا حينما وقعت عيناه على جوديث، التي استقبلته بنظرة باردة، رغم طول الغياب.
“لم يُضربك أحد مؤخرًا؟ على ما يبدو، صرت تملكين فائضًا من الجرأة!”
وما إن وطئت قدماه القصر، حتى شرع يقلب الأثاث ويدمر ما حوله، كما لو كان في مهمة انتقام.
جوديث، التي كانت تقضي وقتها بصنع شمعة بيديها، لم تتحمل رؤيتها تتحطم قبل أن تجف.
فاندفعت تمسك بخصره محاولة إيقافه.
“آه!”
لكن سرعان ما انقلبت المبادرة ضده، حين قبض على شعرها بين يديه.
“يبدو أنك فسدتِ منذ أبتعدت عنكِ.
وبما أن زوجك قضى نحبه، فقد قررت أن أقيم هنا معك”
“أنزلني حالًا، أتسمع؟!”
رغم شدّه لشعرها، قاومته جوديث بعنف غير معهود.
ذُهل ليون من شراستها، ومن أظافرها التي أخذت تخدش جلده.
“هل كانت دائمًا بهذا التمرّد؟”
في الماضي، كانت ترتعد لمجرد رفعه يده.
تُرى، هل لقب الكونتيسة أضفى عليها كبرياءً؟
قرر أن يُلقّنها درسًا قاسيًا، فرماها أرضًا، وبدأ بفك حزامه.
كان ينوي تأديبها بيده احترامًا لكونها أرملة، لكن بدا أن ذلك لن يفلح.
“أجبرتيني على استخدام أدواتي… تبا لكِ!”
لكن، وقبل أن ينهال عليها، انقلب المشهد كليًا.
تدحرج على الأرض بغتة، بعد أن تلقّى ضربة قاضية من رجل ظهر فجأة.
“ما هذا؟!”
تمتم الرجل، مرددًا ذات العبارة التي دارت في ذهن ليون.
“رجل؟ يا لكِ من ماكرة يا جوديث هارينغتون! أأدخلتِ رجلًا إلى منزلك؟ ولمَ يبدو بهذه الوسامة؟”
نهض ليون، مرتبكًا، يحدق بذلك الرجل الذي مدّ يده لجوديث وساعدها على النهوض.
وجه كمنحوتة رخام، وكتفان عريضان لا يكاد يخفيهما قميصه الفضفاض.
كاد يُعجب به، لولا أن الأخير سحب سيفه.
“ألم تسأل، من تكون؟”
“أنا… آه…”
تظاهر ليون بالإجابة، لكنه قفز من النافذة وهرب.
—
“لقد فرّ”
راح إيرن يجوب القصر بحذر، متوجسًا من عودة ليون إن تُركت جوديث وحدها.
ولو لم تُصرّ جوديث، بعد سقوطها، على التقاط قطعة الزجاج لإنقاذ شمعها، لكان أمسك بها بسهولة.
“في المرة القادمة، اضربه حتى لا يقدر على الوقوف لأيام!”
صرخت جوديث، غاضبة لما ألحقه بأشيائها.
“ولِم أنا؟ لست ممن يضرب الناس بلا مبرر”
قالها إيرن بلا مبالاة، بينما كانت قبضتا جوديث ترتجفان من شدة الغضب، وإن كانت عاجزة عن ترك أي أثر عليه.
رمقها بسخرية:
“عزيزتي، حقًا؟”
“توقف عن مناداتي بذلك!”
قطّب إيرن حاجبيه متظاهرًا بالاشمئزاز، وفرك ذراعه كما لو أنه أصيب بحساسية، في حين شعرت جوديث براحة غامضة.
“من أين جئت بهذا اللقب بهذه السهولة؟ هل هي زيجة ثانية؟”
“بل أولى، غير أنني مرنة فيما يخص الألقاب”
“حتى بعد القتل، لا يزال ضميرك مرنًا؟”
رغم أن تعليقها بدا عابرًا، تجنبت النظر إليه وعضّت على شفتيها.
“هل قتلت أحدًا من قبل؟”
“لا، ليس هذا ما قصدت”
“فما الذي عنيته إذًا؟”
“ربما… أن ضميري أنا أيضًا ليس صلبًا تمامًا”
“…”
هل شعرت بالإهانة؟ وهل لديه ضمير أصلًا؟
تنهد إيرن، وقد فترت رغبته في الجدال، بينما كانت جوديث تلمّ شتات فتيل الشمع.
ناولها كوب ماء.
“اشربي، على الأقل”
“ما الأمر يا سيدي؟”
“قول شكرا لي يكفي”
تناولت الكوب بضعف ظاهر وشربته دون تردد.
“شكرًا على كل حال، سيدي إيرن.”
لكن الماء لم ينساب في حلقها كما المعتاد.
رمشت بعينيها، ثم بدأت تُنظف الغرفة ببطء، قبل أن تتخبط يداها في حركتهما.
“جوديث هارينغتون”
“نعم؟”
ما الذي يحدث لي؟ جثت على ركبتيها، ثم سقطت على جنبها.
انحنى إيرن أمامها، رفع ذقنها، فرأى أن بريق عينيها انطفأ، وصار ضبابيًا.
لقد بدأ مفعول مصل الحقيقة في الظهور.
“ما شعورك حين عدتُ من الموت؟”
“كان الأمر مزعجًا جدًا… أوه، لا!”
صُدمت من ردها، فوضعت يدها على فمها.
“أزعجك فعلًا؟”
قبض على معصمها بلطف، وأزاح يدها عن فمها.
“ما الذي تقولينه؟ كنت أخطط لحياة مترفة مع الكونت! ذلك الشامان الوغد… لو قبضت عليه لما تركته حيًا.”
هزّ إيرن رأسه برضا، وهو يراها تتمتم بحنق وتحاول تدارك حديثها.
“من هو الشامان؟ وسيط أرواح؟”
أومأت، كأنها نُوّمت:
“أعطيته قطعتين من الذهب”
“لكن ألم يقل هنري إنه من منحك المال؟”
“هو فقط سلّمني الذهب”
“…”
الدواء فعال، أكثر مما ظن.
قرر العودة إلى لبّ الموضوع.
“ما علاقتك بكليف؟”
“التقينا في يوم زفافي، كان محاميًا.
لم تكن بيننا علاقة… لكنه حاول استغلالي”
أن يسلبها اللقب مقابل 3,000 من أصل 200 مليون؟ يا له من وضيع.
“اللقب ملكي”
“بل لي أنا!”
توهجت عيناها غضبًا، كأنها تكره مجرد وجوده حيًا.
في الحقيقة، إيرن نفسه لم يكن مسرورًا ببقائه حيًا.
“وإن منحتك كل شيء، ثم رحلت؟”
“حقًا؟! جادّ في قولك؟!”
تلألأ وجهها بابتسامة ساطعة، جعلت إيرن يشعر بالغثيان.
“كنت أمزح”
“عد أدراجك سالمًا، صدّقني*
قالتها بنبرة ناعمة تحمل وعيدًا.
شعر إيرن بالطمأنينة، على نحو غريب.
“وما الذي ستفعلينه إن لم أفعل؟”
“لا شيء… تهديد فحسب.
لا أعلم ما أقول!”
نظر إليها، تضحك بخفة وارتباك.
وقف وقال لها أن تُكمل عملها، فمفعول الدواء سيزول قريبًا، ويتركها غارقة في الإحراج…
ولن يتدخل.
على الأقل، بات على يقين من أمرٍ واحد: جوديث لم تكن سبب موته.
وذلك يكفي.
“بالمناسبة، هل أنت بخير بعد ما فعله ذلك السافل بك؟”
كان على وشك المغادرة، لكنه استذكر المشهد: شدّ شعرها لم يغب عن ذهنه.
أجابته ببساطة، وعيناها شاردة:
“لست ممن يخاف من هذا”
فقد خاضت معارك في السماء…
والثلج أيضًا.
تمتمت بكلمات مبهمة، ثم وضعت يدها على فمها من جديد.
“… حسنًا، تبدين بخير”
لم يفهم شيئًا مما قالت، لكنه أدرك أمرًا: جوديث هارينغتون… فقدت عقلها.
—
في هذه الأثناء، كان ليون قد لجأ إلى كليف، يروي له ما حدث.
“شقيقتي تزوجت.
زوجها رجل مهيب يحمل سيفًا، لكنه وسيم… طويل، بشعر ذهبي…”
فكر لحظة، ثم صفق بيده:
“آه! يشبه السير إيرن! لكن لا تقلق، لا أظنه سيبقى معها طويلًا”
كان كليف يصغي بوجه متجهم.
“أدخلت رجلًا يشبه إيرن إلى بيتها؟”
كانت جوديث، بوضوح، تجهل خطورة الموقف.
كانت مبتهجة، بلا شك بسبب ثقتها بعشيقها.
رجل وسيم، يستخدم السيف؟ يمكن استمالته بسهولة.
لا مانع لديه من توقيع العقود مقابل المال.
“دعني أرى وجهه بنفسي”
كان فضوليًا لرؤية من يشبه إيرن.
تسلل كليف إلى قصر راينلاند، متخفيًا، يتجول خارجه.
“كلما حدّقت في هذا القصر، شعرت بالتشاؤم يتصاعد في قلبي”
فقد كان من القلائل الذين حضروا جنازة الكونت السابق.
يومها، بالكاد أخفى كليف شعوره بالغثيان.
“لم أرَ جثة كهذه في حياتي…”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ12
“لم أشهد في حياتي جثة كهذه”
كان جسده أشبه بقطعة أرضٍ جُرّدت من الماء حتى آخر قطرة، جلده مشققٌ تكسوه جراح دامية متناثرة، كأن الحياة انسحبت منه دفعةً واحدة دون رجعة.
همس الطبيب، وقد بدت على ملامحه أمارات الذعر، بأن الكونت قد وصل إلى هذه الحالة خلال ليلةٍ واحدة فقط.
لم يكن لأحدٍ أن يفسّر ما جرى.
“ما كنت لأتخيل يومًا أن عائلة الكونت بأسرها ستُباد بهذا الشكل”
لم تكن الوفاة تدريجية.
بعد رحيل الكونت، لحقت به الكونتيسة، ثم توالى سقوط أفراد عائلة راينلاند كأحجار دومينو متهالكة.
وفي ذات الوقت، كانت ثروتهم تزداد كما لو كانت تُروى من دمهم.
سيدريك راينلاند، الابن الأكبر ووريث اللقب، لم يكن يحمل من صفات النبلاء سوى الاسم.
ومع ذلك، فكل مشروع يخوضه ينقلب نجاحًا مبهرًا.
“أليس في الأمر ريبة؟ إلى الآن، لم أجد تفسيرًا عقلانيًا واحدًا.
على أي حال، تلك الوفيات الغامضة مهّدت لي الطريق لأغدو كونت إيرن”
كان سيدريك عبدًا للمال، شغفه بالأعمال التجارية مسعورًا، لا يُبدي أسفًا على ميت، ولو كان الميت هو نفسه.
“كان يعانق الوثائق بينما يتقيأ دمًا…
لا، لا أريد استرجاع ذلك المشهد”
لم يكن كليف راغبًا بالدخول إلى القصر يومًا، فقد حفرت صورة الجثة المشوهة وهيئة سيدريك الدامية في ذاكرته بصمتٍ مؤلم.
وحتى إن خلت القاعات من الأشباح، فقد بدا القصر مأهولًا بعشرات الأرواح الهائمة.
“…”
شبح؟
تجمّد وجه كليف رعبًا، حين لمح رجلاً يخرج من قصر الكونت.
اختبأ على الفور خلف حصانه.
لم يُبصر ملامحه جيدًا بسبب غطاء الرأس، لكن طوله وطريقة سيره…
لا، مستحيل أن يكون ذلك الشخص…
لكن النسيم العابر كشف عن فكٍ ناعم، أنف مستقيم، وعينين خضراوين جليدتي النظرات.
“إيرن؟”
ذاك الرجل الذي دسّ له السم ودفنه بيده، يمشي الآن حيًا يُرزق.
“كيف لا يزال حيًا؟”
ذاك الجسد الذي أزهق حياته…
قد عاد.
—
فتحت عينيّ فزعةً حين شعرت بجسدي يندفع للأمام.
يبدو أنني غفوت أثناء ترتيب أدوات الصباغة وبعض الأواني.
وحين أفقت، كان الليل قد أسدل ستاره.
“آه… ظهري”
وفيما كنت أتمطى بكسل، تذكرت فجأة ما حدث نهارًا.
منذ أن شربت الماء الذي قدّمه لي إيرن، وأنا أشعر بشيءٍ غريب، كأنني سُحبت من الواقع.
رغم أنني أنجزت مهامي كاملة، لا أستطيع تذكّر كيف أعددت المعكرونة، أو حتى تناولت العشاء.
“هل السبب أن ليون جذب شعري بعنف سابقًا؟”
أي نوع من لاعبي القمار يملك هذه القوة؟ فروة رأسي لا تزال تؤلمني.
لو التقيت بك ثانيةً، سأقتصّ منك يا ليون هارينغتون.
وبينما كنت أزمّ شفتيّ غيظًا وأرتب أغراضي، سمعت صوت ارتطام عنيف بالجدار.
“ما هذا؟ السيّد إيرن؟”
فتحت الباب بحذر، ممسكةً بوعاء شمع فارغ كدرع بدائي.
“ماذا…؟”
جسد مغطى برداء أسود ارتطم بالحائط، ينزف بغزارة، وبركة من الدم الداكن تتجمّع أسفله.
هل… مات؟
ارتعدت أطرافي، ولولا أنني كنت أتكئ على الباب، لسقطت أرضًا.
وفجأة، حجب عني المشهد ظهر مألوف، وقطرات الدم تقطر من طرف سيف إيرن.
“سيّدي…”
“لا تخرجي”
قالها بهدوء حازم، كأنّه يقرأ خوفي.
“لقد وصل بالفعل”
استدار ناظرًا إليّ، غافلًا عن قاعدة القتال الأولى: ألا تزيح نظرك عن خصمك.
“ما الأمر؟ هل تلاشى مفعول الترياق؟”
“ترياق؟ عن أي ترياق تتحدث؟ أوه!”
قبل أن أستوعب مقصده، اندفعت نحوي شفرة مظلمة.
تصدى لها إيرن بخفة، ثم جذبني إلى الداخل بقوة.
“ابقي هنا”
صدقًا، هذا ما كنت أتمناه.
“شخصٌ آخر دخل من نافذتي أيضًا”
رجلٌ آخر وقف أمام النافذة، يرمقني بنظرات قاتمة.
لمع بريق في عيني إيرن خلف الباب، وسحبني مجددًا نحوه.
“هل لكِ أعداء؟
لا أظن أن شقيقكِ هو من استأجرهم”
كان يرقب كل حركة، يتراجع ببطء، يواجه قاتلًا أمامه وآخر خلفي.
أربعة قتلة…
الأمر يتجاوز مجرد انتقام عشوائي.
“انتقام؟ لا علم لي بشيء من هذا”
“فكّري مجددًا… قد يكون هنالك ماضٍ منسي”
ثم دفعني نحو الحائط:
“قفي هنا، وإن اقترب أحدهم، فضربيه بهذا الوعاء”
نظرت إلى الوعاء بيدي.
صلب بما يكفي لصبّ الشمع، لكنه لا يبدو سلاحًا ضد قاتل.
“حتى لو خفتِ، لا تغلقي عينيكِ.
ثبّتي نظرك للأمام، وسترين ما ينبغي ضربه”
هل هذا تدريب بيسبول؟ انظري واضربي؟ لا خيارات كثيرة.
“سيّدي، هناك اثنان أمامنا.
هل بوسعك مواجهتهما وحدك؟”
سألته بخوف.
في الرواية الأصلية، كان إيرن أحد أعظم الفرسان، لكن الواقع؟ رجل مترنّح، يسكر ويتذمر من الطعام، يتقصّى مقتله كأنه أمرٌ عابر، وهنري وحده يتكفّل بكل شيء.
حتى ليون، هرب حالما رأى سيفه، دون قتال حقيقي.
“قضيتَ بالفعل على اثنين؟”
“الوضع يختلف حين أقاتل لأحميكِ”
ثم رمقني بنظرة متفحّصة:
“أليس من المفترض أن تدافعي عن نفسك؟”
شدَدتُ على الوعاء، وفكّرت: لو ضربته به على رأسه الآن… لا فائدة.
“احذري، إنه يرمي شيئًا!”
أدرته سريعًا، رافعةً الوعاء كدرع، فتناثرت هالات سوداء اصطدمت بنصل سيفه.
نحن في موقف حرج.
إن هاجم من اليمين، سيُضرب من اليسار، والعكس.
وفجأة، سحبني بقوة للأمام.
“احميني الآن-“
“لا، لا تتحرك”
ثم استدار بسرعة، يحميني بجسده، فاخترق سيفه قاتلًا أمامنا، وسقط الآخر على الأرض، وسيفٌ مظلم يغرس في كتف إيرن.
“سيّدي!”
صرخت، لكنه لم يتوقف.
مضى للأمام، الدماء تترك أثرًا خلفه.
رغم الجراح، لم يتراجع، حتى حين اخترقت الخناجر ذراعه، ظلّ يضرب.
“آه…”
سقط القاتل الثاني، وإيرن ينتزع الإبر، يمسك شعر خصمه، ويسأل:
“من أرسلك؟”
الآخر همهم بكلمات مبهمة.
“قلتَ إنك سمّمت السلاح؟ لم أسألك هذا! من أرسلك؟”
رغم السم، كان إيرن غاضبًا لأنه لم ينل جوابًا.
هل فقد عقله؟ رأيته يهزّ جثةً هامدة، يهمس:
“لا تمت الآن.
افتح عينيك… افتحهما!”
“……”
“لن تنطق؟ حسنًا، هذا وحده كافٍ لأعرف الهدف”
همس بشيء، ثم لفظ القاتل أنفاسه الأخيرة.
حينها، فقط، التفت إليّ.
“سيّدي، هل أنت بخير؟”
ذراعه تنزف، وسيف يغوص في كتفه.
“لستُ بخير”
“هل يؤلمك كثيرًا؟”
“كان عليّ أن أستجوب الآنسة جوديث هارينغتون عن شرّها قبل أن أُنقذها”
قالها بأسى، وكأنه يندم على إنقاذي.
“غريب، أنقذتُ حياتك، ولا شكر؟”
“لأنك تملك ضميرًا… مرنًا”
قالها بسخرية، وهو يرمي الجثة.
“لا تقولي مرن، بل قولي إنه غير موجود.
هذا أدق”
“ما الذي تقوله؟”
“لا بأس…
كلمة شكر ستكون كافية بالنسبة لي”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ14
نزَعَ إيرن ثيابه وشرع بمحاولة كبح النزيف، لكن الدم ظلّ ينساب كلما حرّك ذراعه.
انعقدت ملامح جوديث، مأخوذة بالدهشة والقلق.
“أمرٌ عجيب…”
“وما الذي يُدهشك الآن؟”
“أشعر بدوار…”
ولم تمضِ لحظة، حتى ترنّح جسده وسقط أرضًا، فاندفعت جوديث نحوه بسرعة، تحيط خصره بذراعيها، تسنده بقوة.
“أتراه من أثر السم؟ أم أنك أُنهكت من كثرة ما فقدت من دم؟ علينا الذهاب إلى المستشفى حالًا”
ولحسن الحظ، لم تكن مستشفيات هذه القرية تتطلب بطاقة هوية كما هو شائع في زمننا، مما سهّل الأمر.
كانت جوديث تسانده وهو يخطو ببطء، لم يفقد السيطرة تمامًا بعد، إذ بدا قادرًا على السير وإن بصعوبة، يُخفي ألمه بأنين خافت لا يكاد يُسمع، حتى وصلا إلى تخوم القرية.
“أتعلمين…”
“ما الأمر؟”
“هل من المنطقي أن أتعرض للدغة، وأنزف، وأمشي كل هذه المسافة على قدمي؟”
أتراك تودّ الزحف؟ حدّقت فيه بدهشة، عاجزة عن الردّ.
“سبق وقلت لك إنني أرغب بامتلاك حصان”
“وهل تظن أن لدينا ما يكفي لشرائه؟ أنت أدرى بظروفنا البائسة!”
“وماذا لو انهرت هنا؟”
“ما عساي أفعل حينها؟ بالكاد أستطيع رفع السرج!”
دفعت جوديث خصره براحَتها، وكأنها تدفعه للإسراع.
“هيّا بنا، لا وقت للجدال”
“أنتِ حقًا…”
كتم إيرن ألمه، وهمس بمرارة:
“تلك المحاولة لاغتيالي، كانت بسببك. يبدو أنه كان يحمل حقدًا دفينًا”
“كفّ عن التذمّر، أذناي تكاد تنزف من ثرثرتك”
“أنا من ينزف بالفعل”
رفع ذراعه المضرّجة بالدماء ولوّح بها أمامها، لكن جوديث لم تُعرها اهتمامًا، وأشارت إلى مبنى قريب.
“أنظر هناك! مستشفى.
دعنا نُسرع قبل أن تفقد وعيك تمامًا”
شدّت على يده، تقوده برفق، بينما كان يدور برأسه حتى بات عاجزًا عن المقاومة.
—
“ثبت ذراعك قدر الإمكان، وخذ الترياق ثلاث مرات في اليوم”
“حسنًا، سيدي”
خرج الطبيب العجوز من مرقده، وقد أرهقته السنين، ثم بدأ في تضميد جرح إيرن، وربط الضمادة بإحكام، ووصف له دواءً مضادًا للسموم.
وبينما كانت جوديث تُصغي لشرح الطبيب، أغمض إيرن عينيه للحظة، محاولًا التقاط أنفاسه.
صوتٌ خفيّ بدأ يهمس في أذنه، كأنه وقع أقدام خافتة.
اهتزّ جسده، وكأن ذكريات القتال عادت تطوّقه: رهبة الموت، نداء السيف، حلاوة البقاء بعد الصراع…
ضمّ قبضته بصمت.
“أيها الفتى، لا تعصر يدك كثيرًا، فجرحك قد ينفتح من جديد.
لا تظن أن صِغر سنك يجعلك منيعًا… تِك تِك!”
“…”
لكن الوقت لم يسعفه ليستغرق في أحاسيسه، إذ عاد صوت الطبيب بنبرة متضجرة:
“إن أصيبت الجروح بالتهاب، فسيتضاعف ثمن العلاج، ويتضاعف معه الألم كذلك”
“يتضاعف؟”
فتح إيرن عينيه بدهشة، لكن سؤاله لم يكن موجّهًا للطبيب، بل إلى جوديث، التي كانت قد أخرجت محفظتها…
وتجمدت.
(…)
ألم أكن أنا من أنقذكِ؟
أرخى إيرن قبضته حين لمح ارتجافة يدها وهي تُخرج النقود.
دفعت تكلفة الليل الثقيل، رغم ارتفاعها، إذ كانت مدينة له بحياتها.
وعندما رأت ذراعه المضمدة حتى الكوع، غمرها شعور مختلط من الامتنان والذنب.
لولا دفاعه عنها، لما أُصيب بتلك الجراح.
“هل أنت بخير، سيدي؟”
“وهل أبدو بخير في نظرك؟”
لا تدري لماذا طفا إلى ذهنها المثل القائل: “كلمة طيبة تساوي ألف يانغ”
امتنانها وندمها تبخرا في رمشة عين.
“على كل حال، أنا ممتنة لأنك أنقذتني”
“وتعلمين ذلك؟ حسنٌ، فكوني أكثر لطفًا”
وما تبقى من امتنانها… تبعثر في الريح.
“أظنني بحاجة إلى بعض اللحم لتعويض الدماء”
“بل الأفضل لك الخضروات، فهي تُطرد السموم”
“أأنتِ جاحدة هكذا؟”
نظر إليها بعينين نصف مغمضتين، بينما تابعت السير بصمت.
وبينما هو يتمتم عن حصان ولحم، كانت تفكر في سر محاولة الاغتيال ومن أرسل القتلة.
وحين وصلا إلى بوابة القصر، تذكرت ما قاله سابقًا.
“عندما هاجمونا، قلت: ‘ألم يعد المحلول فعّالًا؟'”
وقتها لم تنتبه، أما الآن، فقد بدا الأمر مريبًا.
هل فقد الدواء مفعوله؟
“لقد أعطيتني دواءً، أليس كذلك؟ لكني أشعر بنعاس غريب…”
“وكيف تخلّصتِ من الجثة؟”
هل يهذي؟ حدّقت به بحدة.
“انظر إليّ يا عزيزي”
“أهذا ما يُقال لمريضٍ يتألم؟”
راح يتمتم بأسماء وأشياء مبهمة، مما زاد من شكوكها.
متى أعطاها دواء؟ لقد تناولا الطعام معًا، لكنه شرب وحده…
“على الأقل، اشرب بعض الماء”
“ما الأمر، سيدي؟”
“شكرًا، يكفي”
“لكنك احترقت، أليس كذلك؟”
حين التقت عيناهما، انحرف بنظره.
تذكّرت حين ناولها كوب الماء بعد رحيل ليون…
هل حسبته لطيفًا؟ لم يكن كذلك.
“أي نوع من الدواء كان ذاك؟”
“ليس شيء يؤدي الى وفاتك”
“بل ما هو بالضبط؟”
“إكسير الحقيقة”
لا عجب أنني شعرت أن لساني ثقيل…
عبست، مائلة برأسها:
“أعطيتني إياه لأنك شككت بي؟ ظننت أنني متواطئة؟”
لم تتوقع منه ذلك، لكنها فهمت.
إنه حذر بطبعه.
“أتفهمك، لو كنت مكانك، لساورتني نفس الشكوك”
“صراحتك مفاجئة… فاجئيني أنتِ واشتري لي حصانًا. سيكون مفيدًا لك أيضًا”
لوّح بذراعه المصابة، كأنه يتوسل.
“ولمَ تحتاج لحصان إن كنت تمشي بخير؟”
ظاهريًا، لم يكن يعاني من مشي.
فتحت باب القصر، ثم التفتت إليه:
“بما أن ذراعك لا تتحرك جيدًا، سأتكفل بفتح الباب”
تجمد إيرن في مكانه من هذا الكرم غير المتوقع.
“… شكرًا جزيلًا”
ممتن للغاية.
سنرى، يا جوديث هيرنغتون…
سنرى.
—
في اليوم التالي.
“أنا عطشان”
رفعت رأسي من فوق ذراعي، بعينين مرهقتين تبحثان عنه بدهشة.
رغم أن لي غرفة خاصة، إلا أنني مذ دخلت غرفة المكتب/النوم، شعرت بعدم ارتياح.
“ماء”
“الكأس أمامك”
“لكن يجب عليّ أن أملأه”
رفع يده المصابة بتنهيدة ثقيلة.
“وماذا لو مرضتُ من رفع الإبريق؟”
على الأقل تظاهر بالضعف!
تمتمت بضيق:
“كلما زاد الأمر سوءًا، تضاعف ثمن الدواء”
تنهدت، وتخلّيت عن شمعي المتراكم.
كدت أُقتل بالأمس، ومع ذلك، لم أشعر بالخوف، بل بالإرهاق.
الدماء، الجثث، المستشفى…
ثم العودة.
مشهد الدماء لا يغادرني.
“الجثث، ماذا عنها؟”
“هنري سيتكفّل بها، يعرف أين يأخذها”
حين أخبرتهم أن عدد القتلى أربعة، طلبوا أجرًا جنونيًا.
ارتعشت يداي أكثر مما فعلتا حين كنت أواجه الموت.
رفضت، وقضيت نصف اليوم في تنظيف آثار الدم وحدي، ثم تذكرت الطلبيات المؤجلة.
إن لم أُسلّم الشمع في وقته، سأخسر الثقة.
والثقة هي عصب العمل.
لكنه لم يتركني وشأني. يستغل إصابته ليمطرني بطلباته.
ولو تحرّك بعشوائية، ستتفاقم إصاباته، وتزيد النفقات.
“ها هو الماء”
ملأت الكأس التي أمامه.
“اشرب”
“آنسة جوديث هيرنغتون”
ناداني باسمي الأخير.
عضضت شفتي.
حين يفعلها، أعلم أن شيئًا سيئًا قادم.
“الماء بارد.
أتعطين مريضًا ماءً باردًا؟”
“… جرّبه”
وضعت الإبريق على المدفأة، بدأ يغلي.
سكبت بعضًا منه.
“الآن صار دافئًا”
“بل ساخن.
ماذا لو انسكب عليّ وأُحرقت؟”
هزّ رأسه مستاءً.
“مرهم الحروق باهظ الثمن”
“اتركه ليبرد”
“ولمَ سكبتِه إذًا؟ آنسة هيرنغتون؟”
أخذت الكأس، نفخت فيه، وأعطيته إيّاه.
“بارد جدًا”
حين استعدّ للشرب، تمتمت:
“… ليتني تركتك تموت عندما هدأ كل شيء.
لماذا أنقذتك؟ اللعنة على الوسيط.
لن أسامحه”
“أسمعك… احتفظي بتلك المونولوغات لنفسك… آه!”
سكب بعض الماء على ضماده.
“فعلتِها عن قصد، أليس كذلك؟”
“محض خطأ.
الشرب باليسرى صعب، وكتفي مصاب أيضًا”
ضيّقت عينيّ:
“هل تذكر من كنت تحاول حمايتها حين أصبت؟”
“تشه”
“تشه؟ تشه لمن أنقذت حياتك؟”
ذهبت لأُحضِر الضمادات.
“على فكرة، حياتك مدينة لي أيضًا، أليس كذلك؟”
“الوسيط أنقذني، وهنري دفع المال.
كيف تكونين أنتِ المنقذة؟”
قالها ببراءة، فتجاهلت سؤاله.
“فيما يبدو، فإن سمعك لا يفوّت شيئًا”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ14
“أظن أن سمعك أصبح مرن أيضًا؟”
“هل تسمح لي بذراعك؟ أحتاج إلى تغيير الضماد”
تنهد إيرن بضيق إزاء تصرفات جوديث، التي لم تزل حتى لحظتها تبدي امتعاضها، لكنها سرعان ما غيّرت مسار الحديث بمهارة لافتة.
رغم ذلك، لم تتردد جوديث وبدأت بحذر تزيل الضماد الملفوف حول ذراع إيرن اليمنى.
كان الطبيب قد طمأنهم بأن الشوكة السامة لم تنغرس بعمق، وقد أُزيلت بسرعة قبل أن ينتشر السم، إلا أن موضع الجرح ما زال متورمًا ويميل إلى احمرار داكن.
“قد تشعر بوخزة ألم، لكن عليك أن تكون صبورا”
ورغم افتقارها للمهارة الكافية في مداواة الجروح، إلا أن أداءها لم يكن سيئًا على الإطلاق.
أما إيرن، الذي اعتاد معالجة جراحه بنفسه إثر إصاباته المتكررة، فكانت تلك المرة الأولى التي يتولى فيها أحد غيره تضميد جرحه.
لطالما كان الطبيب يكتفي بفحصه السريع للجروح ومعالجتها، تاركًا لإيرن مهمة تغيير الضماد بنفسه؛ فإن توقف النزيف، نزع الضماد وألقاه، وإن انفتح الجرح، صب عليه بعض الكحول القوي وانتهى الأمر.
لهذا السبب، بدا له هذا المشهد غريبًا ومربكًا بعض الشيء.
صحيح أنه طلب من جوديث فعل ذلك بدافع المزاح، ولم يتوقع منها أن تأخذ الأمر على محمل الجد، لكنها رغم دوافعها الاقتصادية، بذلت جهدًا يُحترم بطريقة ما، أليس كذلك؟
ما هذا؟
أبدأت أُهذي لأنني قضيت وقتًا طويلًا بجوار جوديث، التي لا همّ لها سوى المال؟
وبما أنه جُرح أثناء حمايتها، فمن العدل أن تتحمل نفقات علاجه.
لكن، ألهذا الحد أذهله تصرفها؟ أم أنه لم يفهم دوافعها بالكامل بعد؟
“ألست تكنين لي شيئًا من الضغينة؟” سأله إيرن بسخرية.
“ولماذا أكره من يعتني بي؟” أجابته جوديث بحدّة.
“لا تبدين خائفة رغم أن رجلًا يحتضر أمامك.
هل كنت تعملين في مهنة القتل ثم اعتزلتها؟”
اقترب منها إيرن وهمس بمكر:
“كوني صادقة معي.
حتى لو كنتِ قاتلة مأجورة، لن أطلب الطلاق”
ارتجفت جوديث وقالت:
“ألا ترى كيف ترتجف يداي من الرعب؟”
“أم أنك تلوحين بقبضتكِ رغبةً في ضربي؟”
هل أصبحت روحًا خفية ذات نظرات لاذعة؟!
سعلت جوديث بعنف محاولةً تجنب عينيه، فيما أطلق إيرن ضحكة خفيفة لرؤيتها تتفادى الرد.
“على أية حال، آنسة هارينغتون، يبدو أن المال يرعبك أكثر من أي شيء آخر”
ساد الصمت، وكأنها أقرت بصحة ملاحظته دون كلمات.
حقًا، أهي مسكونة بروح مهووسة بجمع المال؟ تساءل إيرن وهو يتأمل ظهرها.
“أتعلم، إيرن؟
معظم الشرور في هذا العالم سببها المال”
أنهت جوديث لف الضماد وأحكمته بعناية، وقد ارتسمت على وجهها نظرة جازمة، كما لو أنها ترى العالم أوضح مما يراه.
“على أي حال، هل أنت واثق أن القتلة لن يعودوا قريبًا؟”
“هذا ما أظنه”
نادراً ما يعاود القتلة هجومهم مباشرةً بعد الفشل، إذ تكون الحراسة أشد والضحايا أكثر يقظة.
“عادةً ينتظرون حتى تهدأ الأعصاب وتتراخى الحراسة، ثم يهاجمون مجددًا.
إلا إذا كانت الضحية مهمة للغاية، حينها قد يغامرون بهجوم آخر سريع…”
توقف إيرن فجأة، قابضًا على معصم جوديث، التي كانت تهم بإنهاء الضماد.
اجتاحها شعور ثقيل، إحساس بنذير شؤم يحوم حولهما.
لا…
لقد قال إنهم لن يعودوا!
نظرت إليه متوسلة، لكنه كان قد بدأ يجمع سيفه وهو يتمتم:
“من يسعى لقتلنا لن يستسلم بسهولة”
—
“ماذا؟ فشلوا مجددًا؟! أرسلت ستة قتلة ومع ذلك أخفقوا؟!”
ارتطم كأس الشراب بجدار القصر وتحطم إلى شظايا صغيرة، فيما كان كليف يرتجف من شدة الغضب وهو يصب لنفسه كأسًا آخر بيد مرتعشة.
في البداية أرسل أربعة قتلة، ثم رفع العدد إلى ستة مع وعد بمكافآت مجزية، ومع هذا عادوا خائبين!
الأسوأ أن إيرن لم يكن فارسًا عاديًا.
لو استعادت ذاكرته…
كان كليف يعلم أن إيرن، بطبيعته، سينقض عليه فورًا لو تذكر من دسّ له السم.
لكن بما أن شيئًا لم يحدث حتى الآن، فقد يعني هذا أنه لم يستعد ذاكرته بعد.
أو ربما ينتظر جمع الأدلة؟
نهض كليف فجأة، مخمشًا مسند الكرسي بأصابعه وهو يصرخ:
“أرسلوا ثمانية… لا، بل عشرة قتلة!”
تقدم أحد رجاله بحذر مقترحًا:
“سيدي، لماذا لا نلجأ إلى «الجهات الخاصة» هذه المرة؟”
لكن كليف، وقد اجتاحه الغضب والخوف معًا، شرب زجاجة الشراب كاملةً دفعة واحدة، ثم صرخ:
“نفذوا ما أمرت به!
سأتخذ قراري بشأن «الجهات الخاصة» لاحقًا!”
—
بعد بضعة أيام…
“آه!”
“… ألا تعرف استخدام السيف، أيها الأحمق؟!”
صرخ إيرن وهو يضرب القاتل الذي كان يطارد هنري.
“هل تراجعت مهاراتك أكثر مما كنت تتخيل؟”
“حتى وإن كانت شفتاك ملتويتين، يجب أن تنطق بالحق”
تذمر هنري وهو يدفع بجثة القاتل بعيدًا:
“لم أكن أملك مهارات أصلًا”
كان هنري قد نال لقب فارس بفضل واسطة، وعندما فقدها، دُفع به إلى ساحات القتال كما يُلقى الحمل بين أنياب الذئاب.
“كم يومًا مضى منذ بدأ هذا الجحيم؟ لا شك أن حظي عاثر هذا الشهر”
رفع هنري نفسه بصعوبة مستعينًا بسيفه كعكاز.
كان قد وصل إلى قصر راينلاند منذ ثلاثة أيام لحراسة جوديث، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف هجمات القتلة.
أما إيرن، الذي كان يقاتل أغلب الوقت بمفرده، فقد بدأت علامات الإرهاق تظهر عليه، حتى بات الضماد على ذراعه باليًا، وجراحه تتزايد مع كل يوم.
“ماتوا جميعًا مجددًا”
توقف إيرن وهنري عن الجدال، وحدّقا بجوديث التي كانت تنظر إلى إحدى الجثث هامسة بكلمات مشؤومة.
تحت شعرها الأشعث، تلألأت عيناها ببريق حاد وهي توبيخهما:
“كم مرة طلبت ألا تجهزوا على أحد؟! كيف سنعرف من وراءهم إن أجهزتم عليهم كل مرة؟!”
“ولماذا تنقلب عيناكِ كلما أمسكتِ سيفكِ؟!”
صرخ هنري بانفعال.
احتقن وجه إيرن بالغضب.
لولا جهودهما، لما بقيت جوديث ولا هنري على قيد الحياة.
ورغم ذلك، ظلت جوديث تعض شفتيها مصممة.
لا بد من تغيير الخطة، وإلا سنهلك قبل أن نكشف عمن يلاحقنا…
“من قد يكون وراء كل هذا؟”
أخذت جوديث تحصي الاحتمالات:
شخص يملك المال، والدافع، والقدرة على إرسال قتلة بلا انقطاع.
لم تسيء إلى أحد مؤخرًا…
سوى رفضها لعرض كليف الذي حاول انتزاع لقبها.
“هل أرسل القتلة انتقامًا؟”
كليف يمتلك المال والدافع.
ومع ذلك، بدا التنفيذ مبالغًا فيه؛ ستة قتلة من أجل امرأة واحدة؟
هل الهدف الحقيقي كان إيرن؟
لكنه كان متخفيًا، ولم يعرف أحد حقيقته سوى هنري… وليون.
ليون!
آخر مرة رأى فيها إيرن دون قناعه كانت بحضور ليون.
لكن…
هل لليون مالٌ كافٍ لاستئجار قتلة؟ مستبعد.
همست جوديث مفكرة:
“ليون كان بحاجة ماسة إلى المال… ومن مصلحته بيع هذه المعلومة لمن يدفع أكثر”
ومن غير كليف، الذي سبق أن اشترى ليون لبيع شقيقته؟
“قبل أن يتعرض إيرن للسم، كان قد خرج للقاء أحدهم…
وكليف كان المعتاد على دفع ثمن شرابه”
بات احتمال تورط كليف أقرب إلى المنطق.
قال هنري مؤيدًا:
“لكن هذا كله مجرد استنتاج، لا دليل قطعي لدينا”
أومأت جوديث بإصرار:
“لا بأس، سنحاول استدراجه عبر التحقيق، حتى لو لم نقدم بلاغًا رسميًا”
“وماذا عن ورقة الضغط؟” سألها هنري بحذر.
ابتسمت جوديث بخبث وقالت:
“أعتقد أن هناك شيئًا قد يكون مفيدًا جدًا…”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ15
أصابني الذهول حين أبصرت الكونتيسة تقترب نحوي بخطًى حثيثة. تُرى، هل وقع أمر جلل؟
تطلعت إلى وجهي الشاحب، وقالت وهي تحدق بنظرة فاحصة: “لا تبدين بخير”
تساءلتُ في خلدي إن كان هذا الشحوب ناتجًا عن اعتلال جسدي، أم أن الصدمة التي انتابته حين علم ببقاء المرأة التي حاول اغتيالها على قيد الحياة، قد نزفت دمه.
أجبتُ بهدوء: “نعم، كان لديّ بعض الالتزامات”
أخذتُ أعبث بحافة فنجان الشاي، وهمست بجملة مشحونة بالمعاني.
كنتُ قد وجهت دعوة لكليف لزيارتي في قصر راينلاند لوداعه، غير أنه أصرّ على لقائي في صالون عام.
قلت: “لقد تسلل قاتلٌ إلى القصر”
ارتسمت الدهشة على ملامح كليف، واتسعت عيناه وهو يسأل باضطراب: “قاتل؟! من ذا الذي يرسل قاتلًا إلى السيدة؟”
كان صوته ينضح بالقلق، إلا أنه غفل عن أمر بالغ الأهمية: كيف استطعتُ النجاة من محاولة القتل؟
أما كان يجدر به أن يتساءل كيف تمكنتُ، وأنا امرأة وحيدة، من الإفلات دون أن يصيبني أذى؟
تساءلتُ بيني وبين نفسي: أهو غافل، أم أنه يعلم من الذي تكفل بالقضاء على القاتل؟ سؤال لن يطول بي الانتظار حتى أجد له جوابًا.
تابعت قائلة: “لقد تمكنا من أسر القاتل حيًا”
تنهدت بعمق وكأنما استنفدت تلك المهمة ما تبقى لي من طاقة.
في الواقع، لم ينجُ أحد من أولئك السفاحين، غير أن الطرف الذي بعثهم لن يتمكن من الجزم إن كانوا جميعًا قد قُتلوا أم أن ثمة من أفلت ليكشف المستور.
سألني كليف، محاولًا التماسك، فيما كانت عيناه تضطربان: “أسرتِه حيًا إذن؟”
أومأت مجيبة: “نعم.
واستجوبته أيضًا”
ثم أطلقتُ أولى قذائفي نحو هدوئه المصطنع: “ولكن، يا سيد كليف، ألا يثير فضولك كيف ظفرتُ بالقاتل واستجوبته؟”
ارتعشت أصابعه عند سؤالي.
تبًا له، لقد كان يعلم كل شيء حين وافق على لقائي.
كانت نبرتي، رغم هدوئها الظاهري، تخترقه كطعنة باردة، كتلك التي قد توجه عن طيب خاطر إلى نوع الشاي المقدم.
منذ أن استلم رسالة دعوتي، لم يفارق القلق قلبه. كان بوسعه تجاهلها، لكنه أدرك أن الفرار لن يجديه نفعًا.
يقال إن الهواجس السيئة لا تخطئ.
وما إن عبس وجهه حتى التفتُّ إلى الطاولة المجاورة، حيث جلس رجلان ضخما البنية.
أحدهما، حين التقت عيناه بكليف، أسدل قليلًا من القماش الذي يغطي وجهه.
رآه كليف، فارتعد كمن رأى شبحًا، وهتف، مشدوهًا: “…إيرن!”
اهتزت يداه على ركبتيه، وتجمدت أنفاسه.
كيف عاد إيرن إلى الحياة، وقد تأكد بنفسه من موته؟
شحُب لونه كمن صادف كابوسًا يقظًا، غير أن إيرن، مهما بلغ به الغضب، لن يقدم على قتله في مكان مكتظ كهذا.
استعدتُ انتباهه إليّ، وقلت بنبرة قاطعة: “سيد كليف، لماذا أرسلت قاتلًا لاغتيالي؟”
ظل صامتًا، وكأنه يتمسك بخيط واهٍ من التفكير للخروج من الورطة.
ابتسمت، ولوّحت بيدي إيماءة خفيفة تنم عن تسامح مُتصنع: “لا داعي للرد الآن.
لستُ مهتمة بالسبب…
أردت قتلي أو قتل إيرن لنيل اللقب، أليس كذلك؟ لا بأس”
بدت على وجهه علامات الصدمة.
تابعتُ، بنبرة خفيفة تنذر بما هو آتٍ: “لقد تأذت حياتي كثيرًا بسبب القاتل الذي أرسلته، لكن لا بأس”
توقفتُ لحظة، ثم أكملت: “لقد اتفقتُ مع زوجي على أن نغفر لك، شرط أن تعوضنا عن الأضرار”
شهق كليف كمن تلقى لطمة.
سأل مذهولًا: “تعنين أن كل شيء يُمحى بالتعويض؟”
أومأت: “نعم.
هذا هو الاتفاق”
شعرت أنه استوعب أنه لا مفر له سوى الرضوخ.
تابعتُ محذرة: “على أن تعلم، يا سيد كليف، أنني سأطرح عليك بعض الأسئلة، وإن أجبت عنها بصدق، فلن ألاحقك قانونيًا ولا جسديًا”
فالشكوى القانونية قد لا تُجدي، بما أنه محامٍ ماهر قادر على التملص بفعل غياب الأدلة، لذا كان الأجدى أن أنتزع منه ما أريد دون صخب.
وافق إيرن دون تردد، رغم مرارة الخيانة التي تجرعها.
قلت بلهجة صارمة: “وثمة أمر آخر… يجب أن تتعهد بعدم إرسال مزيد من القتلة”
سكت كليف طويلًا، ثم أومأ برأسه، مستسلمًا.
قال: “أعدكِ بذلك. وسأجيب عن أسئلتك بصدق”
كان يفرغ فناجين الشاي كأن حلقه جمرٌ ملتهب.
سألته مباشرة: “كيف عاد السير إيرن إلى الحياة؟”
أجاب كليف، وقد خيم عليه صدق لم أعهده منه: “هذا ما كنت أرغب في معرفته أنا أيضًا”
وتابع بتلعثم: “لقد دسست السم في شرابه، وشهدت موته بنفسي.
الطبيب أكد وفاته… ثم فجأة…”
توقف عن الكلام، وسعل بشدة.
فجأة، غطى فمه بكفه، لتتفجر الدماء من بين أصابعه.
وقبل أن أهب لمساعدته، كان قد انهار أرضًا، يتقيأ الدماء بغزارة.
—
مضت ساعات وأنا أجلس وحيدة في قسم الشرطة.
استجوبني الشرطي قائلا: “ما هذه القارورة؟ أهي ملككِ يا آنسة هارينغتون؟ هل تحتوي على سم؟”
اتهموني بمحاولة قتل كليف آكيرمان، خاصة بعد العثور على قارورة صغيرة كنت قد أخفيتها في كم ردائي.
أنكرت قائلةً إنها لا تحتوي على سم، بل مصل الحقيقة، طلبته من هنري قبل لقائي بكليف، إذ لم أكن أضمن صدقه، فرششته خلسة في كأس الشاي.
ولحسن الحظ، كان مصل الحقيقة، وإن نادر الوجود، قانونيًا.
سألني الشرطي بشك: “لكن لماذا تقيأ السيد كليف الدماء وانهار؟”
تظاهرت بالدهشة قائلة: “هذا ما أجهله أيضًا!”
وفي الحقيقة، لم أكن أفهم ما جرى.
لماذا نزف كليف دمًا عقب تناوله مصل الحقيقة؟ وهل سيؤول بي الأمر إلى السجن؟
كان إيرن وهنري قد اختفيا تمامًا، تاركينني أواجه مصيري منفردة.
قال الشرطي: “اشربي من القارورة إن كنتِ تدّعين أنها غير سامة”
صرخت: “أتريدون دفعي إلى الانتحار!”
غير أنه تجاهل توسلاتي، وأحكم إغلاق الزنزانة.
جلستُ أحدق بالجدران الكئيبة وأعض أظافري، ينهشني القلق.
ماذا لو مات كليف فعلًا؟ ستطول التحقيقات… والمحاكمات…
وماذا عن مشاريعي التجارية؟ أيكون هذا هو الهلاك الذي حذرني منه الجميع؟
فجأة، تناهت إلى سمعي جلبة في أنحاء مركز الشرطة.
اقترب الشرطي الذي حبسني، وفتح باب الزنزانة.
سألته، بالكاد أصدق أذني:
“هل أسقطت عني التهم؟”
أجاب ببرود: “الماركيز موسلي تكفّل بأمركِ”
تجمدت مكاني، هامسة بدهشة مذهولة:
“من يكون هذا الماركيز موسلي؟!”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ16
من هو ماركيز موسلي؟ وهل بمقدوره أن يضمنني؟
رغم أن الفضول كان ينهشني، إلا أنني تظاهرت بالود وغادرت مركز الشرطة.
طوال الطريق، كنت أنقّب في ذاكرتي بحثًا عن اسم ماركيز موسلي، ولكن مهما أجهدت فكري، لم أفلح في استحضار أي ذكر له، وكأنني لم أسمع به قط.
خرجت غارقة في الحيرة، فوجدت هنري ينتظرني أمام مركز الشرطة، يلوّح لي بيده.
“أحسنتِ، سيدتي.
آمل أن كل شيء سار على ما يرام”
“لم يحدث شيء يُذكر.
ولكن، ما الذي حدث بالضبط، سيدي هنري؟”
اقتربت منه وهمست بخفوت:
“الماركيز موسلي هو من كفلني.
هل تعرفه؟ وهل يعرفك هو؟ يبدو رجلًا ذا مقام رفيع”
مع أنني لم أكن أعرفه، إلا أنه لا بد أن يكون صاحب نفوذ واسع، إذ استطاع بتوصية واحدة أن يرفع عني شبهة محاولة قتل دون عناء يُذكر.
قال هنري بهدوء: “إنه من خاصّة جلالة الإمبراطور”
أومأت بفهم.
حاولت أن أتذكر إن كان قد ورد ذكره في الرواية الأصلية، لكن ذاكرتي خذلتني.
كم كان عدد الذين أحاطوا بالبطل؟ لم يعلق في ذهني سوى مساعد وصف إيرن ذات مرة بأنه “أحمق متهور”.
تابع هنري موضحًا: “ولا صلة لي بالأمر، بل هو من معارف إيرن”
“اللورد إيرن؟ إذن له علاقة به أيضًا؟”
اتسعت عيناي دهشة.
كان من الغريب أن يمتلك شخص بمزاج إيرن المتقلب أصدقاء، والأغرب أن يكون له معارف يقدمون له هذا النوع من العون السخي.
كانت مفاجأة تفوق صدمتي يوم رأيت كليف يتقيأ دمًا.
صوت مألوف وقاسٍ اخترق أذني من الخلف:
“ما كان الأمر ليستحق عناء إنقاذك”
تشنج جسدي.
التفتُّ لأجد عينيّ إيرن تلتقيان بنظرتي، وهو يمسح وجهه بكفه، وكأنه يحاول طرد انزعاجه.
تنهد قائلًا:
“رغم سوء طبعي، إلا أن سماعك لهذا الكلام يثير غيظي”
رددت بسخرية:
“وما هو طبعك؟ من النوع الذي يعيش خارج حدود القانون؟”
ابتسم إيرن ساخرًا وقال:
“وهل يليق بمن خرجتِ تواً من مركز الشرطة أن تتحدث بهذه الطريقة؟”
ورغم سخريته، بدا عليه الارتباك حين انهار كليف وتقيأ الدم.
كان مترددًا بين اللحاق بكليف المترنح والمحمول إلى خارج القاعة، أو بالبقاء مع جوديث التي كانت تُسحب بيد الشرطة.
سأل بقلق:
“لو اتُهمت بتسميمه، كم سأمكث رهن الاحتجاز؟”
أجابه هنري بجديّة:
“شهر على الأقل، وإن مات كليف، ربما سنة كاملة. هذا إن تمكنت من إثبات براءتك”
وإن لم يستطع، فالعقوبة ستكون الإعدام.
أطرق إيرن رأسه مع تفسير هنري الإضافي، وضغط على أعصابه قائلًا:
“هنري، اذهب إلى ماركيز موسلي، وأخبره بوفاة كليف، واطلب منه أن يعتني بزوجته التي عقد قرانه عليها قبيل موته”
تردد هنري قليلًا قبل أن يسأله:
“أتظن أن المركيز سيلبي طلبك؟”
أجابه إيرن بثقة:
“له دين قديم في عنقه، ولن يردني خائبًا”
غادر هنري، بينما شق إيرن طريقه نحو الشرطة، مدفوعًا بإصرار لاجتثاث الحقيقة من كليف، سواء عاش أو مات.
لكن خطوات جوديث المرتجفة ووجهها الشاحب لم يتركا له خيارًا آخر.
وقف أمام مركز الشرطة يترقبها.
وما إن خرجت، رمقته بنظرة ساخرة قائلة:
“بمزاجك ذاك، أتملك معارف؟”
كان سؤالها مزعجًا للغاية.
سألها:
“ماذا حل بالسيد كليف؟”
أجابته:
“نُقل إلى قصره لتلقي العلاج”
عاود سؤاله، بقلق بادٍ:
“أتراه لا يزال حيًا؟”
همست جوديث وكأنها تطمئن نفسها:
“أتمنى ذلك… إنه السبيل الوحيد لنيل التعويض”
راقب إيرن ملامحها، وقال في نفسه: بالنسبة لها، لا بديل عن القانون.
—
كان كليف يتلوى فوق فراشه من الألم. توقف النزيف، غير أن الحمى كانت تفتك بجسده.
“ثبتوا أطرافه!” أمر الطبيب.
هرع أربعة خدم لإحكام قبضتهم عليه.
اقترب الطبيب، بثوبه الأبيض الناصع، ودسّ دواءً بين شفتي كليف المرتعشتين.
“ابتلع هذا، وستنجو”
تدفق السائل في حلقه، وخفت أنينه شيئًا فشيئًا.
“تنفس بعمق”
مسح الخادم العجوز الدم عن فمه بحرص.
بدأ كليف يستعيد وعيه ببطء.
تذكر فجأة.
تلك المرأة…
هل كانت هي من دس السم في شايه؟
همّ بالسؤال عن جوديث، لكن منظره تجمد حين وقع بصره على الطبيب الغريب.
حاول النطق، غير أن صوته كان أجشًا غريبًا.
اقترب الطبيب، يبتسم بلطف زائف وقال:
“ألست تعرفني، سيد كليف؟ التقينا مرارًا”
اتسعت حدقتا كليف رعبًا حين أدرك هوية الرجل.
“نحن دوماً إلى جانبك”
أدار رأسه نحو الخادم العجوز، الذي ابتسم له ابتسامة خبيثة.
شعر كليف بالخيانة تعتصر قلبه.
حاول تحريك أصابعه، لكنه عجز حتى عن طرفها.
رعب أسود اجتاحه حين اكتشف عجزه التام.
تابع الطبيب، ما زال يبتسم:
“كان يجدر بك التواصل معنا قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد”
صرخ كليف محتجًا، لكن صوته خانه.
ربت الطبيب على كتفه مطمئنًا:
“لا تقلق، سنهتم بك جيدًا.
فما زلت نافعًا لنا… لكن عليك أن تعدنا بعدم التفوه بكلمة واحدة”
—
توقفت هجمات القتلة، كما اختفى كليف فجأة.
سأل إيرن بعد أيام من البحث:
“هل عرفتم إلى أين ذهب؟”
أجابه أحدهم:
“يُقال إنه نُقل إلى دار نقاهة”
[أو دار الرعاية، بمعنى مستشفى…]
بعد أن أنقذ جوديث من الشرطة، انطلق إيرن بحثًا عن كليف.
لم يكن اقتحام قصره مهمة صعبة، لكن إيقاظ مريض فاقد للوعي كان مستحيلًا.
حين عاد لاحقًا، كان كليف قد اختفى.
قضى إيرن أيامًا يتنقل حتى اهتدى إلى مكانه الجديد.
تمتمت جوديث بقلق:
“من ذا الذي يهرب من مصحة ليلًا؟”
أومأ إيرن:
“سأتتبعه”
وافقت جوديث وهي ترى الإصرار في عينيه.
ومع توقف القتلة عن الظهور، شعرت بشيء من الطمأنينة، لا سيما بوجود هنري إلى جانبها.
خطط إيرن للانطلاق ما إن يستلم بطاقة هوية مزورة.
استغرق الأمر عشرة أيام بسبب ازدحام الطلبات.
تذمر:
“حتى البطاقات المزورة تحتاج إلى حجز مسبق!”
ورغم امتعاضه، كان هذا التأخير فرصة ثمينة لاستعادة كليف لعافيته.
غير أن المشكلة الحقيقية كانت تكمن في مكان آخر.
ذات مساء، اقترب إيرن من جوديث التي كانت تصنع الشموع وسألها:
“ألا يجدر بك رد الجميل لي؟”
ابتسمت بمكر:
“دعني أخمن…
أنت بحاجة إلى شيء ما؟”
أجاب دون مواربة:
“اشتري لي حصانًا”
رفعت رأسها بدهشة.
تابع شارحًا:
“كليف غادر بعربة، فكيف لي أن ألحق به سيرًا على الأقدام؟”
قهقهت وقالت بسخرية:
“لم أكن ممتنة لك إلى هذا الحد! لماذا لا تستأجر حصانًا؟ سمعت أن هناك من يؤجرها”
ارتسمت على ملامحه غصة، لكنه لم يعلق.
ناولته سلة وقالت:
“احمل هذه”
تمتم معترضًا:
“والآن تُثقلين عليّ بالعمل؟”
ضحكت وقالت:
“سأكافئك بلحم مجفف وزمزمية جديدة”
—
وهكذا، وجد إيرن نفسه يحمل السلة منتظرًا جوديث، يشعر كأنه كلب صغير بانتظار مكافأته.
وفي اللحظة التي همّ فيها بالاقتراب منها، ظهر فجأة شاب طويل القامة، وسيم الطلعة، يناديها:
“آنسة، آنسة، لحظة من فضلكِ”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ17
“أنا؟”
“نعم”
الرجل الذي أجاب بخجل، كان يحمل باقة ضخمة من الزهور بين يديه.
رمقت الباقة ثم وجهه الوسيم، وصفّقت بكفّيّ من فرط الدهشة.
“ألم نلتقِ هنا سابقًا؟”
“أنتِ تتذكرينني…
لقد رأيتكِ عدة مرات”
كما توقعت، كان رجلاً بملامح لا تُنسى. أن يتقدّم إليّ رجل بهذا القدر من الوسامة وهو يحمل باقة زهور ويتحدث إليّ؟ أي معنى يمكن أن تحمله هذه اللحظة؟
“حتى وإن بدا قولي غرورًا، فإن (جوديث) بالفعل فاتنة”
لعبت بشعري بخفة دون سبب واضح، ثم أزحته خلف أذني بحركة مترددة.
“هل لديك ما ترغب في قوله لي؟”
“هل تقبلين هذه؟… إنها هدية مخصصة للبارونة”
مدّ الرجل يده بالباقة إليّ.
لم أتمكن من التقاط الاسم بوضوح بسبب مرور عربة صاخبة في تلك اللحظة، لكن بما أنني من عائلة البارونة، افترضت أنها موجّهة إليّ.
في حياتي السابقة، كنت غارقة في جمع المال حتى غفلت عن الحب والمواعيد الرومانسية.
يبدو أن حياتي الجديدة تحمل لي وعودًا أجمل.
“أود أن تصنعي شمعة خاصة للآنسة”
“هاه؟”
توقفت ابتسامتي في منتصف الطريق، بين استغراب وارتباك.
أنا صانعة شموع، وهو يطلب مني صنع شمعة؟ بدا الطلب غريبًا.
“أرجوكِ، أود أن تصنعي شمعة فريدة مستخدمة هذه الزهور لابنة البارون بريغز”
—
كان اسمه زارك فان هينسون.
كان يبحث عن هدية مميزة ليقدمها لحبيبته، ابنة البارون بريغز، استعدادًا لخطبتها.
وأثناء تجواله، وقعت عيناه على الشموع الملونة التي كنت أعرضها للبيع، فألهمته فكرة مبتكرة.
أن يجفف بتلات الزهور ويزين بها شموعًا حمراء دافئة، كأنما ينثر ورود الحب فوق وهج الشوق.
رأى في ذلك هدية تنطق بالمعنى، لا تمر مرور العابرين، ودفع عربونًا سخيًا.
“كنتِ متزوجةً من قبل…
كم أشفق على الآنسة هارينغتون وقد فاتها نصيبها!”
“لماذا أنا؟”
“لأنك فرحتِ وظننتِ أنه يعترف لكِ بحبه”
“…لم يحدث شيء كهذا!”
احمرت أذناي خجلًا.
ليتني لم أصرّ على أن يرافقني إيرن.
تصرّفي الأحمق جعلني أبدو كالغبية.
بل كان الأجدر بالسيد زارك أن يوضح منذ البداية أنه جاء لطلب شمعة، لا أن يلوّح بالزهور هكذا! كم شخصًا كان سيفهم الأمر بطريقة صحيحة؟
“كوني صادقة…”
“بماذا؟”
“هل ترددتِ في إخباره أنكِ كونتيسة، لا مجرد بارونة؟”
ضحك إيرن بمرح، يروي الحكاية منذ لحظة دخول زارك إلى قصر البارون وتسليم الباقة والعربون، ولم يكف عن الضحك حتى عودتنا.
كنت أغلي من الغضب.
حاولت أن أباغته بضربة، لكنه تفاداها بحركة كسولة من كتفه.
وكالعادة، لم تجنِ قبضتي شيئًا.
“قلتِ أنكِ ستشترين لي لحمًا مجففًا”
“اشتريه بنفسك”
رميت له بقطعة نقدية بلا اكتراث.
“اشترِ بها لحمًا وزجاجة ماء جديدة، ولا تنس خمس حبات بطاطا.
واحتفظ بالباقي”
“كيف سأشتري كل هذا بقطعة نقدية واحدة؟”
“دبّر نفسك”
“يا لكِ من بخيلة!”
تذمّر إيرن وهو يقلّب القطعة النقدية بين أصابعه، ثم أردف بمكر:
“لو أجابني أحدهم بصراحة، لذهبتُ راكضًا.
لو كان زارك قد اعترف لكِ، هل كنتِ ستقبلين؟”
“آه، كفّ عن التفاهات!”
انفجر ضاحكًا بعد أن نال قطعتين فضيتين إضافيتين لقاء صمته.
—
بمجرد دخولي القصر وحيدة، بدأت بتجفيف الورود بعناية.
كنت أتخيل كيف ستبدو الشمعة الحمراء مرصعة ببتلات الورد المجففة.
“ربما أضيف بضع زهور متناثرة هنا وهناك؟”
أخرجت صندوقًا صغيرًا من سلتي وأنا أخطط لأشكال الشموع المختلفة.
“هل يمكن وضع هذا الخاتم داخل الشمعة؟”
“داخل شمعة؟ أستطيع، لكن الشمع قد يغلفه فلا يمكن ارتداؤه”
“لا بأس…
أريده للزينة فقط”
لم يسبق أن طُلب مني من قبل أن أخفي خاتمًا داخل شمعة.
“مع أنه يقول إنه اشتراه من سوق احتفالي، إلا أن هذا الخاتم لا يبدو رخيصًا”
ابتسمت بخفوت.
“ليس من شأني”
مهمتي أن أنفذ الطلب فحسب.
ورغم سخرية إيرن، إلا أن الأجر كان مجزيًا.
“لابد أنه يحبها بصدق”
أعدت الخاتم إلى علبته وأغلقته بإحكام، ثم شرعت بترتيب المواد الجديدة.
تحققت من مخزون الشموع، وأضفت مسحوقًا أزرق اللون، وبدأت تجربة صنع شمعة جديدة.
بعد العشاء وبعض المشاحنات الصغيرة مع إيرن، أنهيت عملي قرب منتصف الليل.
تسللت إلى سريري متعبة، أدلك كتفي المتصلبين، وزحفت تحت الغطاء شبه غافية.
صرير… صرير…
ما هذا الصوت؟
ارتعشت جفوني. حبست أنفاسي وأرهفت السمع. لم أسمع سوى صفير الرياح خلف النافذة.
صرير…
عاد الصوت من جديد.
هل كان بكاء؟
فتحت عيني ببطء… وتيبست في مكاني.
لم يكن في القصر سوانا أنا وإيرن.
هل إيرن يبكي؟
آه… آه…
لكن الصوت كان ناعمًا… كصوت بكاء امرأة أو طفل.
شعرت بقشعريرة تسري في أوصالي.
آه…
الصوت يقترب.
لا تفتحي عينيكِ.
شعرت به يمر بمحاذاة أذني.
كان عليّ التظاهر بالنوم.
لكن جفوني خانتني وارتجفت قليلاً، ومن خلال شق ضيق بين رموشي، رأيته.
كائن أسود، يحدق بي بسكون مخيف.
—
وفي تلك الأثناء، في غرفة إيرن…
آه…
ظل إيرن مغمض العينين حين سمع البكاء البعيد.
هل تبكي جوديث؟
“…”
لعلها أوهام.
رفع جسده قليلًا، ثم استسلم للنوم مجددًا حين خفت الصوت.
جوديث لم تكن من النوع الذي ينهار بهذه السهولة.
ضحك وهو يسترجع ارتباكها عندما ظنت أن زارك يبوح لها بحبه.
كنت أظنكِ لا تهتمين إلا بالمال، فإذا بكِ تتوقين للحب؟
“مجرد رياح عابرة”
فزوجها لا يزال حيًا.
متى شاءت لجأت إليه، تناديه بـ”عزيزي” ليلًا ونهارًا، ثم تتردد فجأة.
أمرها محيّر.
صرير…
بكاء حقيقي هذه المرة.
نهض إيرن بحذر، التقط سيفه، وخرج إلى الرواق.
آه… آه…
كان ينوي التوجه نحو غرفة جوديث، لكنه التفت فجأة إلى الاتجاه المعاكس.
“…”
لا شيء.
تقدم بخطى خفيفة، يتفقد الزوايا بعينين متيقظتين.
وما إن أشهر سيفه بحذر حتى…
صرير… صرير…
انسكب صوت البكاء فوق سمعه، ومن طرف الرؤية، لمح شيئًا أسود بعيون متوهجة بلا بياض.
تجمد الدم في عروقه.
وفي طرفة عين، اختفى الكائن كأنه لم يكن.
“…ما هذا؟”
ظل إيرن واقفًا في ذهول، عاجزًا عن تصديق ما رآه. هل كان طيفًا، أم حقيقة؟
لكن تلك العيون السوداء الملتهبة ظلت منقوشة في ذاكرته.
—
“آه… كتفي”
في صباح اليوم التالي، وأنا أحمل دلواً من الماء، كنت أفرك عنقي وكتفي المنهكين.
لم أشعر أنني نمت كفاية.
“أكاد أجزم أنني رأيت شبحًا”
كان الحلم حيًا أكثر من اللازم. ليلاً ارتجفت رعبًا، أما الآن فقد بدد نور النهار معظم ذلك الهلع.
“الجو ملبد بالغيوم”
قال إيرن وهو يراقب السماء الرمادية من خلف النافذة.
كان المطر قاب قوسين أو أدنى.
“طقس مثالي لقيلولة”
بدا وكأن الليل ما زال جاثمًا.
“هل تخطط لأخذ قيلولة بعد أن استيقظت للتو؟”
“لا عمل مهم اليوم”
ردّ بكسل، متمددًا أمامي بثقة مستفزة.
“لماذا تتمدد هناك وكأنك تنتظر الضرب؟”
“ولم لا؟”
لوهلة، فكرت أن الوجوه الوسيمة لا تشفع لأصحابها عند استفزاز الآخرين.
“متى ستصل بطاقات الهوية المزورة؟”
“مستعجلة لطردي؟ لتبدئي بمواعدة الرجال بحرية؟”
“…”
كم مرة سيكرر هذا الكلام الفارغ؟
“لو استمر الأمر، سأتزوج مجددًا”
“وما المشكلة؟”
“هاه؟”
“إن وجدتِ رجلاً صالحًا، فتزوجيه.
لا داعي لقضاء حياتك في وحدة”
لم أكن ألهث خلف الزواج، لكنني لم أُغلق بابه تمامًا أيضًا.
“أما أنا، فسأتزوج رسميًا بهويتي الجديدة”
“يا لك من محتال”
تمتمت وأنا أتفقد الورود الجافة، متعمدة رفع صوتي.
“لكن من ستتزوج رجلًا ينام من الفجر؟”
“لا تقلقي، آنسة هارينغتون.
لدي صف طويل من المعجبات، سواء كنت مستيقظًا أم نائمًا”
—
وفي ليلة هادئة، بدأ المطر يهمي بلطف، يدق النوافذ بوقع حالم.
ولسبب غامض، سهرت الليل بطوله أتقلب في فراشي…
دون أن يطرق النعاس أجفاني.
آه…
مجدداً…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ18
نشيج… نشيج…
تردّد صدى البكاء في الغرفة، كما حدث ليلة الأمس، اقترب مني حتى كاد يلامس أذني، وشعرت بنظراته تنسكب على وجهي بثقل يكاد يكون ملموسًا؛ فارتعشت برودة خفيفة حيثما عبر.
أهو شبح؟ أم أن قصر راينلاند نفسه قد انقلب إلى كيان غامض؟
لا أعلم تحديدًا ما الذي أتعامل معه، ولكن تكرار هذا المشهد كل ليلة لا ينبئ بخير.
أنا بالكاد أنال قسطًا ضئيلًا من الراحة أصلًا، فهل سأخسر حتى هذا اليسير؟
إن استمر الحال هكذا، سيتدهور أدائي، وسأعجز عن صنع الشموع بالكميات المطلوبة، مما سيؤدي لانخفاض دخلي.
وسط هذا السواد القاتم، تساءلت:
ما الذي يجدر بي أن أخشاه أكثر، الأشباح أم الدائنين؟
بالتأكيد، الدائنون أكثر رعبًا.
نهضت من السرير، تناولت قدرًا بيدي، وتسللت عبر الرواق المظلم.
نشيج… نشيج…
أين أنت؟
استدرت ببطء، قابضًا على القدر كمن يستعد لهجوم مباغت.
كان الممر أكثر عتمة من المعتاد، وشعرت فجأة بوجود خلفي جعل شعري يقف من الفزع.
بدون تفكير، ألقيت القدر بكل قوتي، ارتطم بالحائط بعنف، وكدت أنهار من الارتباك.
“آه!”
لف ذراع قوي خصرى ليمنعني من السقوط.
“أكنت أنت؟”
“سيدي إيرن؟”
رفعت يدي في الظلمة أتحسس ملامحه.
“كفِ عن التلمس”
قالها وهو يبعد يدي عن كتفيه وصدره، ثم أطلق خصري فسقطت وارتطم رأسي بالجدار.
“آه!”
“أتلهين وسط هذا الظلام؟ تصرف وضيع”
“وماذا عساي أن أفعل إن أفلتني فجأة؟”
تمتمت بضيق وأنا أدلك جبيني المتألم.
كأن لمسة كتفك كانت ستفنيك!
سألني:
“أنت أيضًا خرجت تتبعين صوت البكاء؟”
“نعم.
كنت أسمعه منذ الليلة الماضية”
إيرن، الذي تجاهل الأمر مدعيًا النوم بالأمس، استيقظ أخيرًا هذه الليلة ليتحرى الأمر، ليصطدم بي، أنا الأخرى، أسعى خلف نفس الصوت.
“وهذا القدر؟ أكنت تعتزمين ضرب الباكي به؟”
“دعنا نقُل إنها محاولة للسيطرة”
“تصرف مبالغ فيه! بدلًا من مواساته، هاجمته!”
“وهل هذا يصدر عن فارسٍ يشهر سيفه مع كل طارئ؟”
“الفارس وسيفه كيان واحد”
“طبعًا، بلا شك”
تجاهلت تبريره وعدت أتحسس الجدران حتى بلغت غرفتي، حيث أوقدت نارًا صغيرة في المدفأة وأرتميت أمامها، أفرك عنقي المتصلب بتوتر.
إيرن تبعني دون دعوة، وضع سيفه جانبًا، وجلس قبالتي.
سألته بسخرية:
“أيها الفارس العظيم إيرن راينلاند، ما ظنك بهوية هذا الكائن؟”
أجاب وهو يتنهد:
“أراه شبح المال، جاء يندب طمع صاحبه”
التقت نظراتنا واشتعل بيننا جدل صامت.
“لو كان شبح مال، لأحدث ضوضاء أعظم.
أما هذا البكاء، فصاحبه روح حزينة”
“على الأقل لم يلحق بنا أذى حتى الآن”
كان فقط يتجول باكيًا، دون أن يؤذينا.
“لكن لا يصح أن نستمر على هذا المنوال.
نحتاج إلى مختص”
أومأت برأسي موافقة.
فمهما حاولنا، لن نصل للحقيقة وحدنا.
“تعرف أحدًا؟”
“هنري.
خبير بالوسطاء الروحيين”
آه، هنري… تذكرته جيدًا.
وبينما كنت ألقي بالحطب في المدفأة تحضيرًا لصنع شمعة جديدة، تسلل النعاس إلي فجأة.
رأسي ترنّح للأمام ثم ارتد للخلف حتى أوشكت على السقوط.
“آه…”
فتحت عينيّ نصف فتحة، مسحت فمي بكسل، ثم أغلقتهما ثانية.
“انهضي!”
“لا”
إيرن سارع بأمساكي قبل أن أسقط، حملني بخفة لا تصدق، وكأنني لا أزن شيئًا.
همس لي وهو يربت على خدي:
“لماذا تعذبين نفسك هكذا؟”
كان يدرك جيدًا أنني أقاتل لأجل سداد الديون، قتالًا لا يخوضه إلا قلة.
أسند ظهري إلى السرير وجلس قربي، مائلًا رأسه بين يديه، يفكر بي بقلق.
ولكن، لم يلبث هو الآخر أن استسلم للنعاس…
نشيج… نشيج… نشيج…
“… اللعنة، إنه أمر مزعج للغاية”
“تبًا! اتصل بالوسيط حالًا!”
ظل البكاء يتردّد حتى مطلع الفجر دون انقطاع.
—
“مؤسف”
مضى يومان دون جدوى.
وحين حضر الوسيط أخيرًا، بدأ على الفور برش الملح في أرجاء القصر.
“الطاقة الخبيثة تملأ المكان”
رغم فظاظته، شعرت بالاطمئنان؛ فمن يتصرف بجرأة كهذه لا بد أن يكون متمرسًا.
“رائحة الموت هنا حديثة العهد”
قالها بثقة، مشيرًا إلى موت حديث حصل في القصر.
“في بيئة كهذه، ستسمع كل أنواع الأصوات. أنصحكما بالرحيل”
رحيل؟ مستحيل.
يجب أن أتمسك بهذا القصر مهما كلف الأمر، خاصة قبل أن يرتفع سعره.
توسلت إليه:
“لم تكن هناك أصوات من قبل.
ظهرت فجأة قبل أيام”
بدت عليه ملامح التفكير العميق.
“هل أحضرتما شيئًا مستعملًا مؤخرًا؟ أثاثًا؟ ملابسًا؟”
هززت رأسي بالنفي.
كل شيء هنا مملوك لعائلة راينلاند.
عندها تذكرت: الشمعة المصنوعة من خاتم.
“الخاتم! هل يمكن أن يكون هو السبب؟”
أسرعت إلى الغرفة، حطمت الشمعة واستخرجت الخاتم من داخلها.
ألقى عليه نظرة فاحصة وقال ببرود:
“آه… الخلل ليس في الخاتم، بل في الحجر”
كان حجرًا كهرمانيًا عاديًا.
أشار إليه قائلاً:
“هذا الحجر مخلوق من دموع أم ثكلى فقدت جنينها.
دموع امتزجت بدمها ثم تصلبت”
شعرت بالقشعريرة تسري في أوصالي.
“وغالبًا، يُقتل الجنين عمدًا، ثم تُقتل الأم، فيُخلق هذا الحجر، المحمّل بأقصى مشاعر الحزن واليأس”
كان صراخ الأرواح العالقة في الحجر لا ينقطع.
تابع الوسيط تحذيره:
“لا يؤذي عامة الناس… إلا الحوامل”
رمقنا بنظرة غريبة، ثم تساءل بوقاحة:
“أنتم معًا، أليس كذلك؟”
“لا!”
صرخت مبتعدة عنه.
قطب إيرن حاجبيه بضيق.
“نحن لسنا كذلك!”
“ولكن حين يبيت رجل وامرأة تحت سقف واحد…”
قاطعته غاضبة:
“قلت لك لا!”
ابتسم بازدراء وأكمل:
“على كل حال، الروح المرتبطة بالحجر تبحث عن جنين.
وعندما تعثر على حمل حيّ، تظنه طفلها… فتسرق روحه”
شهقت بذهول:
“تسرقه؟”
“نعم، هذا صحيح.
الجنين يُقتل قبل أن يرى النور”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ19
“كان السيد زارك يعلم أن هذا الخاتم ملعون، أليس كذلك؟”
“من السخافة القول إنه لم يكن يعلم.
لو كان يجهل ذلك، لما خبّأه داخل شمعة، بل لتباهى به وهو يسلمه لي.
فلماذا كان سيجهد لإخفائه إذًا؟”
“تفه، حسبته رجلًا نبيلًا حين أغدق عليّ بالمال، فإذا به أضعف مما تخيلت”
وبينما كنت أضم شفتيّ بتأفف، قاطعني إيرن بجانبي قائلًا:
“قلت لكِ منذ البداية إن ملامحه لم تبعث في نفسي راحة”
أملت رأسي باستغراب؛ متى قال ذلك؟
“متى أخبرتني بذلك؟”
“ألم أقل؟ آه، صحيح…
كنتِ حينها غارقة في فرحتك، تظنين أنه سيبوح لكِ بمشاعره، فنسيت أن أخبرك”
هز إيرن رأسه بوجهه المستدير، وعندها فقط فهمت لِمَ كان كليف يتمنى القضاء عليه.
لا بد أن إيرن قد ارتكب جرمًا كافيًا ليستحق التسميم.
“كم أنت ماكر…
ليتك تطرد السيد كليف بنفسك بدلًا من الوقوف هنا”
“أنا أسمعكِ”
وهل قلتُ شيئًا خفيًا؟
“لو كنتِ تخفين كلامك، لما اضطررت لملاحقة كليف، ولكنتُ بقيت هنا”
خطر ببالي كلفة بقائه…
“هل أعتذر لك بصدق؟”
“هل تسعين لطردي، يا آنسة هارينغتون؟”
رغم اعتذاري، ظل إيرن يمعن في السخرية.
كان إرضاؤه مهمة شبه مستحيلة…
أطلقت تنهيدة ثقيلة.
“وماذا تنوين أن تفعلي بالخاتم إذًا؟”
“لدي خطة جيدة.
سأذهب إلى البارون بريغز”
“البـارون بريغز؟ ولماذا؟”
“أظن أن للسيد زارك علاقة بامرأة أخرى.
لقد سمعت من خادمات البارون أنه متورط بعلاقات نسائية معقدة”
وبما أن هذه القصص تعود إلى ما قبل خطوبته بابنة البارون، فمن الطبيعي أن تظل عاداته القديمة متأصلة فيه.
قد تكون هناك امرأة لم يقطع علاقته بها بعد…
أو ربما انتهت القصة لكن بعد فوات الأوان.
وربما كانت حكاية تقديم الخاتم لابنة البارون محض افتراء.
“لقد علمت أن البارون بريغز كان يعارض زواجه”
فالسيد زارك لم يكن الابن البكر، ولا حتى الثاني، وجاء من أسرة بارونية معدمة، رغم امتلاكه براعة في المبارزة لم تُكلل بلقب فارسي.
لم يكن يملك شيئًا سوى وسامته.
لذا عارض البارون هذا الزواج بشدة…
لكن أي والد يستطيع مقاومة دموع ابنته؟
على مضض، رضخ البارون لرغبتها حين أصرّت الشابة أن زارك هو نصيبها.
“يقال إن عائلة البارون ثرية، وابنته وحيدة.
فمن الطبيعي أن يرفض تزويجها لرجل معدم”
“يبدو أن الرجال دائمًا هم الرابحون”
“بالضبط.
ولهذا، كان من مصلحة زارك أن يظفر بابنة البارون مهما كلف الأمر”
ولو أن هناك أثر علاقة سابقة، لكان لزامًا إتمام الزواج.
ولهذا، كانت جوديث متأكدة أن الخاتم لم يُهدَ إلى خطيبته.
“لقد انتزع بالكاد موافقةً على الزواج.
فلو شاع حمله لامرأة أخرى، لانتهى كل شيء”
كان زارك متمسكًا بفرصة كهذه لا تتكرر… مستعدًا لإزالة كل عائق يقف في طريقه.
“لو فكرتِ بالأمر، فإن التوجه إلى البارون بريغز سيكون صفقة رابحة”
كنت أنوي إخباره، واقتناص المكافأة.
كانت حجتي أنني أجهل حقيقة الخاتم، ولا أرغب ببيعه، وأن السيد زارك حاول قتل طفل دون علم والدته.
كنت أنوي مفاوضة البارون على الثمن ثلاث مرات، لكن بالنسبة له، حفنة من الذهب لا تساوي حياة ابنته.
“وماذا لو انتقم مني زارك؟”
“لهذا سأذهب بنفسي إلى البارون.
حتى لو مضى الزواج كما خُطط له، هل تظنين أن زارك سيتركني وشأني؟”
اللص دومًا يرتجف أمام خطواته.
“سيظل مضطربًا برؤيتي، وربما يسعى للتخلص مني نهائيًا”
رجل كان على استعداد للتخلص من طفله بخاتم ملعون، لن يتوانى عن قتل بائعة شموع مسكينة.
حتى لو لم يقتلني بيده، قد يستأجر قاتلًا مأجورًا حين يصبح ثريًا بزواجه.
بعد رحيل إيرن، لو هاجمني القاتل، فلن ينتظرني مصير سوى الموت.
“لذا، يجب أن أذهب إلى البارون… وأطلب منه ضمان سلامتي”
إن علم البارون بالحقيقة، فلن يتردد في كسر ساق زارك.
“وربما يدفع البارون لي أكثر مما دفعه زارك مقابل الشموع”
إن كان هناك خطر، فليكن لمن يدفع ثمنه أغلى.
—
في اليوم التالي، أمام قصر البارون بريغز.
“انتظر وشاهد، سأخرج من هناك وفي جيبي مكافأة ضخمة”
وبما أن طريقي كان صوب قصر البارون، أشرت لإيرن أن يمضي في سبيله.
“حظًا موفقًا”
“لم تبدُ وكأنك تتمنى لي التوفيق حقًا.
تف، لو حصلت على مكافأة كبيرة، لاشتريت لك حصانًا يا سيدي إيرن…
لكن يبدو أن ذلك لن يحدث”
“كلام فارغ…
أنتِ لا تنوين شراء شيء أصلًا.
تتحدثين عن الرشوة وكأنها شيء مسلم به”
“سأتقبلها بكل سرور.
كف عن التوبيخ، يا سيدي”
قهقهت ساخرة، ثم رفعت رأسي بثقة، وطرقت باب القصر.
راقبني إيرن لحظة قبل أن يدير ظهره.
لوهلة، راودتني فكرة وأنا ألوّح له مطمئنة.
“لا تقلق”
لكن أين اختفى ذلك الإصرار الذي كان يظهره وهو يلاحق المدينين؟
تنهد إيرن وهز رأسه مستديرًا بعيدًا.
ما أسوأ ما قد يحدث؟ كم من الناس يبيعون أسرارًا للأثرياء لقاء حفنة من المال؟
بينما كان إيرن يبتعد، كنت أنا أدخل القصر تحت نظرات كبيرة الخدم التي بدا عليها الارتباك.
“كنت سأستدعيك بنفسي، يا آنسة هارينغتون! لقد أتيتِ في التوقيت المثالي!”
“كنتِ تنتظرينني؟”
“نعم، المدام طلبت رؤيتك”
دفعتني بلطف من ظهري وأنا مذهولة.
“زوجة البارون؟”
كان في صوت الخادمة حماس مكتوم…
تُرى، ما الأمر؟
“نعم، تفضلي بالدخول”
لم يكن أمامي سوى معرفة السبب أولًا.
“لماذا تريد رؤيتي؟”
“طلبت مجموعة خاصة من الشموع.
يبدو أنها ستقيم حفلًا كبيرًا”
عند باب غرفة الاستقبال، همست الخادمة:
“في الواقع، السيدة حامل”
“ماذا؟”
“لا تظهري دهشتك داخل الغرفة”
طرقت الخادمة الباب، ودعتني للدخول، وقبل أن أفيق من ذهولي، فُتح الباب.
في قاعة استقبال فاخرة، جلست سيدة شابة بشكل لا يليق بزوجة بارون له ابنة شابة مقبلة على الزواج.
ابتسمت لي بود:
“أهلًا بكِ، آنسة هارينغتون.
سعدت بلقائك”
كانت تضع يدها برفق على بطنها المنتفخ، وتدعوني للجلوس.
جلستُ بتحفظ.
“هل أخبرتك الخادمة؟”
“نعم سيدتي.
ألف مبروك”
كنت قد نسيت للحظة أن البارونة الحالية زوجة ثانية للبارون.
كنت قد دهشت حين علمت أن هذه السيدة الشابة زوجته، لكنها لم تكن معلومة تهمني…
كان جل اهتمامي ينصب على صُنع الشموع وبيعها.
غير أنني شعرت بشؤم غريب، كأن مصيري على وشك أن يتشابك مع مصيرها.
“أعتزم إقامة حفل لإعلان الحمل.
لقد تجاوزت مرحلة الخطر”
ففي عالمهم، كانوا يؤمنون أن التباهي المبكر بالحمل قد يستجلب نقمة الآلهة.
لذا، لم تُطلع السيدة على خبر حملها سوى الخادمة الكبرى وخادمتها الخاصة.
“عانيت كثيرًا من غثيان الصباح، ولكن عبير الورود الحمراء كان يخفف عني”
كانت السيدة تتحدث بفرح وهي تحدق في الورود الحمراء التي زينت الطاولة.
“لابد أن الطفل ورث ذوق والدته”
“سيدتي، لقد كنتِ تحبين الورود الحمراء”
لطالما طلبت شموعًا تتناغم مع لون الورود الحمراء.
عندها تذكرت فجأة ابنة البارون وهي تقول: “أنا لا أحب الورود”
“من بين كل الورود، أعشق الحمراء”
همست السيدة وهي تلمس بتلات الزهور.
أما ابنة البارون، فلطالما قالت: “من بين كل الورود، أبغض الحمراء”
“لهذا قررت أن أسمي الطفل روز”
“روز… يا له من اسم جميل”
ابتسمت البارونة بفخر، ترفع شفتيها الحمراوين، وقد أشرق وجهها بزهو نقي لا تشوبه ذرة حزن.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ20
أولًا، الآنسة الشابة بريغز تمقت الورود الحمراء.
ثانيًا، زارك حاول إخفاء الخاتم الملعون داخل شمعة مصنوعة من الورود الحمراء.
ثالثًا، البارونة — التي كانت مولعة بالورود الحمراء — أنجبت طفلًا.
وجدتُ نفسي غارقة في قضية بالغة التعقيد.
ولأن ملابسات ما جرى لم تتضح بعد، بدا من الحكمة التراجع مؤقتًا.
عدّلت خطتي الأصلية لمقابلة البارون، وغادرت مقر إقامته.
“الوقت لا يسمح بالتأخير، لكن أرجو أن تعتني بي جيدًا، الآنسة هارينغتون.”
“سأبذل قصارى جهدي.”
خرجتُ إلى الباب برفقة كبير الخدم، ثم انطلقتُ مباشرة إلى السوق.
“الآنسة هارينغتون.”
كم خطوةً قطعتُ؟ عضضتُ شفتي حين سمعت الصوت الذي تاقت أذني لسماعه بشدة.
“هاها، السيد زارك، من الرائع رؤيتك هنا.
يبدو أنك في طريقك لرؤية الآنسة الشابة.”
حاولت أن أبتسم وأحييه كأن شيئًا لم يحدث.
“لا، بل خرجتُ للتو بعد لقائك.”
“أوه، إذًا فأنت في طريق العودة إلى المنزل.”
“كلا.
كنت أنتظر الآنسة هارينغتون.”
“هل الأمر متعلق بالطلب الذي أجريته سابقًا؟ إنه على وشك الانتهاء.”
لم يكن الوقت قد حان بعد لموعدي مع زارك، لكن قبل أن أطلب منه الانتظار قليلًا، لوّح بيده مقاطعًا:
“لا، ليس لهذا السبب.”
ابتسم زارك كأن الأمور تسير على نحو طبيعي، ثم أشار بيده نحو الجهة المقابلة، حيث كانت عربة تنتظر.
“الآنسة الشابة بريغز ترغب في لقاء الآنسة هارينغتون.”
لماذا لم تطلب رؤيتي عندما كنت في مقر إقامة البارون؟ لماذا الآن؟ لم أتمكن من الرد مباشرة، إذ اجتاحني شعور مشؤوم تسلل إلى عنقي.
“لنذهب.”
اقترب زارك مني أكثر، وكأنه سيجرّني عنوة إن رفضت.
سرتُ بخطى ثابتة، إذ بدا أن المقاومة لن تنفع.
“لماذا تريد الآنسة بريغز رؤيتي…؟”
“لا أعلم.
ينبغي أن تسمعي منها مباشرة.”
هذا زاد قلقي اضطرامًا.
المسافة كانت قصيرة جدًا إلى العربة، ولم يكن ثمة مهرب من زارك.
وبينما كنت أسترجع في ذهني ذلك المثل من حياتي السابقة: “من يحافظ على اتزانه ينجو حتى من فم النمر”، إذا بحجر صغير يُقذف ويصطدم بطرف حذائي.
ما هذا؟ نظرتُ إلى الجهة التي جاء منها الحجر، ثم شهقتُ فجأة.
“…!”
‘إيرن؟ ألم يغادر بالفعل؟’
كان قد اختبأ وسط الزحام، ثم رمقني بنظرة قبل أن يدير وجهه وكأنه لم يرني.
“اصعدي.”
فتح زارك باب العربة، فصعدتُ بسرعة كي لا يلحظني إيرن.
استقبلتني الآنسة الشابة بريغز عند دخولي العربة، وجلستُ بتردد مقابلها.
“مرحبًا بكِ، الآنسة هارينغتون.”
هل لأنني متعبة؟ بدا صوتها — رغم نبرته المرحبة — باردًا اليوم.
—
لا أعلم لماذا كان السير إيرن هناك، لكنه كان يجب أن يتبعني.
لم تكن العربة تسير بسرعة، لكن النوافذ كانت محجوبة بالستائر، فلم أستطع تمييز الاتجاه.
“هل سبق أن ارتكبتِ الآنسة هارينغتون أمرًا سيئًا؟”
كانت عينا الآنسة بريغز، اللتان لطالما بدتا بريئتين، قد أصبحتا مثلجتين قاسيتين.
“عذرًا؟”
رمشتُ بدهشة من سؤالها المفاجئ.
“علمتُ مؤخرًا أن من يرتكب أمرًا مشينًا، يصبح بالغ الحساسية.
يرى في كل تفصيلة خطرًا، ويشك في كل ما حوله.”
لماذا تعترفين لي بجريمتك؟ لستُ قسًا لسماع اعترافاتك.
رغم جلوسنا الهادئ، شعرتُ وكأنني محاصَرة في الزاوية.
“تساءلتُ لِمَ جاءت الآنسة هارينغتون اليوم.
سألت الخادمة، فأخبرتني أن والدتي لم تطلبكِ صراحة.”
“أوه، أردتُ فقط أن أُري البارونة شمعة جديدة صنعتها.”
حاولتُ أن أخرج شمعة زرقاء صغيرة من سلّتي دون أن أثير انتباهها.
كانت شمعة صغيرة حضرتُها خصيصًا لإشعالها لو التقيتُ زارك داخل القصر.
“ألم يكن بإمكانكِ عرضها عليّ عندما تُحضِرين الشموع التي طلبتها لاحقًا؟”
“كنتُ متحمسة لأريها.”
“هل تعلمين أنكِ لم تأتِ إلى منزلنا قط فقط من أجل عرض شمعة جديدة؟”
كنتُ مشغولة بطلبات الزبائن، وغالبًا ما أرفق شموعًا مبتكرة كهدية.
“لكن، لِمَ يا ترى، أحضرتِ هذه الشمعة بالذات بعد أن قدّم السيد زارك طلبه الخاص؟”
“هاها، قال السيد زارك إنها هدية مفاجئة.
أظن أن الآنسة تعرف هذا أيضًا.”
“بالطبع أعلم.
وأعتقد أن الآنسة هارينغتون تعلم الآن.”
“لا أفهم مقصدكِ…”
“لا يمكنكِ التظاهر بالجهل، الآنسة هارينغتون.”
تبدّل وجه ليلى من اللين إلى الصقيع.
كما قالت، لم يعد بوسعي التظاهر بالجهل.
تبًا.
عضضت باطن فمي.
“نحن تعيستان، أليس كذلك، آنسة هارينغتون؟”
“نحن؟”
“ظننت أن الآنسة هارينغتون قد اكتشفت أمر الخاتم وجاءت لتحذرني.
عادة، حين يقدّم رجل على وشك الزواج خاتمًا لعشيقته سرًا، يُشتبه بالخيانة.”
أومأت برأسي دون أن أصرّح بنيتي إبلاغ البارون.
“لكن بعد ذلك، ذهبتِ إلى غرفة والدتي.”
“الخادمة هي من أخذتني، لم يكن لي خيار.”
“أعلم.
وهذا ما يحزنني.
لقد علمتِ بحمل والدتي.
ثم غادرتِ بدلًا من أن تأتي إليّ، رغم أنني كنتُ وجهتكِ الأولى.”
لم أجب، لأن قول الحقيقة — أنها لم تكن هدفي — سيزيد الأمر سوءًا.
“ظننتُ أن الآنسة هارينغتون قد لاحظت شيئًا في تلك الغرفة، أليس كذلك؟”
لم يكن أمامي سوى أن أومئ مرة أخرى.
“كنتُ أتمنى لو زرتني الآنسة هارينغتون أولًا اليوم، لا والدتي.”
“وما الفرق؟”
“على الأقل، ما كنتُ لأُضطر إلى التخلّص من الآنسة هارينغتون.”
اهتزت العربة، وللحظة، انكشفت الستائر المرتجّة، فرأيت مشهدًا موحشًا يصعب تحديد موقعه. عضضتُ شفتي.
“مؤسف حقًا.
كنت أحب الشموع التي تصنعينها.”
“هل تنوين قتلي؟”
“لا خيار لي.
الآنسة هارينغتون تعرفين أشياء لا ينبغي لكِ معرفتها.”
نظرت إليّ ليلى بريغز من الأعلى إلى الأسفل، بعينين تبردان كالثلج وهما تفكران بالطريقة الأمثل للتخلّص مني.
بلعت ريقي.
“التخلّص من الآنسة هارينغتون ليس أمرًا عسيرًا.”
أعرف.
نحن الاثنتان من أسر بارونية، لكن عائلة هارينغتون المتداعية التي سقطت من عليائها، لا تُقارن بعائلة بريغز المزدهرة في قلب العاصمة.
قتل جوديث واحدة وإخفاء الجريمة… لا يكلّف بارونة بريغز شيئًا.
وقد قطعت العربة مسافة بعيدة، ومن دون جواد، سيكون من المستحيل على إيرن اللحاق بها.
وحتى إن حاول، فسأكون قد انتهيت.
لم يعد بوسعي انتظار السير إيرن.
ابتلعتُ ريقي.
“أعتقد أن الآنسة الشابة لا ترغب بأخٍ صغير.”
“أجل.
أبدو سيئة للغاية في نظركِ، أليس كذلك، آنسة هارينغتون؟”
ليلى بريغز.
الابنة الوحيدة للبارون بريغز، وربّيت كوريثة وحيدة للعائلة.
رغم أنها لم ترتح لزوجة والدها الشابة، فقد تعايشت معها لعشر سنوات في سلام.
لو لم يحدث “ذلك الأمر” قبل نصف عام، ربما كان بإمكانهما الاحتفال بالحمل معًا.
“تلقيت رسالة من والدتي قبل نصف عام.
ليست أمي الحالية، بل أمي الحقيقية التي أنجبتني.”
في ذاكرة ليلى، كانت والدتها دومًا طريحة الفراش، ولذا صدّقت ما قيل لها: أنها توفيت بسبب المرض.
لكن فحوى الرسالة كان مختلفًا.
“تدهورت حالتها بعد أن شهدت خيانة والدي.”
الخيانة بحد ذاتها كانت شنيعة، لكن هوية العشيقة كانت أشد فظاعة.
“كانت امرأة تتولى رعاية أمي.
لم تكن تملك حتى ثمن حضور الحفلات، فأصبحت أمي وصيّتها.”
تكفلت والدتها بكل مصاريف ظهورها الاجتماعي، وسعت لتزويجها، دون أن تدري أنها تواعد زوجها.
وعندما اكتشفت الحقيقة متأخرة، انهارت من الصدمة.
وبما أنها كانت عليلة أصلًا، فقد أيقنت أن أيامها معدودة.
“ثم جاءت تلك المرأة لأمي وقالت: ‘أنا واثقة أنني سأكون بارونة أفضل منكِ، لذا لا تقلقي، واغمضي عينيكِ بطمأنينة.'”
رؤية تلك المرأة تتحدث بوقاحة دون أي ندم، جعلت الأم تكتب رسالة لتحذّر ابنتها.
أودعت الرسالة — التي تحتوي على الحقيقة — لدى صديقة قديمة.
“أوصت صديقتها أن تسلّمني الرسالة حين أبلغ سنّ الرشد.
وعندما سمعَت بخطبتي، ظنّت أن الوقت قد حان.”
ذلك الإحساس القاسي بالخيانة حين رأت ليلى اسم تلك المرأة في الرسالة…
“لا أظن أنك بحاجة لأن أُخبركِ من هي تلك المرأة الدنيئة، أليس كذلك؟”
وحين أومأت برأسي، تابعت ليلى كلامها:
“كنتُ أُخطط للانتقام بعد الزفاف.”
لكن فجأة، حملت الأم الجديدة.
بعد طيلة عشر سنوات من العقم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 2"