“أنا؟”
“نعم”
الرجل الذي أجاب بخجل، كان يحمل باقة ضخمة من الزهور بين يديه.
رمقت الباقة ثم وجهه الوسيم، وصفّقت بكفّيّ من فرط الدهشة.
“ألم نلتقِ هنا سابقًا؟”
“أنتِ تتذكرينني…
لقد رأيتكِ عدة مرات”
كما توقعت، كان رجلاً بملامح لا تُنسى. أن يتقدّم إليّ رجل بهذا القدر من الوسامة وهو يحمل باقة زهور ويتحدث إليّ؟ أي معنى يمكن أن تحمله هذه اللحظة؟
“حتى وإن بدا قولي غرورًا، فإن (جوديث) بالفعل فاتنة”
لعبت بشعري بخفة دون سبب واضح، ثم أزحته خلف أذني بحركة مترددة.
“هل لديك ما ترغب في قوله لي؟”
“هل تقبلين هذه؟… إنها هدية مخصصة للبارونة”
مدّ الرجل يده بالباقة إليّ. لم أتمكن من التقاط الاسم بوضوح بسبب مرور عربة صاخبة في تلك اللحظة، لكن بما أنني من عائلة البارونة، افترضت أنها موجّهة إليّ.
في حياتي السابقة، كنت غارقة في جمع المال حتى غفلت عن الحب والمواعيد الرومانسية.
يبدو أن حياتي الجديدة تحمل لي وعودًا أجمل.
“أود أن تصنعي شمعة خاصة للآنسة”
“هاه؟”
توقفت ابتسامتي في منتصف الطريق، بين استغراب وارتباك.
أنا صانعة شموع، وهو يطلب مني صنع شمعة؟ بدا الطلب غريبًا.
“أرجوكِ، أود أن تصنعي شمعة فريدة مستخدمة هذه الزهور لابنة البارون بريغز”
—
كان اسمه زارك فان هينسون.
كان يبحث عن هدية مميزة ليقدمها لحبيبته، ابنة البارون بريغز، استعدادًا لخطبتها.
وأثناء تجواله، وقعت عيناه على الشموع الملونة التي كنت أعرضها للبيع، فألهمته فكرة مبتكرة.
أن يجفف بتلات الزهور ويزين بها شموعًا حمراء دافئة، كأنما ينثر ورود الحب فوق وهج الشوق.
رأى في ذلك هدية تنطق بالمعنى، لا تمر مرور العابرين، ودفع عربونًا سخيًا.
“كنتِ متزوجةً من قبل…
كم أشفق على الآنسة هارينغتون وقد فاتها نصيبها!”
“لماذا أنا؟”
“لأنك فرحتِ وظننتِ أنه يعترف لكِ بحبه”
“…لم يحدث شيء كهذا!”
احمرت أذناي خجلًا.
ليتني لم أصرّ على أن يرافقني إيرن.
تصرّفي الأحمق جعلني أبدو كالغبية.
بل كان الأجدر بالسيد زارك أن يوضح منذ البداية أنه جاء لطلب شمعة، لا أن يلوّح بالزهور هكذا! كم شخصًا كان سيفهم الأمر بطريقة صحيحة؟
“كوني صادقة…”
“بماذا؟”
“هل ترددتِ في إخباره أنكِ كونتيسة، لا مجرد بارونة؟”
ضحك إيرن بمرح، يروي الحكاية منذ لحظة دخول زارك إلى قصر البارون وتسليم الباقة والعربون، ولم يكف عن الضحك حتى عودتنا.
كنت أغلي من الغضب.
حاولت أن أباغته بضربة، لكنه تفاداها بحركة كسولة من كتفه.
وكالعادة، لم تجنِ قبضتي شيئًا.
“قلتِ أنكِ ستشترين لي لحمًا مجففًا”
“اشتريه بنفسك”
رميت له بقطعة نقدية بلا اكتراث.
“اشترِ بها لحمًا وزجاجة ماء جديدة، ولا تنس خمس حبات بطاطا.
واحتفظ بالباقي”
“كيف سأشتري كل هذا بقطعة نقدية واحدة؟”
“دبّر نفسك”
“يا لكِ من بخيلة!”
تذمّر إيرن وهو يقلّب القطعة النقدية بين أصابعه، ثم أردف بمكر:
“لو أجابني أحدهم بصراحة، لذهبتُ راكضًا.
لو كان زارك قد اعترف لكِ، هل كنتِ ستقبلين؟”
“آه، كفّ عن التفاهات!”
انفجر ضاحكًا بعد أن نال قطعتين فضيتين إضافيتين لقاء صمته.
—
بمجرد دخولي القصر وحيدة، بدأت بتجفيف الورود بعناية.
كنت أتخيل كيف ستبدو الشمعة الحمراء مرصعة ببتلات الورد المجففة.
“ربما أضيف بضع زهور متناثرة هنا وهناك؟”
أخرجت صندوقًا صغيرًا من سلتي وأنا أخطط لأشكال الشموع المختلفة.
“هل يمكن وضع هذا الخاتم داخل الشمعة؟”
“داخل شمعة؟ أستطيع، لكن الشمع قد يغلفه فلا يمكن ارتداؤه”
“لا بأس…
أريده للزينة فقط”
لم يسبق أن طُلب مني من قبل أن أخفي خاتمًا داخل شمعة.
“مع أنه يقول إنه اشتراه من سوق احتفالي، إلا أن هذا الخاتم لا يبدو رخيصًا”
ابتسمت بخفوت.
“ليس من شأني”
مهمتي أن أنفذ الطلب فحسب.
ورغم سخرية إيرن، إلا أن الأجر كان مجزيًا.
“لابد أنه يحبها بصدق”
أعدت الخاتم إلى علبته وأغلقته بإحكام، ثم شرعت بترتيب المواد الجديدة.
تحققت من مخزون الشموع، وأضفت مسحوقًا أزرق اللون، وبدأت تجربة صنع شمعة جديدة.
بعد العشاء وبعض المشاحنات الصغيرة مع إيرن، أنهيت عملي قرب منتصف الليل.
تسللت إلى سريري متعبة، أدلك كتفي المتصلبين، وزحفت تحت الغطاء شبه غافية.
صرير… صرير…
ما هذا الصوت؟
ارتعشت جفوني. حبست أنفاسي وأرهفت السمع. لم أسمع سوى صفير الرياح خلف النافذة.
صرير…
عاد الصوت من جديد.
هل كان بكاء؟
فتحت عيني ببطء… وتيبست في مكاني.
لم يكن في القصر سوانا أنا وإيرن.
هل إيرن يبكي؟
آه… آه…
لكن الصوت كان ناعمًا… كصوت بكاء امرأة أو طفل.
شعرت بقشعريرة تسري في أوصالي.
آه…
الصوت يقترب.
لا تفتحي عينيكِ.
شعرت به يمر بمحاذاة أذني.
كان عليّ التظاهر بالنوم.
لكن جفوني خانتني وارتجفت قليلاً، ومن خلال شق ضيق بين رموشي، رأيته.
كائن أسود، يحدق بي بسكون مخيف.
—
وفي تلك الأثناء، في غرفة إيرن…
آه…
ظل إيرن مغمض العينين حين سمع البكاء البعيد.
هل تبكي جوديث؟
“…”
لعلها أوهام.
رفع جسده قليلًا، ثم استسلم للنوم مجددًا حين خفت الصوت.
جوديث لم تكن من النوع الذي ينهار بهذه السهولة.
ضحك وهو يسترجع ارتباكها عندما ظنت أن زارك يبوح لها بحبه.
كنت أظنكِ لا تهتمين إلا بالمال، فإذا بكِ تتوقين للحب؟
“مجرد رياح عابرة”
فزوجها لا يزال حيًا.
متى شاءت لجأت إليه، تناديه بـ”عزيزي” ليلًا ونهارًا، ثم تتردد فجأة.
أمرها محيّر.
صرير…
بكاء حقيقي هذه المرة.
نهض إيرن بحذر، التقط سيفه، وخرج إلى الرواق.
آه… آه…
كان ينوي التوجه نحو غرفة جوديث، لكنه التفت فجأة إلى الاتجاه المعاكس.
“…”
لا شيء.
تقدم بخطى خفيفة، يتفقد الزوايا بعينين متيقظتين.
وما إن أشهر سيفه بحذر حتى…
صرير… صرير…
انسكب صوت البكاء فوق سمعه، ومن طرف الرؤية، لمح شيئًا أسود بعيون متوهجة بلا بياض.
تجمد الدم في عروقه.
وفي طرفة عين، اختفى الكائن كأنه لم يكن.
“…ما هذا؟”
ظل إيرن واقفًا في ذهول، عاجزًا عن تصديق ما رآه. هل كان طيفًا، أم حقيقة؟
لكن تلك العيون السوداء الملتهبة ظلت منقوشة في ذاكرته.
—
“آه… كتفي”
في صباح اليوم التالي، وأنا أحمل دلواً من الماء، كنت أفرك عنقي وكتفي المنهكين.
لم أشعر أنني نمت كفاية.
“أكاد أجزم أنني رأيت شبحًا”
كان الحلم حيًا أكثر من اللازم. ليلاً ارتجفت رعبًا، أما الآن فقد بدد نور النهار معظم ذلك الهلع.
“الجو ملبد بالغيوم”
قال إيرن وهو يراقب السماء الرمادية من خلف النافذة.
كان المطر قاب قوسين أو أدنى.
“طقس مثالي لقيلولة”
بدا وكأن الليل ما زال جاثمًا.
“هل تخطط لأخذ قيلولة بعد أن استيقظت للتو؟”
“لا عمل مهم اليوم”
ردّ بكسل، متمددًا أمامي بثقة مستفزة.
“لماذا تتمدد هناك وكأنك تنتظر الضرب؟”
“ولم لا؟”
لوهلة، فكرت أن الوجوه الوسيمة لا تشفع لأصحابها عند استفزاز الآخرين.
“متى ستصل بطاقات الهوية المزورة؟”
“مستعجلة لطردي؟ لتبدئي بمواعدة الرجال بحرية؟”
“…”
كم مرة سيكرر هذا الكلام الفارغ؟
“لو استمر الأمر، سأتزوج مجددًا”
“وما المشكلة؟”
“هاه؟”
“إن وجدتِ رجلاً صالحًا، فتزوجيه.
لا داعي لقضاء حياتك في وحدة”
لم أكن ألهث خلف الزواج، لكنني لم أُغلق بابه تمامًا أيضًا.
“أما أنا، فسأتزوج رسميًا بهويتي الجديدة”
“يا لك من محتال”
تمتمت وأنا أتفقد الورود الجافة، متعمدة رفع صوتي.
“لكن من ستتزوج رجلًا ينام من الفجر؟”
“لا تقلقي، آنسة هارينغتون.
لدي صف طويل من المعجبات، سواء كنت مستيقظًا أم نائمًا”
—
وفي ليلة هادئة، بدأ المطر يهمي بلطف، يدق النوافذ بوقع حالم.
ولسبب غامض، سهرت الليل بطوله أتقلب في فراشي…
دون أن يطرق النعاس أجفاني.
آه…
مجدداً…
التعليقات لهذا الفصل " 17"