“أظن أن سمعك أصبح مرن أيضًا؟”
“هل تسمح لي بذراعك؟ أحتاج إلى تغيير الضماد”
تنهد إيرن بضيق إزاء تصرفات جوديث، التي لم تزل حتى لحظتها تبدي امتعاضها، لكنها سرعان ما غيّرت مسار الحديث بمهارة لافتة.
رغم ذلك، لم تتردد جوديث وبدأت بحذر تزيل الضماد الملفوف حول ذراع إيرن اليمنى.
كان الطبيب قد طمأنهم بأن الشوكة السامة لم تنغرس بعمق، وقد أُزيلت بسرعة قبل أن ينتشر السم، إلا أن موضع الجرح ما زال متورمًا ويميل إلى احمرار داكن.
“قد تشعر بوخزة ألم، لكن عليك أن تكون صبورا”
ورغم افتقارها للمهارة الكافية في مداواة الجروح، إلا أن أداءها لم يكن سيئًا على الإطلاق.
أما إيرن، الذي اعتاد معالجة جراحه بنفسه إثر إصاباته المتكررة، فكانت تلك المرة الأولى التي يتولى فيها أحد غيره تضميد جرحه.
لطالما كان الطبيب يكتفي بفحصه السريع للجروح ومعالجتها، تاركًا لإيرن مهمة تغيير الضماد بنفسه؛ فإن توقف النزيف، نزع الضماد وألقاه، وإن انفتح الجرح، صب عليه بعض الكحول القوي وانتهى الأمر.
لهذا السبب، بدا له هذا المشهد غريبًا ومربكًا بعض الشيء.
صحيح أنه طلب من جوديث فعل ذلك بدافع المزاح، ولم يتوقع منها أن تأخذ الأمر على محمل الجد، لكنها رغم دوافعها الاقتصادية، بذلت جهدًا يُحترم بطريقة ما، أليس كذلك؟
ما هذا؟
أبدأت أُهذي لأنني قضيت وقتًا طويلًا بجوار جوديث، التي لا همّ لها سوى المال؟
وبما أنه جُرح أثناء حمايتها، فمن العدل أن تتحمل نفقات علاجه.
لكن، ألهذا الحد أذهله تصرفها؟ أم أنه لم يفهم دوافعها بالكامل بعد؟
“ألست تكنين لي شيئًا من الضغينة؟” سأله إيرن بسخرية.
“ولماذا أكره من يعتني بي؟” أجابته جوديث بحدّة.
“لا تبدين خائفة رغم أن رجلًا يحتضر أمامك.
هل كنت تعملين في مهنة القتل ثم اعتزلتها؟”
اقترب منها إيرن وهمس بمكر:
“كوني صادقة معي.
حتى لو كنتِ قاتلة مأجورة، لن أطلب الطلاق”
ارتجفت جوديث وقالت:
“ألا ترى كيف ترتجف يداي من الرعب؟”
“أم أنك تلوحين بقبضتكِ رغبةً في ضربي؟”
هل أصبحت روحًا خفية ذات نظرات لاذعة؟!
سعلت جوديث بعنف محاولةً تجنب عينيه، فيما أطلق إيرن ضحكة خفيفة لرؤيتها تتفادى الرد.
“على أية حال، آنسة هارينغتون، يبدو أن المال يرعبك أكثر من أي شيء آخر”
ساد الصمت، وكأنها أقرت بصحة ملاحظته دون كلمات.
حقًا، أهي مسكونة بروح مهووسة بجمع المال؟ تساءل إيرن وهو يتأمل ظهرها.
“أتعلم، إيرن؟
معظم الشرور في هذا العالم سببها المال”
أنهت جوديث لف الضماد وأحكمته بعناية، وقد ارتسمت على وجهها نظرة جازمة، كما لو أنها ترى العالم أوضح مما يراه.
“على أي حال، هل أنت واثق أن القتلة لن يعودوا قريبًا؟”
“هذا ما أظنه”
نادراً ما يعاود القتلة هجومهم مباشرةً بعد الفشل، إذ تكون الحراسة أشد والضحايا أكثر يقظة.
“عادةً ينتظرون حتى تهدأ الأعصاب وتتراخى الحراسة، ثم يهاجمون مجددًا.
إلا إذا كانت الضحية مهمة للغاية، حينها قد يغامرون بهجوم آخر سريع…”
توقف إيرن فجأة، قابضًا على معصم جوديث، التي كانت تهم بإنهاء الضماد.
اجتاحها شعور ثقيل، إحساس بنذير شؤم يحوم حولهما.
لا…
لقد قال إنهم لن يعودوا!
نظرت إليه متوسلة، لكنه كان قد بدأ يجمع سيفه وهو يتمتم:
“من يسعى لقتلنا لن يستسلم بسهولة”
—
“ماذا؟ فشلوا مجددًا؟! أرسلت ستة قتلة ومع ذلك أخفقوا؟!”
ارتطم كأس الشراب بجدار القصر وتحطم إلى شظايا صغيرة، فيما كان كليف يرتجف من شدة الغضب وهو يصب لنفسه كأسًا آخر بيد مرتعشة.
في البداية أرسل أربعة قتلة، ثم رفع العدد إلى ستة مع وعد بمكافآت مجزية، ومع هذا عادوا خائبين!
الأسوأ أن إيرن لم يكن فارسًا عاديًا.
لو استعادت ذاكرته…
كان كليف يعلم أن إيرن، بطبيعته، سينقض عليه فورًا لو تذكر من دسّ له السم.
لكن بما أن شيئًا لم يحدث حتى الآن، فقد يعني هذا أنه لم يستعد ذاكرته بعد.
أو ربما ينتظر جمع الأدلة؟
نهض كليف فجأة، مخمشًا مسند الكرسي بأصابعه وهو يصرخ:
“أرسلوا ثمانية… لا، بل عشرة قتلة!”
تقدم أحد رجاله بحذر مقترحًا:
“سيدي، لماذا لا نلجأ إلى «الجهات الخاصة» هذه المرة؟”
لكن كليف، وقد اجتاحه الغضب والخوف معًا، شرب زجاجة الشراب كاملةً دفعة واحدة، ثم صرخ:
“نفذوا ما أمرت به!
سأتخذ قراري بشأن «الجهات الخاصة» لاحقًا!”
—
بعد بضعة أيام…
“آه!”
“… ألا تعرف استخدام السيف، أيها الأحمق؟!”
صرخ إيرن وهو يضرب القاتل الذي كان يطارد هنري.
“هل تراجعت مهاراتك أكثر مما كنت تتخيل؟”
“حتى وإن كانت شفتاك ملتويتين، يجب أن تنطق بالحق”
تذمر هنري وهو يدفع بجثة القاتل بعيدًا:
“لم أكن أملك مهارات أصلًا”
كان هنري قد نال لقب فارس بفضل واسطة، وعندما فقدها، دُفع به إلى ساحات القتال كما يُلقى الحمل بين أنياب الذئاب.
“كم يومًا مضى منذ بدأ هذا الجحيم؟ لا شك أن حظي عاثر هذا الشهر”
رفع هنري نفسه بصعوبة مستعينًا بسيفه كعكاز.
كان قد وصل إلى قصر راينلاند منذ ثلاثة أيام لحراسة جوديث، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف هجمات القتلة.
أما إيرن، الذي كان يقاتل أغلب الوقت بمفرده، فقد بدأت علامات الإرهاق تظهر عليه، حتى بات الضماد على ذراعه باليًا، وجراحه تتزايد مع كل يوم.
“ماتوا جميعًا مجددًا”
توقف إيرن وهنري عن الجدال، وحدّقا بجوديث التي كانت تنظر إلى إحدى الجثث هامسة بكلمات مشؤومة.
تحت شعرها الأشعث، تلألأت عيناها ببريق حاد وهي توبيخهما:
“كم مرة طلبت ألا تجهزوا على أحد؟! كيف سنعرف من وراءهم إن أجهزتم عليهم كل مرة؟!”
“ولماذا تنقلب عيناكِ كلما أمسكتِ سيفكِ؟!”
صرخ هنري بانفعال.
احتقن وجه إيرن بالغضب.
لولا جهودهما، لما بقيت جوديث ولا هنري على قيد الحياة.
ورغم ذلك، ظلت جوديث تعض شفتيها مصممة.
لا بد من تغيير الخطة، وإلا سنهلك قبل أن نكشف عمن يلاحقنا…
“من قد يكون وراء كل هذا؟”
أخذت جوديث تحصي الاحتمالات:
شخص يملك المال، والدافع، والقدرة على إرسال قتلة بلا انقطاع.
لم تسيء إلى أحد مؤخرًا…
سوى رفضها لعرض كليف الذي حاول انتزاع لقبها.
“هل أرسل القتلة انتقامًا؟”
كليف يمتلك المال والدافع.
ومع ذلك، بدا التنفيذ مبالغًا فيه؛ ستة قتلة من أجل امرأة واحدة؟
هل الهدف الحقيقي كان إيرن؟
لكنه كان متخفيًا، ولم يعرف أحد حقيقته سوى هنري… وليون.
ليون!
آخر مرة رأى فيها إيرن دون قناعه كانت بحضور ليون.
لكن…
هل لليون مالٌ كافٍ لاستئجار قتلة؟ مستبعد.
همست جوديث مفكرة:
“ليون كان بحاجة ماسة إلى المال… ومن مصلحته بيع هذه المعلومة لمن يدفع أكثر”
ومن غير كليف، الذي سبق أن اشترى ليون لبيع شقيقته؟
“قبل أن يتعرض إيرن للسم، كان قد خرج للقاء أحدهم…
وكليف كان المعتاد على دفع ثمن شرابه”
بات احتمال تورط كليف أقرب إلى المنطق.
قال هنري مؤيدًا:
“لكن هذا كله مجرد استنتاج، لا دليل قطعي لدينا”
أومأت جوديث بإصرار:
“لا بأس، سنحاول استدراجه عبر التحقيق، حتى لو لم نقدم بلاغًا رسميًا”
“وماذا عن ورقة الضغط؟” سألها هنري بحذر.
ابتسمت جوديث بخبث وقالت:
“أعتقد أن هناك شيئًا قد يكون مفيدًا جدًا…”
التعليقات لهذا الفصل " 14"