14
ⵌ131
“هل السرير كبير جدًا لشخصين؟ أم أنه صغير جدًا؟”
هل السرير في الواقع أوسع مما يبدو؟
جلست جوديث، التي كانت قد تمددت أولًا على السرير، وأعادت تأمله مجددًا.
كان السرير نفسه الذي تعرفه جيدًا.
يتّسع لشخص واحد براحة، لكنه لا يتناسب مع شخص طويل القامة وعريض المنكبين كإيرن.
منذ أن سمعت إيرن يقول: “لن أطلّقك” في ظهيرة ذلك اليوم، بدأت جوديث تفكر بشراء سرير أكبر، رغم أنها لم تُظهر ذلك على ملامحها.
فإذا لم يتم الطلاق، فهذا يعني أنهما سيواصلان العيش معًا، ويستمران بمشاركة السرير ذاته.
وفي هذه الحالة، لابد من سرير أكثر اتساعًا.
“كبير.”
لكن إيرن قال إن السرير كبير.
هل يظن أن من الطبيعي أن يناما سويًا في هذا السرير؟
“ربما يكون أصغر.”
“عندها سيسقط أحدنا من السرير.
وأشعر أنني أنا من سيسقط.”
“كيف يمكن أن يحدث ذلك، آنسة هارينغتون؟”
“ولِمَ لا؟ إيرن سيمسك بي قبل أن أقع.”
كان في إعلانه بأنه لن يطلّقها إشارة واضحة إلى أنه بدأ يشعر بميل نحوها.
ورغم أن جوديث ليست خبيرة في شؤون الحب، إلا أنها التقطت تلك الدلالة.
فأطلقت مزحة لم تكن لتجرؤ على قولها في العادة.
وكانت تتوقع إجابة بسيطة مثل: “بالطبع”،
أو عبارة مطمئنة كـ:
“أتظنين أنني سأدعك تسقطين؟”
لكن…
“لن أفعل.”
كانت إجابة إيرن بعيدة كل البعد عن توقعاتها.
كلا، لا؟
المرأة التي ترفض طلاقها وتودّ العيش معها تسقط من السرير، وأنت لا تمسك بها؟
كيف لك أن تقول شيئًا كهذا دون أن تراعي الجو العام؟ فتحت جوديث فمها بذهول.
“كيف يمكنني أن أتركك تسقطين من السرير وأنت تحتضنينني بهذا الشكل؟”
“أنا؟ أنا؟”
“نعم، أنتِ.”
وبينما كان إيرن على وشك الاستغراق في النوم، خطرت له فكرة مفاجئة.
هل من الممكن أن جوديث لا تريده إلا لجسده؟
فهي لم تُبدِ أي رد فعل واضح حين قال إنه لن يطلّقها.
صحيح أن الصمت لا يعني دومًا القبول، لكن صمتها هذا كان دالًا جدًا.
شعر إيرن بشيء من الطمأنينة، معتقدًا أن جوديث تكن له مشاعر أيضًا.
لكن وهو يتمدد على السرير، تسلل إليه الشك: ماذا لو كان تمسّكها به نابعًا فقط من رغبة جسدية؟
فبعد الطلاق، لن تتمكن من معانقته أو لمسه مجددًا.
كانت فكرة مُرّة.
لكن، ما الذي يمكن فعله إن لم يستطع تغيير الواقع؟ عليه أن يتقبّله، أو أن يجد فيه فائدة.
“لا حاجة لسرير بهذه السعة طالما أنك تنامين فوقي أساسًا.”
إن كانت جوديث تحب جسده، فليقدّمه لها.
بل سيكون الأمر أفضل لو ناما متلاصقين تمامًا.
“لا، لكن هذا… مبالغة بعض الشيء…”
أمالت جوديث رأسها، وعلى وجهها علامات التردد.
فاغتاظ إيرن من ردّ فعلها الباهت، رغم أنه قدّم لها ما تريد على طبق من ذهب.
وفي النهاية، سأل السؤال الذي كان يراه سخيفًا، وتجنّب طرحه دائمًا.
“أنتِ ستستمرين في النوم معي، أليس كذلك؟”
أجيبي الآن، بوضوح!
“…سأحسن التصرّف.”
أجابت جوديث بوجهٍ متوتر، أمام إيرن الذي كان على وشك الانفجار من التوتر، بعدما تهيأ لسماع إجابة صريحة.
سأبقى أنام بجانبك.
“حسنًا، إذًا.”
ذاب الغضب المتراكم في صدره فور سماعه لإجابتها.
عاد إلى السرير بهدوء، وكأن شيئًا لم يحدث.
نظرت إليه جوديث لحظة، بعينين تقولان:
“ما به اليوم؟”، ثم تمددت مجددًا.
“…”
“…”
لقد تقاسما هذا السرير ليالي لا تُعد، حتى إنها لم تعد تقدر على إحصائها، ومع ذلك شعرت اليوم بشيء مختلف.
هل بسبب وعده بأن يواصلا النوم والاستيقاظ معًا من الآن فصاعدًا؟
لامست يد إيرن القوية أطراف أصابعها المرتجفة.
وضع كفّه العريض فوق راحة يدها، وتشابكت أصابعه السميكة مع أصابعها.
بإحكام…
كأنما لا مجال لانفلاتها، مهما كانت تقلّباتها أثناء النوم.
—
“من الصعب مغادرة المنزل.”
نقر شادين بلسانه بضيق.
ففي هذا العالم، حتى الرجال الأقوياء قد يتعرضون للخطر إن تجولوا بمفردهم.
فكيف بامرأة؟ امرأة فقيرة من قبيلة الشارتين؟ كان من الواضح ما قد تلقاه إن سارت وحدها في الشوارع.
“عليها أن تتذوّق بعض المرارة.”
كانت البعوضة السامّة التي أطلقتها تيا واحدة من الحشرات المفضّلة لدى شادين.
إذ تجاوزت مهام الاغتيال الناجحة التي نفذتها العشر مرات.
حتى إن بيعت تيا، فإن ثمنها لن يعادل أرباح تلك البعوضة.
ومع ذلك، اضطر إلى إطلاقها دون ضبط أو تحكم.
فعادةً، لاستخدام حشرة سامة، يجب تقديم قربان مناسب، ثم إجراء طقوس للسيطرة على إرادتها بالسحر.
أما أن تُطلقها مباشرة كما فعلت تيا، فهذا يعني أنها ستتصرّف بدافع غريزتها، بحثًا عن فريسة.
حاول شادين الإمساك بالبعوضة الطائرة التي تبحث عن الدم، لكنه فشل.
وفي النهاية، اضطر إلى قتلها بنفسه.
“كلما فكرت بالأمر، ازددت غيظًا.”
سيستغرق الأمر سنوات لإعادة تكاثرها.
زمّ شادين حاجبيه من شدة الضيق.
“لكن، سواء أعجبني ذلك أم لا، فهي عروستي، ويجب أن أراها.”
كيف أفرّط بجمهور رائع كهذا؟ من دون تيا، من سيحدّق إليّ بتلك النظرات المرتجفة؟
حين ينظر إلى عينيها الغارقتين في الذعر، يشعر بفخر لا يُوصف.
أبقاها حيّة حتى الآن فقط ليرى وجهها.
لكنها تجرّأت على الهرب منه.
لا بد من الإمساك بها من جديد.
فهي مقدّرة أن تبقى بجانبه طيلة حياته، كمُشاهدة وفية، وكزوجة ستنجب له طفلًا.
“لا يمكن أن تكون قد ذهبت بعيدًا.”
فور انتقالهم، فُرض قانون تسجيل الروحانيين، إلى جانب حظر تنقّل قبيلة الشارتين داخل الإقليم.
كما نُشرت منشورات مطلوبين تحمل وجه شادين.
في هذه الظروف، إلى أين يمكن لتيا أن تذهب دون بطاقة هوية؟ على الأرجح تتجول قرب المكان الذي اعتادت أن تعيش فيه.
والمشكلة أن شادين نفسه بات في وضع مشابه. لم يعد بوسعه التنقل بحرّية.
هل هذا أيضًا من ألاعيب المؤلف؟
لو أنه قرأ تلك الرسالة في وقت أبكر، لعرف من يكون شادين.
لكن لم يتوقع أبدًا أن يوافق الإمبراطور، المهووس بالإمبراطورة، على قانون كهذا.
فذلك القرار سيقضي نهائيًا على نفوذها السياسي الذي بالكاد كان موجودًا.
هل للمؤلف حقًا أن يتحكم بمصائر الشخصيات كما يحلو له؟
وبينما كان شادين يضغط على صدغيه من شدة التوتر، اقترب منه مساعده الأيمن، داكان، على عجل.
“ما الأمر؟”
“من أرسلناهم لجلب الطعام لم يعودوا.”
“ربما لم يعثروا على شيء بعد.”
“لقد تعهدوا بالعودة في الموعد حتى إن فشلوا.
فأرسلت شخصًا آخر للبحث عنهم، ولم يعد هو أيضًا.
لذا…”
ناول داكان شادين صندوقًا خشبيًا موضوعًا على صينية حديدية.
نهض شادين وفتح الصندوق بنفاد صبر.
داخل الصندوق، خيط مشدود، مربوط بورقة كُتب على طرفيها اسمان مختلفان.
“أسماء من هذه؟”
“هؤلاء هم من أرسلناهم لاحقًا.”
“هل الكتابة بخط اليد؟”
“بالتأكيد.”
استل شادين خنجرًا حادًا من حزامه.
وخز طرف إصبعه، فانطلقت منه قطرة دم.
“التعاويذ التي يستخدمونها سيئة بحق.
لماذا عليّ دفع ثمن في كل مرة أمارس فيها سحرًا؟”
لهذا، لم يكن شادين يحب ممارسة السحر.
بل كان يُفضّل دراسة وصفات السموم وصنع الأدوية الجديدة.
“إن كنت حيًا، فالتزم الصمت.
وإن كنت ميتًا، فأجب.”
لكن، أحيانًا، لا بد من استخدام السحر.
مثل هذه اللحظة، حين يستحيل التواصل مع شخص ما لمعرفة مصيره.
فإذا كان صاحب الاسم حيًا، تبقى قطرة الدم باهتة على الخيط.
أما إن كان ميتًا، فيغدو الخيط أحمر قانيًا.
كما حدث الآن.
“لقد مات.”
أغلق شادين الصندوق الخشبي بعصبية.
وقد تسللت إليه نذُر شؤم.
“داكان، أزل الضباب، وأرسل مجموعة استطلاعية. وبلّغ الجميع بالتجمّع في مكان واحد.”
—
“سمعت أن ذلك الكاهن قاسٍ بطبعه.”
بعد رفع الحظر عن تيا، لم تستطع الجدة الحاضنة استعادة عافيتها لعدة أيام.
لكنها، وربما بفعل فرحتها بعودة حفيدتها إلى الحياة، بدأت تستعيد قوتها تدريجيًا.
“علينا أن نبقى حذرين، لا نعلم ما الذي قد يُقدِم عليه.”
وما إن استعادت بعضًا من صحتها، حتى بدأت تفكر بكيفية حماية أسرتها من ذلك الوغد.
لو أنها تملك القوة، لأحاطت القصر بسحر واقٍ، لكنها عجوز مرهقة.
لذا، قررت أن تبدأ بحماية الأشخاص الأكثر عرضة للخطر: جوديث وإيرن.
أما تيا، فبما أنها وُلدت بقوة روحية لا تزول، فبإمكانها الإحساس بالسحر الخبيث الموجه نحوها إلى حدٍّ ما.
لكن جوديث وإيرن لا يملكان أي وسيلة دفاع.
“الدفاع؟ كيف؟”
“لا أعلم نوع السحر الذي قد يستخدمونه، لذا سأبدأ بصنع تعويذة وقائية.”
“تلك الدمية التي استخدمناها آخر مرة؟”
أومأت الجدة برأسها إجابة على سؤال جوديث.
“لكنها مجرد وسيلة مؤقتة.
هذه المرة، نحتاج إلى شيء أقوى…
وأقرب إلى طبيعتها.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ132
“شيء يُشبهني قليلاً؟”
“ما سنقوم به هو تعويذة الاتحاد،” قالت العرّابة.
“وتعويذة الاتحاد تقوم على مبدأ الوحدة، كما أوضحتُ سابقًا.”
يمكن خلق الانسجام من مصدرين أساسيين: أحدهما شيء كان يومًا جزءًا مني، فكل ما ساهم في تكويني ينسجم معي.
والآخر، ما يُشبهني.
“ما يشبهني قادر على الحلول مكاني، لذا فإن ما كان جزءًا مني، وما يُشبهني، سيتحدّان معًا.”
“وسيصبح الانسجام أقوى.”
“بالضبط.”
انفرجت ملامح الفخر على وجه العرّابة وهي تهز رأسها موافقة على استنتاج جوديث، كما لو كانت تشاهد تلميذة متألقة استوعبت عشرة دروس من عبارة واحدة.
“بما أنني لا أملك شيئًا كان جزءًا مني، فعليّ أن أجد ما يُشبهني.”
“لكن ليس دمية.”
تدخّل إيرن، الذي كان يستمع بهدوء من الجانب، ليساهم في حل اللغز.
“هل هو رسمٌ تشبيهي؟”
قهقهت العرّابة بدهشة، وقد فاجأها جوابه كأنها لم تتوقع أن ينبس به، وقالت بانبهار أمام صوته الخافت الذي بدا وكأنه يخاطب ذاته.
“كيف أصبتَ الهدف بهذه السرعة؟”
لطالما كانت جوديث هي التي تحلّ الألغاز، لذا حين فاجأهم إيرن بالإجابة، التفتت إليه بعينين مندهشتين.
“بفضل زارك… لا، بسببه.”
فبينما كانت جوديث تزور قصر البارون بريغز لتجاذب أطراف الحديث مع ليلى، كان إيرن يتجول في الحديقة ويتحدث مع زارك.
“لطالما تحدثنا عن اللوحة.”
في الفترة الأخيرة، لم يتوقف زارك عن التفاخر باللوحات التي رسمها لزوجين مقبلين على الزواج.
“سمعتُ أنه رسام بارع للغاية، يرسم بدقة تجعلك تتساءل إن كانت اللوحة صورة فوتوغرافية.
ذات مرة، رسم شجرة فكاد طائرٌ مارّ أن يحطّ فوقها!”
وخطر في بال جوديث خاطر من حياتها السابقة.
“يُقال إنه مهما أغروه بالمال، فلن يقبل أي طلب إلا إذا شعر بالإلهام.”
“ومع ذلك، رسم البارونة وزوجها؟”
“قالوا إنه استلهم الفكرة من وجه زارك، فوافق على الفور.”
وجه زارك عادي تمامًا.
هزّت جوديث رأسها بشرود، فنظر إليها إيرن باستنكار، وكأن عينيه تقولان:
كيف لامرأة متزوجة أن تهزّ رأسها إعجابًا برجل آخر؟ لكنها تجاهلت نظرته وانشغلت عنه.
“أتمنّى لو يرسم ذلك الرسام صورتك.
كلما كانت اللوحة أكثر تطابقًا، كان أثرها أقوى.”
“حسنًا، سأفعل.”
وافقت جوديث بسهولة على رسم البورتريه أمام العرّابة، لكنها حين غادرت غرفتها بدت مضطربة.
“أنتِ من ذهب للقبض على الكاهن بدلًا من الماركيز، ولستِ من النوع الذي يفشل، فلم التردد بشأن اللوحة؟”
“هل يقلقكِ إنفاق المال؟”
“حقًا يا إيرن؟ الآن تمارس الادّعاء؟”
“آنسة هارينغتون، أنت لم تعودي تتظاهرين، وهذا بات واضحًا.”
الرسم، خصوصًا للزوجين، كان حكرًا على النبلاء.
ورغم أنه لا قانون يمنع غيرهم من ذلك، إلا أن
العرف كان أقوى من التشريع.
“اللوحات ليست باهظة الثمن.”
في الواقع، الرسام الذي أنجز لوحتي ليلى وزارك قد يُدفع له أضعافًا، وليس من المرجّح أن يقبل بأجر زهيد.
“حتى لو كانت نسبة النجاح ضئيلة، ارسمِ اللوحة فحسب.”
كان إيرن يشعر بالحرج من فكرة رسم بورتريه، لكنه أدرك أنه لا يملك بديلًا لضمان سلامة جوديث.
فمهما كان قادرًا على صدّ الهجمات الجسدية، فإن السحر لا يملك له درعًا، والأنكى أن الكاهن يعتقد خطأً أن إيرن هو الهدف.
“محاولتك لتوفير المال قد تجلب لكِ الندم لاحقًا.”
أحسّت جوديث بالحرج لأن نواياها انكشفت، فحكّت رأسها.
ومع ذلك، هناك أمر لا يُفارقني… لقد كنت دائمًا حريصة على التوفير.
رغم محاولتها تجاهل القلق، إلا أن التفكير فيه كان يتسلل إلى عقلها.
ربما كان قلقًا بلا مبرر… لكن تكاليف اللوحة ليست أمرًا هيّنًا.
“لكن إن قبضوا على الكاهن، فسينتهي الأمر، أليس كذلك؟ أعطيتهم التفاصيل كاملة، فلا يمكن أن يفشلوا، صحيح؟”
—
لكنهم فشلوا.
“لقد وصل الأمر إلى أنني لو أطعمته بيدي، لبصق الطعام في وجهي.”
دخل كاين متجر العطور بوجه شاحب، يحمل أنباءً سيئة.
“كيف فشلتم رغم أنني زوّدتكم بعدد الرجال والموقع بدقّة؟ هاه؟”
“لا عذر لدي.”
جاء كاين ليُبلغهم بنتائج المهمة، ولم يكن يملك وقتًا ليحتفل بخروجه من السجن.
انكمش تحت نظرات إيرن الحادة، وأخرج كيس نقوده، ينثر القطع واحدة تلو الأخرى.
ثم نادى على هنري، الذي كان يرمقه بنظرة شفقة، وهمس له:
“أعطني كل أعواد البخور في المتجر.
لا أريد الباقي.”
“على الفور، سيدي الماركيز.”
وبينما كان هنري يجمع الأعواد، اقتربت جوديث وربّتت على كتف كاين.
“لا تكن قاسيًا عليه، إيرن.
الماركيز لم يذهب بنفسه لإلقاء القبض عليه.”
“…”
ما هذا الثبات؟ كأنها شجرة صنوبر…
زوجتي شجرة صنوبر…
هل يجدر بي أن أشعر بالفخر أم لا؟
استغلت جوديث لحظة شروده وسألت كاين:
“لكن، لماذا فشلتم؟”
“لأن الأتباع خاطروا بحياتهم لحماية الكاهن.”
كان جيلارد قد طوّق الفيلا التي كان أتباع شادين يتخذونها مقرًا لهم، وانتظر خروجهم بحثًا عن الطعام.
“لكنهم قاموا بخدعة تمويه.”
خرج حوالي عشرين رجلًا لاختراق الحصار، وحين انشغل الحرس بهم، فرّ الآخرون في الاتجاه المعاكس.
وكان جيلارد، الفارس المخضرم، قد توقّع هذا الاحتمال.
“إذا كنت تتوقع ذلك، لمَ لمْ تقبضوا عليه؟”
“كادوا أن يمسكوا به.
لقد رأوه يفرّ، فلحقوا به مع الفرسان…
لكنهم أوقفوهم بتحطيم جرّة مسمومة.”
بمجرد أن انكسرت، اندفعت منها حشرات سامة وغازات عطّلت حركة الفرسان.
حتى من كانوا بعيدين تأثروا، فكيف بمن كانوا في قلب المواجهة؟
حتى أتباعه ماتوا اختناقًا.
ومع ذلك، حموه حتى الرمق الأخير.
“لكن… الكاهن؟”
توقّف كاين لحظة، فدفعه إيرن ليكمل:
“كان يضحك وهو يرى رفاقه يموتون.”
“يضحك؟”
“إنه مجنون” تمتم إيرن.
لم يكن رقيق القلب، لكن فكرة أن يضحك أحدهم بينما يموت الناس بسببه كانت تتجاوز فهمه.
“على كل حال، أمسكنا بالجميع عدا ثمانية…
ومن ضمنهم الكاهن.”
ورغم مقتل ما يقارب العشرين، إلا أن الضربة كانت كافية لهزّ أركان الطائفة المتمردة.
“الكاهن لن يستطيع الهرب بعيدًا، سيدتي.
الملصقات التي تحمل رسم توضيحي له منشورة، وحظر التجوال لا يزال قائمًا.
سنقبض عليه قريبًا.”
ورغم تطمينات كاين، بقي القلق متغلغلًا في قلب جوديث.
فقد سمعت من تيا أن شادين يهوى استخدام الجرار السامة… بل هي عماد تجارته.
لكنه، في هذه المطاردة، حطّم نحو عشرين جرّة.
هذا يعني أنه خسر مصدر رزقه، وهو لم يرمش حتى وهو يرى أتباعه يُقتلون لأجله.
تخيلت جوديث أن أحدهم يقطع رزقها… وتنهدت.
“يبدو أن الكاهن في غاية الغضب…”
حتى الفأر يعضّ القط إن حوصر.
فكيف إذا كان الكاهن هو شادين نفسه؟
“… يجب أن أرسم اللوحة.”
—
ذهبت جوديث برفقة إيرن للعثور على الرسام فينتشيرو، الذي رسم لوحة ليلى.
لم يكن من السهل لقاؤه، فقد كان مشهورًا لدرجة أن كاين نفسه سمع عنه.
ولمقابلته، كان عليهما أولًا تخطّي سكرتيره…
“عائلة راينلاند؟ سمعت بها، لكنني لا أعرفها.”
رفض السكرتير طلب رسم اللوحة، متذرّعًا بأن شهرة العائلة لا تليق بمكانة الفنان.
شعرت جوديث بالإهانة.
فرغم أن لقب “الملعونة” لصق بعائلتها، لم يكن من السهل تجاهلهم.
في تلك اللحظة، خرج فينتشيرو من مرسمه، فصاحت جوديث بأعلى صوتها:
“السيد فينتشيرو! جئت لأطلب رسم بورتريه!”
وما إن سمع اسمه، حتى التفت لا إراديًا ونظر إليها، ثم بدأ يهز إصبعه نافيًا.
“لا أشعر بأي إلهام… لحظة؟”
لكن ما إن التقت عيناه بعيني إيرن، الذي كشف رأسه ببطء، حتى سقط أرضًا وهو يصرخ:
“الإلهام! الإلهام! أين كنت، يا مَصدر إلهامي؟!”
ضحك إيرن، وكأنه اعتاد على هذا النوع من المبالغة.
“يا للعجب…
كان يجدر بي أن أتقدّم منذ البداية.
لقد تسببتُ للسيدة هارينغتون بالتهاب في حلقها من كثرة الصراخ.”
يا له من حظّ عاثر…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ133
الكمال؟ بل هو الكمال بعينه.
امتداد الخط من العنق إلى الكتف، اتساع المنكبين، وتناسق الخصر…
لا يوجد أدنى عيب يمكن ملاحظته.
ما إن وقعت عينا فينتشيرو على إيرن حتى بدأ في التغني به بانبهار، مؤكدًا أن الإلهام قد اجتاحه كالسيل.
لم يُظهر إيرن أي رد فعل يُذكر، وكأن ما يحدث أمر معتاد، غير أن لمحة خفية من الزهو ارتسمت على وجهه.
هذا هو الرجل الذي قرر العيش معكِ دون أن يطلب الطلاق…
تُرى، هل كانت هذه نظرته في تلك اللحظة؟
قالت جوديث بابتسامة:
“إذن، هل سترسم لنا لوحة بورتريه؟”
توقعت جوديث أن يوافق فينتشيرو على الفور، لكنها فوجئت به يتنهّد بإحراج ويشيح بنظره.
لقد وصفتنا بأننا تجسيد للإلهام، فماذا يمنعك الآن من رسمنا؟
أتراك تشكك في قدرتنا على دفع الأجر؟
وكانت قد ارتدت أفخم ما تملك من ثياب.
ومع خيبة أمل خفيفة تدلّت من كتفيها، وكأن العائق الوحيد هو المال، تمتم فينتشيرو بتردّد:
“سأرسم لوحتكما… لكن لدي شرط.”
“وما هو هذا الشرط؟”
“أريد السير إيرن كعارض لأعمالي الأخرى.”
فرسم البورتريه مصدر دخل لفيتشيرو، لكنه أراد توسيع آفاقه الفنية بمشاريع جديدة، ورأى في إيرن النموذج الأمثل لذلك.
“اللوحة التي أعمل عليها تُصوّر ملك الحرب وهو يهبط إلى ساحة المعركة ليقودها نحو النصر.”
ملك الحرب؟ بالفعل، إيرن، رغم سمعته الشرسة داخل الإمبراطورية، يملك من الهيئة ما يجعله مناسبًا تمامًا لهذا الدور.
“ليس بالأمر العسير.”
“أنا من سيقف كعارض، فبأي حق تقرّرين إن كان صعبًا أم لا؟”
انفجر إيرن بغضب، لكنها تجاهلته قائلة:
“ستخصم أجر العرض من تكلفة البورتريه، أليس كذلك؟”
“طبعًا… لكن، في الحقيقة…”
قال فينتشيرو بصوت خافت، وكأنما يبوح بسر خطير:
“العمل الذي أعدّه هذه المرة… هو لوحة عارية.”
“… ماذا؟ لوحة ماذا؟!”
انفتحَت عينا كلٍّ من جوديث وإيرن في ذات اللحظة.
“ملك الحرب؟!”
تجهم وجه إيرن مصدومًا.
“أي مجنون يذهب للحرب عاريًا؟ حتى لو كان حاكمًا!”
“لأنها فن.”
أجاب فينتشيرو وهو يفرك راحتيه بتوتر، كمن لا يريد أن يغفل لحظة عن هذا الكائن المثالي أمامه.
“لوحة العُري لا تعني أني سأرسم كل التفاصيل بدقة.
بالطبع سأغطي ما يجب تغطيته.
انظري إلى هذه اللوحة، استخدمت فيها أرغفة الخبز الطويلة والفواكه لتغطية المواضع الحساسة.
ما رأيك؟ هل تبدو مناسبة؟”
“…”
لا، لا تبدو مناسبة.
بل هي أسوأ من أن تُقال مناسبة.
“وبما أن لوحة إيرن تجري أحداثها في ساحة معركة، فسأستخدم عناصر مثل السيوف أو الدخان المتصاعد لتغطية أجزاء الجسد.”
هزّ إيرن رأسه رافضًا.
ما الذي يخطط له هذا الأحمق باستخدام السيف المقدّس؟
“لكن في المقابل، سأرسم لوحتكما البورتريه مجانًا.”
ارتجف حاجبا إيرن بمجرد أن سمع كلمة “مجانًا”.
هل تنوون تجريدي من ملابسي مقابل بورتريه مجاني؟
نظر إلى جوديث بنظرة مترددة.
لقد قررنا أن نحيا سويًا دون طلاق، فهل ستسمحين بعرض جسدي أمام الجميع؟
لا، لا يمكن…
قالت جوديث بعينين متألقتين:
“ألن يكون مقبولًا طالما أنهم سيغطون كل شيء؟ ثم…
من غيرك يمكنه تجسيد ملك الحرب؟ إنه عرض مجاني يا إيرن!”
… ما هذا بحق السماء؟
كان إيرن عاجزًا عن الرد، وهو يراها تبيعه مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس إلى ساحة قتال… بل إلى رسام، عاريًا.
“هذا الرجل سيرى كل شيء أثناء الرسم!”
وأشار إلى فينتشيرو بإصبعه.
“نحن رجلان، ما المشكلة؟”
“بمجرد أن تُعرض اللوحة، سيتمكن أي أحد من رؤية جسدي!
فهل يليق هذا بالسيدة جوديث راينلاند؟”
أوه، لقد تحوّلت من “الآنسة هارينغتون” إلى “الكونتيسة راينلاند”.
يبدو أن الغضب قد بلغ ذروته.
لكن الحزن لم يدم طويلًا، فثمن البورتريه باهظ، وقد يتطلب وقتًا لجمعه… فكرت جوديث.
“المهم أنني أنا من سيراه، وليس سواي.”
بالطبع، الأهم أنها رأته وهو جثة، ولم تراه حيًا منذ ذلك الحين.
وإن أُتيحت لها الفرصة مرة أخرى، فلن تتركه لغيرها.
“… كيف تقولين شيئًا كهذا بهذه البساطة؟”
بدت كلماتها لإيرن كأنها إعلان غير مباشر بأن ما هو له، هو لها وحدها.
احمرّ عنقه فجأة، وأخذ يفركه بلا سبب.
كان قلبه قد لان بما يكفي ليمنح جوديث ما تطلب، لكن أن يقف عاريًا أمام الغرباء…
لم يكن أمرًا يسيرًا.
“إذن…”
لم يستطع إيرن التفوّه برد حاسم، وفي تلك اللحظة، شدّ فينتشيرو قبضته، كمن اتخذ قرارًا:
“هل يمكن أن أكتفي بالجزء العلوي فقط؟”
“إذا كان الجزء العلوي فقط، فلا بأس.”
يا آنسة هارينغتون، هل فقدتِ صوابك؟ لكن الكلمات علقت في حلقه ولم ينطق بها.
“حتى لو كان الجزء العلوي فقط، فهذا يعني أنه نصف عارٍ، صحيح؟ إذًا… البورتريه سيكون مجانيًا؟”
“أشعر أنني قد خسرت الصفقة، لكن… سأوافق.”
نظر إيرن إلى جوديث، التي كانت تتفاوض وكأنها تساوم على بقرة في سوق.
حسنًا، افعلي ما شئتِ… فأنا لكِ على أية حال.
“سير إيرن، هل أنت بخير؟”
“ألا ترين أن الوقت قد تأخّر كثيرًا لطرح هذا السؤال؟”
“ماذا؟! كلب الإمبراطورية المسعور يخجل من كشف نصف جسده؟”
“… لست بحاجة لسماع هذا منكِ.”
وبينما تتردد هذه الكلمات في ذهنه، قرر إيرن أن يمنح لقب “الكلب المسعور” إلى جوديث.
—
“هل زرت فينتشيرو؟”
“نعم، ما إن وقعت عيناه عليّ حتى وقف مدهوشًا. “
“نعم؟ ولماذا؟”
“ظنّ أنني تجسيد لملك الحرب.
ذلك الرسام كان كثير الثرثرة.”
بدأ إيرن يتباهى أمام زارك فور رؤيته، رغم أنه كان قد اتهم فينتشيرو سابقًا بالانحراف، وها هو الآن يسمح له برسمه شبه عارٍ.
كان ذلك نوعًا من الانتقام من زارك، الذي طالما تباهى بجماله.
وفيما كان الرجلان يتحدثان عن الجمال في حديقة منزل البارون بريغز، كانت جوديث تودّع الفيكونتيسة ويلبر في غرفة الاستقبال.
“سأمر على متجر الآنسة هارينغتون قريبًا.”
“سأجهز كل ما طلبتموه.”
بعد حفلة الشاي في منزل البارون، بقيت الفيكونتيسة سرًا للحديث مع ليلى، وانتهى بها الأمر إلى إبرام صفقة شمع غير متوقعة مع جوديث.
وما إن غادرت الآنسة ويلبر، حتى ألقت ليلى بنفسها على الأريكة بإرهاق واضح.
رغم أن حفلات الشاي تهدف للتعارف، فإنها تُرهق الروح والجسد معًا.
“العيش كنبلاء ليس بالأمر السهل.”
تمتمت جوديث وهي تنظر إلى وجه ليلى المتعب.
“أأنتِ الكونتيسة راينلاند فعلًا؟”
سألت ليلى ممازحة، وكأنها لا تصدّق.
فنظرت إليها جوديث بدهشة.
“لقد نسيت ذلك تمامًا.”
فقد اعتادت أن تعيش كالعامة، ونسيت مكانتها الجديدة.
لقبٌ مؤقت، إن لم يُسدّد الدين، سينتقل إلى السيد سميث.
لكن إن استمر عملها بهذه الوتيرة، فلن يكون هناك ما يدعو للقلق.
“لكن، كلما رأيت الفيكونتيسة ويلبر، بدت شاحبة.
أهناك ما يقلقها؟”
“بلى، وضعهم ليس على ما يرام.”
قالت ليلى وهي ترتشف شايها البارد.
“الفيكونت ويلبر… رجل مسن.”
رجل يرى أن وجود ابن في العائلة ضرورة لا غنى عنها، فتزوّج مرتين سعيًا لذلك.
“زوجته الأولى أنجبت ثلاث بنات.
أما الثانية، فأنجبت بنتًا وصبيًا.”
الفيكونتيسة التي زارت جوديث كانت ابنة الزوجة الثانية.
“ويرى في بناته أدوات للمقايضة.
ثري، لكنه يستغل ثروته.”
“إذًا هو ثري؟”
“ثري جدًا، يعرفه الجميع.
زوّج بناته لعائلات كما لو كنّ بضائع.”
وهكذا ازداد ثراء العائلة.
الأخوات الثلاث دخلن في زيجات تعيسة، والآن جاء دور الصغيرة.
“لكن سمعت أن الابن الصغير، الذي يُعلّق عليه كل الأمل، مريض.
ولا طبيب استطاع معرفة علته.”
بفضل هذا، نجت ابنته من الزواج القسري مؤقتًا. وإن ساءت حالة الابن، فقد يلجأ الوالد إلى جلب صهر بديل عن الوريث، لذلك احتفظ بإحدى بناته.
“سألني إن كنت أعرف كاهنا جيدًا.
بقي بعد حفلة الشاي خصيصًا ليسألني هذا السؤال.”
“كاهن روحي؟”
“نعم، على الأرجح الفتاة تريد أن تعرف:
هل سيموت أخوها؟ أم أنها ستُباع كزوجة ثانية لرجل مسن؟”
ابتسمت جوديث بخفة وهي تستمع لهمسات ليلى، وقد تذكرت الكاهن الذي كان يلعب دور العرّاف في منزلها ذات يوم.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ134
“كيف اخترقت الحظر، أيها اللعين؟”
في منزل مهترئ بالكاد يبقى واقفًا، لا يبدو غريبًا أن ينهار في أي لحظة، كان شادين وأتباعه قد فرّوا بصعوبة واحتموا في أحد أحياء الصفيح المهملة.
تمدّد شادين على بطانية عفنة تنبعث منها رائحة العفن.
لم ينجُ معه سوى ثمانية أشخاص، من بينهم هو نفسه.
لكن عدد من تبقّى لم يكن ذا أهمية كبيرة.
فطالما أن الجماعة تعمل كطائفة دينية، فإن جذب الأتباع المنتشرين في أرجاء الإمبراطورية لن يكون أمرًا عسيرًا.
كان قد جمع ما يكفي من الأموال والمؤن.
لكن كلما تذكّر الجرار المملوءة بالعزلة التي استخدمها للفرار، استبدّ به الندم إلى درجة كادت تذهب بعقله.
“لم أكن لأتمكن من تربية طفلي بكل هذا الاهتمام والحنان.”
لقد رعاه كما لو كان حشرة سامة نادرة، وأطعمه لحم البشر، ومع ذلك، هرب دون أن يترك وراءه مالًا يُذكر.
“وفي النهاية، جلبت أكثر الأشياء عديمة الفائدة.”
رمق شادين بعينه المجمع المعروف باسم “إرثه المحفوظ”.
بطبيعة الحال، لولاه، لما تمكن من الفرار هو وبقية الأتباع الذين كانوا يستخدمونه كدرع.
في تلك الليلة التي حوصرت فيها مخبأه، أمر شادين الإمبراطوريين الخبثاء أن يلهوا الأعداء عنه بينما يفر هو مع “بقاياه”.
بمعنى آخر، قدّم حياتهم قربانًا لفتح طريق الهروب أمامه، وقد قبلوا ذلك طواعية، ليس حبًا فيه، بل حفاظًا على إرثه.
“يا لكم من حمقى.”
ومع ذلك، فقد نجا بفضلهم.
ضحك شادين ساخرًا، غير قادر على فهم كيف يضحّي أحدهم بحياته من أجل مجرد شيء كهذا.
“لا بد أن أتخلص منه يومًا ما.”
ذلك الإرث أنقذه، نعم، لكنه كلما نظر إليه، شعر بالخوف والتوجس يتسلّل إلى قلبه.
كان شيئًا مريبًا… على كل حال، لم يكن يريد الاقتراب منه.
ربما بسبب الطريقة التي جُلب بها إرثه إلى هذا العالم.
في البداية، بدت خطة الأتباع مقبولة إلى حد ما؛ أن يُدمج إرثه داخل جسد الأمير، ثم يُستخدم للسيطرة على الإمبراطورية.
لو نجحت الخطة، لحصل شيوخ الطائفة على مكانة مرموقة داخل الدولة، ولن يضطروا بعد ذلك للقلق بشأن لقمة العيش.
لكن المشكلة كانت في أن إحياء الإرث يتطلب تضحية.
وكانت تلك التضحية تتمثل في جسد الكاهن.
“وماذا تنفع الإمبراطورية إن كنت سأموت؟”
قيل له إنه قد ينجو إن كان محظوظًا، لكن على الأرجح، الهلاك كان ينتظره.
لم يكن يعلم أنه قد يُجبر على الحياة في جسد عاجز لا يقوى على الحراك.
وأي جدوى من حياة كهذه؟ لا شرف فيها ولا عزة.
لم يكن شادين ليضحّي بجسده في سبيل شيء كهذا.
لأي سبب يفعل ذلك أصلًا؟
“الكاهن، اللعنة عليه…”
وبينما كان يحرك قدميه بتذمّر، عاد الأتباع الذين خرجوا لاستطلاع المنطقة واحدًا تلو الآخر، وكانت وجوههم تعكس القلق والكدر.
“لا يزال هناك العديد من الجنود في الخارج.”
“لا مكان يخلو من ملصقات المطلوبين وعليها وجه الكاهن.”
“حتى هذا المكان لم يعد آمنًا… لكن إلى أين يمكننا الذهاب؟”
وأثناء تلقّيه للتقارير، تمتم شادين وكأنه خطر له شيء فجأة:
“إذًا لا مفر… علينا الذهاب تحت المصباح.”
إلى أظلم مكان… تحت ضوء المصباح.
—
“صحيح أن تان لم يدرس بما فيه الكفاية، لكن قوته الروحية ليست سيئة إطلاقًا.
بل إنه يُجيد استخدامها أحيانًا إلى درجة أن الأمر وصل إلى مسامع اللورد هنري.”
قال إيلور وهو يفرك عينيه المتعبتين.
“لا بد أن قوته قد تفعّلت بطريقة ما عندما كان الكاهن السماوي للورد إيرن.”
بعد أن استمعت تيا إلى قصة النكرومانسي (تحكم الأرواح)، بدأ إيلور بالبحث في تأثير تلك الطقوس على إيرن.
رغم قلة ما لديه من بيانات، إلا أنه بذل جهدًا كبيرًا، زائرًا شيوخ قبائل شارتينيل ووسطاء روحيين يعرفهم.
“إذن، هل استيقظ إيرن بفعل قوة تان الروحية؟”
“يمكننا قول ذلك، آنسة هارينغتون.
الإنسان مزيج من جسد وروح، لا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر.”
لكن الشارتين كانوا يولون أهمية أكبر للروح. وكان أشهر قول يتناقله الكبار للصغار هو:
“الروح هي جوهر الحياة، والحياة هي الروح.”
وهذا ما تشبث به الأتباع أيضًا؛ لذا كانوا يقدّرون إرادته كثيرًا، والمتمثلة في ذلك “المركب” الذي يُعتقد أنه يحتضن روحه.
“تمر الروح داخل الجسد عبر ممر معين.
وعندما يموت الإنسان، تغادر روحه ذلك الممر.”
لكن الروح لا تغادر الجسد دفعة واحدة بعد انقطاع النفس، بل تتسلل تدريجيًا على مدار ثلاثة أيام.
“ولذا يُعتقد أن الروح تظل قادرة على التواصل أثناء وجودها في الجسد، ومن هنا جاءت طقوس الجنازة التي تستمر لثلاثة أيام.”
“إذًا هذا سبب استمرار مراسم الجنازة لثلاثة أيام.”
علّق إيرن وهو يقرع بأصابعه كمن توصّل إلى اكتشاف جديد.
قيل إن جنازته أُقيمت على عجل بسبب انشغال المسؤولين عنها، لكن أغلب النبلاء يُقيمون جنائزهم على مدار ثلاثة أيام.
“يوجد ثلاث بوابات في ممر الروح، يجب أن تمر بها كلها لتغادر الجسد.”
وأشار إيلور إلى قمة رأسه.
“هذه تُدعى بوابة السماء، وهي آخر بوابة تعبرها الروح.”
وهناك أيضًا بوابة “هونمون” بين السرة والذقن، وبوابة “أوكمن” في منتصف أسفل الجسد.
“عندما تغادر الروح، تُفتح البوابات الثلاث معًا.
وعندما تمر من بوابة السماء، تُغلق.
إذًا، كيف نُعيد الروح إلى الجسد؟”
“لا بد من فتح البوابة مجددًا.”
“صحيح، وهنا تأتي الحاجة للقوة الروحية.”
فما فعله الكاهن كان نكرومانسي؛ أي استدعاء الروح وفتح بوابات الجسد لها مجددًا.
“لكن، هل يمكن لقوة الكاهن، مهما بلغت، أن تتفوق على قوانين الطبيعة؟”
فالطبيعة تفتح البوابات الثلاث معًا، لكن الإنسان، مهما بلغت قوته، لا يستطيع فتحها جميعًا دفعة واحدة.
حتى الكهنة المولودون بأعلى قوى روحية لا يفتحونها إلا واحدة تلو الأخرى.
“إذًا، الكاهن فتح بوابة واحدة فقط، وسقط مغشيًا عليه، بينما علقت روح إيرن بين البوابات؟”
“بالضبط.
فالروح، باعتبارها مصدر الحياة، ظلت داخل الجسد، لكنها لم تستقر بالكامل، لذا لم تعد قادرة على أداء وظائفها.”
غير أن تان، عن طريق الخطأ، فتح البوابة التي كانت قد أُغلقت بسحر السوق الليلي.
“هل هذا هو سبب أننا، شادين وأنا، تعرضنا للاستحواذ في الوقت ذاته؟”
تمت ممارسة النكرومانسي على إيرن بعد فترة من وفاته، بينما شادين وجوديث هارينغتون تم الاستحواذ عليهما مباشرة بعد الوفاة، حين كانت البوابات ما تزال مشرعة.
“شكرًا لاكتشافك هذا.”
بدت ملامح الرضا على وجه إيرن.
أما إيلور، فلوّح بيده بتواضع قائلاً إن ما قاله ليس يقينًا.
“على كل حال، تان ليس دجالًا تمامًا.”
“نعم، إن اجتهد، سيُصبح كاهنا جيدًا.”
“حقًا؟”
ابتسمت جوديث وأومأت برأسها وكأنها نالت ما كانت تطمح لسماعه.
ثم نادت تان، الذي لم يكن له عمل بعد أن صدرت ملصقات المطلوبين بحقه ككاهن شارتيني.
كان يساعد في صناعة البخور في القصر، بل بدأ يُفكّر بجدية في تحويل ذلك إلى عمل دائم، بما أنه يناسب مزاجه.
“لا عمل لك اليوم، أليس كذلك؟ لماذا لا تتسكع أمام محل البخور؟ على هيئة شامان.”
“هاه؟ من أين جاء هذا الكلام؟”
“جئت لأطلب منك عملًا.
هناك آنسة تبحث عن كاهن.”
تهرّب تان بنظره، وهو لم يغسل شعره بعد، وقال بتكاسل:
“كم هذا مرهق…”
“هل يا ترى يا تان سئمت الحياة؟ هل ضاقت بك الدنيا لدرجة أنك تتمنى الموت؟ هل ستكفّ عن إزعاجي حينها؟”
“…آه، حسنًا، سأفعل.
سأنفّذ ما تريدين.”
ربّتت جوديث على كتفه، رغم ملامحه التي ما زالت ممتعضة.
“هل ستتصرف كفتى مراهق؟ إن كان وجهك يوحي بالشباب، فعليك أن تتصرف كبالغ.”
“ألم يكن ذلك تعليقًا جارحًا بعض الشيء؟”
“أفضل من أن أضربك فيُصبح الجرح جسديًا، أليس كذلك؟”
نظرت إليه نظرة صارمة، فطالما كانت هنا، فإن الحديث عن كسب المال في قصر راينلاند كان محرمًا.
نظر تان خفية إلى إيرن الواقف خلف جوديث، كأنه يستجدي عونًا.
لكن إيرن هزّ رأسه ببطء معتذرًا.
وكأن لسان حاله يقول:
“عذرًا، الأمور المالية لا أستطيع التدخل فيها.”
“ماذا عليّ أن أفعل أمام محل البخور إذًا؟”
سأل تان أخيرًا، مُلقيًا راية الاستسلام.
“ستأتي زبونة تُدعى الفيكونتيسة ويلبر، شعرها بني فاتح يميل إلى الأشقر، ويغشى ملامحها القلق.”
“وكيف عرفتِ هذا الوصف الدقيق؟”
“أرى كل شيء.
المهم، عندما تخرج من متجرنا بعد شراء بعض الشموع، تظهر أنت فجأة وتخاطبها.”
“وماذا أقول؟”
“هل في منزلكم من يعاني؟”
حينها ستندهش الشابة وتسأل: “كيف عرفت؟”
“لا تجب.
فقط أخبرها أن هناك مريضًا في بيتها، ولا دواء نفعه.
هذا كل ما أطلبه.”
“هل يوجد مريض فعلًا في منزلهم؟”
“نعم، الابن الأصغر للفيكونت ويلبر، ذلك الطفل الذي يعشقه الجميع.”
ستُفاجأ الفيكونتيسة بأن تان وجوديث يعرفان ذلك، وغالبًا ستطلب مساعدته فورًا.
“لكن آنسة هارينغتون، أليس هذا… احتيالًا؟”
“احتيال؟ لا يا تان، نحن لا نحتال.
نحن فقط نُحسّن من سمعة ذلك البيت.”
“لكنها فيكونتيسة، لا بد أنها استشارت عشرات الأطباء.”
“لكنها لم تقابل السيد بييتشي بعد.
هو من ذهب وأنقذ حياة شخص ما.”
رفعت جوديث حاجبيها وضغطت على كتف تان:
“اجمع أجرك، وبالذهب فقط…
لا تقبل بأقل من ذلك.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ135
بعد أن أُجبر تان على الذهاب إلى متجر البخور، توجهت إيرن وجوديث إلى المحترف فينتشيرو لرسم لوحة بورتريه.
قال فينتشيرو وهو يوجه التعليمات أمام القماش:
“طلبتما مشهداً من الأمام، صحيح؟ سيدتي، تفضلي بالجلوس على هذه الأريكة، وسيدي إيرن، قف إلى جانبها.”
وقد ساعدهما سكرتير فينتشيرو بنفسه في اتخاذ الوضعية المناسبة.
“تبدوان كغريبين تمامًا.
دعونا نمسك بأيدي بعضكما.
سيدتي، لكي لا تتعبي، استندي بمرفقيك إلى ذراع الأريكة.”
نحن نمسك بأيدي بعضنا كل ليلة على السرير، لكن أمام الآخرين… أشعر بالحرج.
…
يدي التي كانت في قبضة إيرن الكبيرة اختفت تمامًا تحتها، بالكاد تُرى إن نظرتَ عن قرب.
يداه خشنتان وصلبتان، لا يمكن وصفهما بالنعومة أبدًا.
ومع ذلك، كان ملمسهما يعجبني كثيرًا.
“لا تتحركا.
هذا التعبير مثالي تمامًا الآن.
السيدة تملك وجه فتاة تمسك بيد رجل لأول مرة.
إنه لطيف جدًا وجميل.”
…أهذا ما يراه حقًا؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، فأنا لست من النوع الذي يتوتر فقط لأنني أمسك بيد رجل…
لكنني بالفعل أشعر بالحرج أمام الآخرين!
شعرت جوديث بالحرج قليلًا.
أما إيرن، فعضّ على شفته كي لا يضحك حين لمح احمرار أطراف أذنيها.
راوده شكّ عابر: هل من الممكن أنها لم تمسك يد رجل قط في حياتها السابقة؟
ربما يجدر بهما أن يعتادا على الإمساك بالأيدي أمام الآخرين، فحتى بعد الزواج، ما زالت تتوتر كلما فعلت ذلك.
ماذا سيقول الناس عنهما؟
مرّا بالكثير، وفعلاً قاما بكل ما يفعله الأزواج… لكن لحظة، لم يفعلا ذلك الشيء.
في الواقع، لم يحدث قط.
فعلا ما يفعله الأزواج عادة: تزوجا رسميًا، تناولا الطعام معًا، وناما في سرير واحد… لكن أهم ما يُميز العلاقة، لم يحدث.
حين اندفعت جوديث نحوه طالبة “نومًا مشتركًا” منذ اللقاء الأول، هل كان ينبغي له أن يوافق حينها؟ لكنه لم يكن يريد أن تكون البداية بتلك الطريقة.
نظر إيرن إلى جوديث بطرف عينيه.
من لا يعرف شيئًا عن الرومانسية، لن يلاحظ شيئًا غير عادي.
لكن بما أنه لم يستطع تجاهل خجلها اللطيف بعد كل ما بينهما، قرر أن يستمتع باللحظة.
دفء يديهما المندمج لم يكن يرغب بالتخلي عنه.
ومضت لحظات من الدفء والحياء، ومضت… ومضت.
مرّ وقت طويل على هذا الحال.
“…إلى متى علينا البقاء هكذا؟”
“…ذراعي بدأت تتخدر.”
“ذراع الإنسان لا تسقط بهذه السهولة.”
لكنها ليست ذراعه.
جوديث لم تعد تشعر بيدها المحاصرة بين أصابع إيرن.
ظهرها المستقيم بدأ يؤلمها، وجلوسها الطويل في سكون كان قاتلًا للملل.
إيرن عانى أيضًا.
الوقوف طويلًا في نفس الوضعية جعل ساقيه متيبستين، وبدأ يشعر بالنعاس. تساءل كيف يتحمّل الناس رسم البورتريه أصلًا.
“سأتوقف لهذا اليوم.”
قالها فينتشيرو وهو يضع فرشاته بعد أن لاحظ تحرك جسد جوديث.
جوديث بدأت تدلّك ذراعها التي خدرت، وإيرن لفّ كاحله لتخفيف تيبسه.
“سأبدأ الآن بوضع الرسم المبدئي.”
عبس إيرن وهو يشعر أن جلسة النمذجة هذه لن تنتهي بسهولة.
“الرجاء تبديل ملابسكما والعودة.”
لكن ما دامت هناك وعود، فلا مفر.
لم يكن أمام إيرن خيار سوى ارتداء الملابس التي أعطاها له سكرتير فينتشيرو.
“ما الفرق بين هذه الملابس والعري التام؟”
قالها إيرن وهو يخرج من غرفة تبديل الملابس، لا يغطي جسده سوى قطعة قماش بيضاء تُلف على خصره.
كأنها جزء ممزق من زيّ الاساطير يونانية، يلامس الحافة بخطورة وكأن سقوطه وشيك.
“من المجنون الذي يذهب إلى الحرب بهذا الشكل؟ حتى وإن كانت لوحة، ألا يبدو هذا غير واقعي؟”
“لأنك ملك الحرب، لا يهم ما يرتديه.
خذ السيف الآن.”
“وأحارب وأنا أرتدي هذا؟ هذا ليس ملك حرب، بل منحرف.”
سواء اعترض إيرن أم لا، سلّمه السكرتير السيف وبدأ فورًا برسم خطوط اللوحة.
جلست جوديث خلف كرسي فارغ، تستمتع بمشهد اللوحة، وبإيرن، وبالمنظر الملوّن بأكمله.
إيرن، الذي لم يتخيل أبدًا أن يصبح موضع أنظار بهذا الشكل، أخذ لحظة ليتأمل كيف انتهى به الحال هكذا.
“هل من المقبول عرض لوحات فاضحة كهذه؟ هل سيشتريها أحد؟”
أجاب فينتشيرو بنبرة منزعجة:
“قد تبدو فاضحة، لكنها فن.”
“الصور الفاضحة الحقيقية هي تلك التي تُباع في الشوارع هذه الأيام.”
“الصور المفردة؟”
“نعم، تُسمّى بالرسومات المفردة لأنها صغيرة الحجم، كصفحة ممزقة من كتاب.
كل ما فيها هو الإغراء والابتذال.”
كانت تُصوّر مشاهد حميمية بين رجل وامرأة، وتُباع ببضع قطع نقدية.
وأكد فينتشيرو أن من يرسمون تلك الصور لا يستحقون حتى لقب فنان.
“مجموعة من الأشقياء عديمي القيمة.”
ارتجف السكرتير قليلًا عند سماع صوت فينتشيرو، لكن إيرن وحده من لاحظ ذلك.
—
في قصر الفيكونت “ويلبر”…
بعد أن أوصل تان البخور إلى ابنة الفيكونت كما طلبت منه جوديث، فوجئ بما رآه عند خروجه من القصر.
“يا إلهي، هل رأيتم من قبل عجوزًا بهذا الجنون؟”
أخرج لسانه باشمئزاز وسارع بمغادرة المكان.
لكنه توقف عند حائط مُعلّق عليه إعلان.
“كم من المتاعب سببها هذا الكاهن للوسطاء الآخرين؟”
كانت الملصقات منتشرة على جدران المدينة، تحمل صورة كاهن مطلوب للعدالة.
من البداية، لم تكن نظرة الناس للوسطاء جيدة، وزاد الأمر سوءًا حين أُعلنت لائحة تسجيلهم بالتزامن مع هذه الملصقات، مما أثار موجة من الشك والعداء.
بدأت الشائعات تنتشر بأن الوسطاء يساعدون الخونة، وأنهم ارتكبوا من المخالفات ما دفع الإمبراطورية لإصدار قوانين صارمة بحقهم.
وبالتالي، توقفت الزبائن الذين اعتادوا طلب التبصير وشراء التعويذات الرخيصة.
“يجب القبض عليه بسرعة.”
رغم أن البحث لم يكن سهلًا، إلا أن هناك من أبدى أملًا حين وُجدت آثار تشير إلى هروب الكاهن إلى مقاطعة “كونيل”.
أطلقت الشرطة، وفرسان الإمبراطورية، وحتى جنود الكونت “كونيل”، عمليات تفتيش موسعة كأنهم يطاردون شبحًا، دون العثور على شيء.
“هل تبخّر في السماء أم ابتلعته الأرض؟”
وأثناء تفكيره، مرّ بجانبه فتى يقاربه في العمر. نظر تان إليه، ثم إلى الملصق.
“هاه؟!”
قارن بين الفتى والوجه المرسوم على الملصق، ثم مزّق واحدة واحتفظ بها.
“الطول، الوجه، وحتى العمر… متشابهون تمامًا.”
بدأ يتبعه بهدوء، محاولًا ألا يُظهر توتره.
كان الفتى يتجه نحو قصر الفيكونت “ويلبر”، فاستمر تان في ملاحقته آملاً معرفة وجهته.
لكن بينما ظن أنه يراقبه بسرّية، استدار الفتى فجأة.
“أنت!”
“م-من؟ أنا؟”
“نعم، أنت.
هل تتبعني؟”
“لا، لا، أبدًا، لستُ…”
“إذن لا تتبعني.”
خفض تان رأسه بإحراج أمام نظرات الفتى الحادة، التي كانت زرقاء كلون بحيرة صافية.
—
“لقد ضيعت وقتي.”
قال تان لجوديث عند عودته إلى قصر راينلاند، عندما سألته عما جرى.
“لكن، في الحقيقة…”
تردد قليلًا، غير متأكد إن كان عليه أن يخبرها أنه رأى شخصًا يشبه شادين.
لكن ذلك الفتى كانت له عيون زرقاء، بينما الكاهن من سلالة الشارتين النقية، ويجب أن يملك عيونًا كهرمانية.
لون الشعر يمكن تمويهه، لكن لون العين لا يمكن.
ربما كان مجرد تشابه شكلي.
“لكن ماذا؟”
“لا شيء.”
قرر ألا يذكر شيئًا، وبدأ في سرد ما حدث في قصر “ويلبر”.
“ما إن دخلت مع الآنسة حتى تم استدعائي لمقابلة الفيكونت بنفسه.”
وأُخذ مباشرة إلى غرفة أصغر أبناء الفيكونت.
“ذلك الابن… أبله تمامًا، ومع ذلك، طلب مني الفيكونت أن أنقذه.”
“ألم يكن بإمكان بييتشي أن يتولى الأمر؟”
“حتى لو أتى بييتشي بنفسه، لن يتمكن من إنقاذه.”
كان الابن الأصغر، مدللًا للغاية حتى لا تُصاب إصبعه بخدش، بالكاد يتنفس رغم تلقيه علاجًا من أشهر الأطباء.
“أخبرته بصراحة أن الأمر يتجاوز قدراتي.
أتدرين ماذا قال لي حينها؟”
“وماذا قال؟”
“قال: لا بأس إن لم تستطع إنقاذه، فقط احرص على أن أتمكن من الإنجاب!
إن لم أعش لأراه، على الأقل أنجب حفيدًا!”
هزّ تان رأسه في استياء من هذا الطلب الغريب.
“وحين رفضت، سألني إن كنت أستطيع أن أُعيد له شبابه.
قال إنه سمع أن البارون ليونيل اشترى إكسير شباب من كاهن، وطلب مني شيئًا مشابهًا.”
ارتبك تان قليلًا عند هذه النقطة، لأنه كان يعرف تمامًا من صنع وباع ذلك الإكسير.
“كان يخطط للزواج وإنجاب ابن.”
“ولكن، لماذا؟”
“قال إنه من أجل ‘استمرار السلالة’…”
الكلمة التي سمعها مرارًا وتكرارًا في كل القصص، تكررت الآن في واقعه.
“كان يصرّ على أن يستمر النسب من خلال ابنه، وكنت أشعر بالشفقة على الفيكونت.
لا بد أنه قضى عمره كله وهو يسمع هذه الجملة.”
قال تان إنه لا يزال يسمع صوت العجوز يتردد في أذنه…
لكن حينها، دوّى صراخ حاد من غرفة تحضير البخور.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ136
كانت تيّا، التي استعادت عافيتها تدريجيًا، تساعد في صناعة البخور.
في الواقع، من حيث عدم القدرة على التحرك بحرية، بدا الأمر شبيهًا بإقامة أتباع الطائفة أو الحياة في قصر راينلاند.
ومع ذلك، وبرغم حبسها داخل القصر، لم تشعر تيّا وكأنها مسجونة.
ربما لأن الجو المحيط كان يبعث على الطمأنينة والسكينة.
بطبيعة الحال، كانت لا تزال قلقة من قدوم الكاهن للبحث عنها ومحاولة قتلها.
ومع ذلك، لم يحدث شيء حتى الآن.
بل إن العرّابة قد ألقت تعويذة لحمايتها.
كما أنها كانت ترتدي تعويذة تصدّ أي نوع من السحر المؤذي، إلى جانب أن القصر نفسه محاط بتعويذة حماية ضعيفة.
سألتها سيا مبتسمة: “مع أنك تصنعين هذه الكمية الكبيرة من البخور في كل مرة، هل تبيعينها بالكامل؟”
ردّت تيّا بهدوء: “نعم.
إن استمر الطلب بهذه الوتيرة، فسينفد المخزون خلال يومين فقط.”
علّقت سيا بدهشة: “يبدو أن مبيعاته مزدهرة جدًا، ومع ذلك، ألم تسدد الآنسة هارينغتون ديونها بعد؟”
ابتسمت تيّا وقالت: “لا، ديونها لا تزال كثيرة.”
جلست تيّا بجوار سيا، تتبادلان الحديث دون انقطاع، بينما كانت تيّا تربط الشرائط حول البخور الذي صنعته للتو.
فجأة، صاحت: “آه!”
سألتها سيا بقلق: “ما الأمر؟”
شعرت تيّا بوخز حارق في عينيها وأغمضتهما بإحكام.
“أعتقد أن شيئًا ما دخل إلى عينيّ… أشعر بحكة مزعجة!”
كان الإحساس وكأن غبارًا قد تسلل إلى عينيها. وضعت تيّا البخور جانبًا وبدأت بفرك عينيها، غير أن الحكة ازدادت سوءًا.
قالت سيا بجدية: “افتحي عينيك، سأفحصهما.”
أمسكت سيا بيد تيّا لتمنعها من الاستمرار في الفرك، ففتحت تيّا عينيها ورفرفت بجفنيها عدة مرات، ثم صرخت فجأة عندما رأت عالمًا مغطى بالدماء أمام ناظريها.
“واااه!”
ركضت جوديث، إيرن، وتان على الفور بعد سماع الصرخة.
“ما الذي جرى؟”
أشارت سيا إلى عيني تيّا المرتجفتين.
كانت عيون تيّا الكهرمانية قد غمرها اللون الأحمر، وكأن الدم ينزف منها.
“يا إلهي… لا، لا.”
تمتمت تيّا بأنها لا تستطيع، وحاولت إغلاق عينيها، لكنها لم تستطع.
انتشرت صرخات الذعر من جميع الاتجاهات، وتيّا المذعورة أمسكت بالمقص الذي كانت تستخدمه لقص الشرائط، ورفعت يدها محاولة طعن إحدى عينيها.
“تيّا، ما الذي تفعلينه؟!”
“أبعدوا المقص عنها بسرعة!”
سألت سيا بقلق متزايد: “ما بكِ يا آنسة تيّا؟ هل لأن عينيك تؤلمانك؟ هل أتصل بالسيد بييتشي؟”
صرخت تيّا وهي تقاوم بعنف، رغم أن يديها كانتا مربوطتين:
“إنه هو! إنه هو! إنه هو!”
—
في مكان آخر، كان شادين يحدق بلا انقطاع إلى مكان غامض، وعيناه تتحركان يمنة ويسرة دون توقف.
كان يرى ما تراه تيّا بعينيها.
موقد مشتعل، نوافذ مزخرفة برقيّ، بخور، شارتينس يعلوهم القلق، وامرأة ذات شعر أسود تقريبًا وعينين بنيّتين قاتمتين.
“هذه نظرتي الآنسة جوديث هارينغتون.”
هل تعرف تلك المرأة أن إيرن ممسوس؟
حتى لو لم تكن تعلم في البداية، فلا بد أنها أدركت الأمر الآن.
ضحك شادين ساخرًا وأغمض عينيه بقوة.
أكان، مساعد شادين المخلص، أطفأ الشمعة الموضوعة أمامه، بينما كان شادين جالسًا بوضعية التربيع.
وفي اللحظة نفسها، كانت دموع حمراء تتدفق من عيني رجل يركع بجوار شادين.
“آه… هف… آه…”
كان الرجل يكتم أنينه بينما يهرش فخذه المتألم.
ربّت شادين بلطف على كتف الرجل وقال: “شكرًا لك على مجهودك.
بفضلك، عرفت أين توجد تيّا.”
انهار الرجل من شدة الألم وهو يلهث.
“خذوه واعتنوا به.”
بالطبع، لم يكن بوسعه أن يرى مجددًا بعينه التي ضحى بها.
أمسك أتباع شادين بذراعيه من الجانبين وسحبوه بعيدًا، ممحين النجمة الخماسية التي رسمها على الأرض.
ضغط شادين على جفنيه المرهقين.
لقد ضحى بعين أحد أتباعه كي يستخدمها، لكنه لم يفهم سبب الألم الغريب الذي شعر به في عينيه.
“أشعر بدوار شديد.”
جلس على كرسي بذراعين، كمن خارت قواه فجأة.
كانت التعويذة التي استخدمها، والتي تمكنه من استعارة نظرة شخص آخر، صعبة للغاية، وتتطلب مكونات معقدة مثل منديل مبلل بدموع تيّا، وشعرها، وملابس داخلية، بالإضافة إلى عينين سليمتين كقرابين.
ضحى شادين بعين أحد أتباعه الذين فروا معه، مدعيًا أنه قدمها “بملء إرادته”.
على أي حال، بعد أن كشف مكان الخائنة، لم يشعر شادين بأي ندم.
سأل أكان وهو يمد له منشفة دافئة: “أين العروس؟”
أجاب شادين: “في قصر راينلاند.
كان السيد إيرن والآنسة جوديث هارينغتون هناك، ومعهم عدد من الشارتين.
حتى الكاهن الذي تعقّبني كان موجودًا.”
قال شادين وهو يضع المنشفة على عينيه: “كنت أتساءل لماذا لم تنجح التعويذة التي أرسلتها إلى الآنسة هارينغتون.
والآن علمت أن القصر مليء بالوسطاء المتخفّين.”
هل تم حل تعويذة الذهب الخاصة بتيّا بفضل ذلك الكاهن؟
ابتسم شادين ابتسامة جانبية خلف المنشفة.
“إذا واجهناهم بالسحر فقط، فقد نخسر.
أظن أن علينا اتباع طريقة أخرى.”
—
قالت جوديث وهي تمسك بيد العرّابة المجعدة: “الخطأ خطئي، لأني لم أستطع إعداد وسائل الدفاع المناسبة.”
ردّت العرّابة مطمئنة: “لا تلومي نفسك كثيرًا يا ابنتي.
لم يكن أحد يتوقع أن الكاهن قادر على استخدام سحر كهذا.”
عادت عينا تيّا إلى حالتهما الطبيعية.
رغم أنها قد تخلّت مؤقتًا عن عينيها للكاهن وشعرت بصدمة قاسية، فإن جسدها لم يُصب بأي أذى.
وهنا تكمن المعضلة: السحر الذي استخدمه الكاهن لم يُلحق أي ضرر جسدي بها، ولذلك لم تعمل تعويذة الحماية.
كان الكاهن يظن أنه إن ألحق بها أذىً جسديًا، فستردّ عليه بعنف حتى الموت.
من كان يظن أن ثمانية أشخاص فقط سيُرسَلون للبحث عن تيّا، الخائنة التي دمّرت مجمع فن الانفراد؟
قالت جوديث بقلق: “إن كان بهذا الهوس، فقد يحاول اقتحام قصرنا بنفسه للبحث عنها.”
لكن ذلك سيكون صعبًا، لأن العاصمة كانت أشدّ تحصينًا من أي مكان آخر.
تمركزت قوات كبيرة من الجنود على الأسوار، تحسّبًا لأي محاولة تسلل عبر الممرات الجانبية.
وأُجريت تفتيشات مفاجئة في الساحات، كما وُزّعت ملصقات مكافأة ضخمة للقبض على الكاهن، حتى في أحياء الفقراء القريبة من الأسوار.
الكثيرون كانوا يتطلعون للحصول على تلك المكافأة، لذا لم يكن من السهل على الكاهن الوصول إلى القصر، مهما كانت قدرته على التخفي.
قال إيرن بصوت خافت: “إن لم يستطع القدوم بنفسه، فسيرسل شيئًا بدلًا عنه.”
سموم… حشرات قاتلة… أو سحر مظلم.
أومأت العرّابة برأسها بحزم: “ارسموا له صورة بأسرع ما يمكن.
إن لم يكن ينوي إيذاء تيّا، فسيهاجم السيد إيرن أو الآنسة جوديث.”
بهذه الطريقة، ستُجبر تيّا على مغادرة القصر، سواء برغبتها أو بطرد إيرن وجوديث لها.
لم ينم إيرن تلك الليلة.
كان قلقًا جدًا من أن يُلقي الكاهن تعويذة على جوديث.
احتضن جوديث النائمة بين ذراعيه وهمس بتنهيدة رقيقة:
“…”
في تلك اللحظة، لم تكن مهارته القتالية ولا تعويذة العرّابة هي ما يمنحه الطمأنينة، بل معرفته بأن الكاهن يعلم أنه ممسوس.
لذلك، إن وقع هجوم، فمن الأرجح أن يكون إيرن هو الهدف قبل جوديث.
وهذا هو الشيء الوحيد الذي خفّف من قلقه.
—
في صباح اليوم التالي، ذهب جوديث وإيرن إلى استوديو فينتشيرو.
كان فينتشيرو يعمل بإخلاص، لكن رسم البورتريه استغرق أربعة أيام كاملة حتى اكتمل.
قال فينتشيرو مازحًا: “لم أرسم أي لوحة من لوحاتي مؤخرًا بسبب هذه البورتريهات.
لذا، اعتبارًا من الغد، عليكِ أن تكوني موديلتي حقًا.”
ضحكت جوديث وأجابت: “لا بأس، أنا أفي بوعودي دائمًا.”
خرج إيرن حاملًا البورتريه تحت ذراعه، وقد بدا راضيًا للغاية عن النتيجة.
صفقت جوديث قائلة إنه يشبه انعكاس المرآة تمامًا.
تم تعليق البورتريه في الممر المقابل لغرفة نوم إيرن وجوديث.
جمعت العرّابة قطرات من دم إيرن وجوديث، ووضعتها على اللوحة.
ولأن ملابسهما كانت داكنة، لم يظهر الدم على الرسم.
وبعد تسع طبقات من الدم، وضعت كل طبقة كل ثلاث ساعات، أصبح البورتريه الجاهز ليحل محلهما جاهزًا.
في أثناء ذلك، كان روتين جوديث وإيرن هادئًا، وإن كان يحمل توترًا خفيًا، حتى وصلت رسالة إلى متجر البخور.
قال إيرن وهو يتفحّصها:
“لا تفتح هذه الرسالة؟ أنت غير مسؤول عن أي ضرر يحدث إن قرأها شخص آخر؟ ما هذا بحق الجحيم؟”
كانت الرسالة دون اسم مرسل، مكتوب عليها فقط اسم المستلم وتحذير غريب.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ137
[لا تفتح هذه الرسالة أمام الآخرين.
لست مسؤولاً عن أي ضرر قد ينجم إذا قرأها شخص آخر.
أمام جوديث هارينغتون.]
نظرت جوديث إلى الرسالة الغامضة التي أُرسلت إليها، وهزّت الظرف بين يديها.
ولحسن الحظ، لم يكن هناك سوى الرسالة نفسها داخل الظرف.
للاطمئنان، فتحت جوديث الباب الخلفي للمحل، خرجت قليلاً، ثم فتحت الظرف.
[أنا أعلم أن تيا تقيم هناك.
إذا لم تُعدّ تيا إليّ، فسأفشي للناس أن عائلة شارتين متورطة في صناعة البخور.]
حتى بدون توقيع المرسل، كانت الجملة الأولى كافية لتحديد من أرسل الرسالة.
الشخص الوحيد الذي كان يعلم أن تيا تعيش مع جوديث هو الكاهن.
[إذا أردت حماية تيا، سلمني الوصفة السرية للبخور.
ما هذا التهديد الرقيق، وكأنك تعطيني خيارين فقط؟ إذا أعطيتني سر تيا، أقسم بدمائي أنني لن أنشر الشائعات.
إذا كنت مستعدًا للتفاوض، علق منديلًا أصفر أمام محل البخور بحلول صباح الغد.
ملاحظة: أوه، وسأنشر أيضًا شائعة أن البخور يُصنع في القصر الملعون.
عندها سيتضاعف البيع، أليس كذلك؟]
“ما هذا الكلام الرخيص؟”
عبست جوديث وهي تطالع تلك الرسالة التي لم تنتهِ حتى بفعل “ـدا” في نهايات الجمل.
كانت جوديث معتادة على استخدام أسلوب الفصحى عندما كانت في العالم الآخر، أما هذه الرسالة فكتبت بأسلوب مبتذل جدًا.
“… لا يمكن ان يكون هذا الشخص المؤلف.”
لا يمكن لكاتب أن يصيغ جملًا بهذا الشكل.
“ماذا تقول الرسالة؟”
عندما لم تعد جوديث من الخارج لفترة طويلة، فتح إيرن الباب الخلفي وخرج يسأل.
“ماذا أفعل بهذه؟”
سلمت جوديث الرسالة لإيرن.
تبدلت ملامح إيرن بعد قراءة الرسالة المهددة.
بصفته كاهن روحي، لم يرسل السم ولا ألقى تعويذة غريبة، لكنه هدد بنشر الإشاعات!
“… فعّالة.”
“بالضبط.”
كان انتقامًا ناجعًا جدًا.
مؤسف، لكن كان عليهم تقبل الواقع.
تنهدت جوديث كأن الأرض انهارت تحت قدميها.
—
لم تستطع جوديث أن تخفي الرسالة المهددة عن الأم الروحية والعائلة.
“أوقعنا أنفسنا في مشكلة.”
انخفضت الأم الروحية رأسها من الخجل.
تيا كانت حزينة لدرجة أنها لم تعرف كيف تتصرف، ولم يجرؤ أي من أفراد العائلة على الكلام أولًا.
“… علقوا المنديل الأصفر.”
“ماذا ستفعلين، يا أماه؟”
“أنا وتيا سنعود إلى ذلك الرجل معًا.”
اتسعت عينا جوديث من شدة الدهشة على كلام الأم الروحية.
“سأذهب وأقطع شريان حياته بنفسي.
أنا كبيرة في السن، لذا قد يغفل حراسه، وسيكون لي فرصة.”
بدت تيا بوضوح غير راغبة في الذهاب، لكنها لم تجرؤ على الكلام، لأن استمرار الوضع يعني انهيار عمل جوديث.
“لا، يا أماه.”
نظرت جوديث إلى أفراد العائلة الذين بدوا آسفين لدرجة أنهم لا يستطيعون حتى النظر إليها.
“إذا صمدنا هنا، سيكون ذلك ضربة قاصمة لعمل الآنسة هارينغتون.”
“لكن السبب في نجاح عمل البخور حتى الآن هو بفضل الجميع هنا.”
لقد كانوا هم السبب في توفير اليد العاملة الرخيصة.
لولاهم، لكانت جوديث قد انهارت عشرات المرات في الليالي أثناء صنع البخور.
“ولا أستطيع الوثوق بوعد الكاهن.”
“القسم بالدم هو عهد لا يُنكث.”
“لا حاجة لأن ينشر الكاهن الشائعة بنفسه. يمكنك أن تطلب من أحد غير القسيس أن يفعل ذلك.”
كان قسم الدم فخًا.
حتى لو أعادوا تيا أو أعطوه الوصفة السرية، فهناك احتمال كبير أن تنتشر الشائعات.
“لن أستجيب لطلب الكاهن.
أظهرت لكم هذه الرسالة لأني أعتقد أنه من حق الجميع أن يعرفوا.”
حالما تنتشر الشائعة، يتراجع العمل.
ومع تراجع العمل، تنخفض الدخل، وعندما ينخفض الدخل، تقل الرواتب والنفقات المعيشية.
“أتمنى أن تتغلبوا على ذلك.”
ربّت جوديث على كتف تيا التي لم تستطع مواجهة عينيها بسبب شعورها بالذنب.
ثم انفجرت تيا بالبكاء.
وهدأتها جوديث قليلاً قبل أن تتوجه إلى غرفة النوم.
“هل أنت بخير؟”
كان إيرن براقب جوديث منذ البداية، وكان قلق جدًا بشأن حالتها في إدارة العمل.
هذا الكاهن اللعين يعبث بالعمل.
أفضل من أن يعبث بالحياة، لكن العمل بالنسبة لجوديث كان بنفس أهمية الحياة.
“سيكون الأمر على ما يرام إذا أمسكت الكاهن أمام المحل غدًا.”
في طريقهم إلى القصر بعد استلام الرسالة، توقفوا عند ماركيز موسلي.
سواء عُلّق المنديل الأصفر أم لا، كان على القسيس أن يجيء ويفحص الأمر.
لم يكن معروفًا ما إذا كان الكاهز سيأتي بنفسه أو سيرسل أحدًا، لكن الخطة كانت نشر عدد كبير من الحراس السريين حول المحل.
“قلت إن أي شخص يتصرف بشكل مشبوه، حتى لو كان إمبراطوريًا، سيُعتقل، لذا لا خيار أمامي سوى أن أثق بك.”
لأنه ربما يوجد إمبراطوري آخر مثل الرئيس عمر داخل العاصمة يمكنه مساعدة أتباعهم.
حتى لو لم يعثروا على شخص مشبوه أمام المحل غدًا، كان لديهم خطة أخرى.
“إذا علّقت المنديل الأصفر، ألن يتصل بي أحد ما بطريقة ما؟”
كانت جوديث تخطط للبقاء على تواصل مع الكاهن وتعقبه.
“الذيل الطويل سينكسر لا محالة.”
—
الذيل الطويل لا بد وأن يُداس.
أدركت جوديث متأخرة أن شادين يعرف هذا المثل جيدًا.
في اليوم التالي، علقت جوديث منديلًا أصفر أمام محل الشموع.
لكن الكاهن لم يرد على الإطلاق.
“هل عرفت أنني أرسلت الجنود هناك؟ أم أنك تلعب معي فقط؟ ما الأمر؟”
بدون أي إنذار، نشر الكاهن شائعة أن جوديث تستخدم عائلة شارتين في صنع البخور.
حارت جوديث في أمر كيفية انتشار الشائعة ولماذا أُرسلت الرسالة.
“هل صحيح، الآنسة هارينغتون، أن عائلة شارتين تصنع البخور؟”
“… نعم، هذا صحيح.”
“لماذا تخرج مثل هذه الشائعة في مثل هذا الوقت؟ سمعت أنك ما زلت مثقلة بالكثير من الديون، كم أنت محظوظة.”
ربما لأنها شاركت سرها، لم تتجاهل ليلى جوديث، واستمرت بطلب نفس كمية البخور.
لم تكن ليلى الوحيدة، بل إن عدة زبائن منتظمين، خصوصًا من ليس لديهم عداوة خاصة مع عائلة شارتين، استمروا في شراء البخور.
ومع ذلك، كان معظم الناس يعتبرون كل ما له علاقة بالشارتين نذير شؤم.
وفي وقت كانت فيه عائلة شارتين تخطط لتمرد، كان الاستياء ضدهم في ذروته.
كان رد الأموال على المنتجات الجديدة شائعًا.
حتى أن هناك من أعاد بخورًا مستخدمًا وطلب استرجاع نقوده لأنه كان متسخًا وغير صالح.
هبط العمل بسرعة أكبر مما توقعت جوديث.
“… يا إلهي! لماذا تفعلون هذا؟”
بينما كانت تجلس في المحل، غارقة في أفكارها، سمعت صوت رايان يصرخ في الخارج.
خرجت جوديث، وإيرن، وهنري معًا.
“رايان!”
كان رايان، الذي خرج يكنس الأرض أمام المحل، يبدو كأنه فأر مبلل تحت المطر.
أما أمامه فكان صاحب المحل المجاور يتذمر وهو يحمل دلوًا.
“مرحبًا، ماذا تفعل؟”
“بسببكم، لا أستطيع العمل.
هل تظنون أنني الوحيد؟ كل أصحاب المحلات في هذا الزقاق مجرد أناس عديمي الجدوى.”
“هل هذا منطقي؟ لماذا تلومنا على شيء ليس له علاقة بنا؟”
دخلت جوديث رايان المبلل إلى الداخل وبدأت بتدحرج أكمامها.
بينما حاول هنري وإيرن منعها، تراجع صاحب المحل المجاور مترددًا ودخل متجره.
“يا إلهي، ماذا أفعل إذا لم يكن هناك حتى ذبابة واحدة؟”
وبينما اختفى صاحب المحل، وضعت جوديث يدها على جبهتها عندما ظهر سميث بهدوء.
شعرت بوضوح بنية الكاهن الخبيثة كما لو أنه يريد قطع رزقها تمامًا.
“هل ستدفعين لي فوائد هذا الشهر؟”
“لا تقلق، سيد سميث، سأجد طريقة ما.”
قال سميث، وهو يربت على لحيته المتشابكة وكأنه جاء من مكان ثري.
“أعلم أنك قوية جدًا، يا كونتيسة.
لكن من كان يظن أنك ستجلبين عائلة شارتين وتستخدمينهم في العمل؟”
“إذا شعرت أن عملك لا يسير على ما يرام، جئت لأعرض عليك بعض الأعمال.”
“ما هو العمل؟”
هل تقول إنك لم تأت هنا من أجل المال؟ هل تقول إنك جئت لتعلمني كيف أجني المال؟
“يا بني، هذا الكلام يلمس قلبي حقًا.”
نظرت جوديث إليه بعينين مبللتين، فتردد سميث وتراجع، كأنه يشعر بثقل الأمر.
“مهلاً، ماذا لو تركنا كلمة ‘يا بني’ جانبًا، وانضممتِ تحت إمرتي؟”
“نعم؟”
“سأعطيك 1% إضافية إذا جلبت لي المال الذي لم تحصل عليه.
أعتقد أنك جيدة جدًا في هذا.”
الآن، لقد استقطبني مرابيّون.
صُدمت جوديث، لكنها لم تغضب.
كان الأمر كما لو أنها شعرت باعتراف ما.
لكن، لحظة،
هل لدي أموال لم أحصل عليها أيضًا؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ138
استعد لاسترجاع مالك الضائع.
باقتراح من سميث، تذكّرت جوديث المال الذي كانت قد أقرضته، أو بالأحرى، “الخنفساء الذهبية”.
قالت بابتسامة:
“شكرًا لك يا بني، لقد ألهمتني فعلًا.”
وقدمت له شمعةً معطّرة صغيرة، كتلك التي كانت تهديها لكل زائر كلفتة رمزية.
توجهت نظرات سميث الزيتية نحو إيرن، في نظرة بدت كأنها تقول: “لماذا؟”
وربما احتوت على مسحة من الجنون، وكأن فشله المهني قد قوض قواه العقلية.
هزّ إيرن رأسه نافيًا، لكنه شعر بقلق يتسلل إلى قلبه.
هل هذا الرجل فقد عقله فعلًا؟
قال سميث وهو يستعد للمغادرة:
“على أي حال، إن احتجت إلى عمل، تعال إليّ.
زوجتك تملك مؤهلات ممتازة في مجال الإقراض.”
مؤهلات المقرض الجيد؟ أهي القدرة على امتصاص الناس حتى العظم؟
كان لدى إيرن الكثير ليقوله، لكنه كتم كلماته.
نقر سميث بلسانه، وهزّ رأسه بأسى، ثم رمق جوديث بنظرة مشفقة وغادر.
تنهد إيرن وقال:
“من حسن الحظ أنكِ رفضتِ عرضه.”
رغم علمه بأن جوديث بحاجة ماسة لأي فرصة تدرّ المال، إلا أنه لم يرد رؤيتها تطرق باب عالم الإقراض.
كان يشعر بشيء داخلي يخبره بأنها قد تتفوّق فيه…
بل وتبالغ في تفوّقها.
“إن زعمتِ أنكِ وجدتِ شغفك، فهل ستتخلّين عن البخور لتدخلي عالم المرابين؟
لا، لا، أفضل الذهاب إلى جبهة القتال.”
بل إنه كان مستعدًا لأن يستدين من ماركيز موسلي أو جيلارد، أو حتى من الإمبراطور، إن كان ذلك سيمنحهم فرصة لاسترجاع المال الذي أقرضته جوديث.
فجأة قالت وكأنها استفاقت من غفلة:
“أجل، هذا هو! لم عشتُ كل هذا الوقت ناسِيَة؟”
ارتجف إيرن قليلاً من ضحكتها المصحوبة بكلماتها.
هل فقدت عقلها حقًا؟
لكنه وضع راحتيه على وجنتيها وجعلها تنظر إليه مباشرة:
“آنسة هارينغتون، عليكِ أن تكوني أكثر وعيًا الآن.”
نظرت إليه بعينين متقدتين، فأحسّ بقشعريرة.
كانت نظرتها تشبه تلك التي رآها في عيني سميث عند جمع الديون.
“هل تحاول الحفاظ على نقاء مهنة المرابين؟”
إن كانت تملك هذا القدر من المؤهلات، فهل يتركها تسير مع التيار؟
لا، لا. لا يزال إيرن يأمل أن تبقى جوديث بعيدة عن هذا العالم…
حتى لو اضطر للجوء إلى القمار غير القانوني.
قالت جوديث:
“هناك مبلغ كنت قد أقرضته ولم أسترده حتى الآن.”
“أعندكِ مال لتقرضيه؟ حقًا؟”
كانت جوديث معروفة بعدم إعارة المال.
“إذن يا إيرن، اذهب مع السير هنري واسترجع هذا المال.”
“أنتِ ستأخذين المال، صحيح؟ لن تسرقيه؟”
رغم كل شيء، لا يزال إيرن فارسًا.
قد يأخذ الشراب من أصدقائه، لكنه لم يسرق يومًا مال الغرباء.
قالت بثقة:
“بالطبع سأسترده.
وأنت تعرف المدين أيضًا.”
“من؟”
“ليون هارينغتون.”
—
بعد مرور نصف عام…
مرّ أكثر من ستة أشهر على مغادرة ليون إلى الكازينو.
من المؤكد أنه حقق ثروة هائلة خلال تلك الفترة.
>”في الواقع، هو مدين لي بكل ذلك.
لو أعطيتُ الخنفساء الذهبية لشخص آخر، هل كان ليون سيكسب شيئًا؟”
أرسلت جوديث كلاً من إيرن، وهنري، وحتى تان لتحصيل المال.
خشيت أن يقترب أحدهم كثيرًا من الخنفساء الذهبية فيؤذيهم مجددًا.
أمرتهم باستخدام قواهم الروحية لجمع كل قطعة نقدية، مهما كانت صغيرة.
“هذا المال من حقي.”
فهو المال الذي كان يجب أن يُمنح لها مقابل بيعها لعائلة راينلاند.
وفوق ذلك، ألم تكن هي من عملت في الخياطة لتغطية نفقاته في القمار، والملبس، والطعام بعد سقوط عائلتهم؟
“حتى زر القميص لا يجب تركه.
أراهن أنهم يفتشون الأدراج فقط.
عليهم النظر تحت السرير أيضًا!”
وفي تلك اللحظة، كان إيرن ورفاقه يقتحمون منزل ليون.
“غريب هذا الشعور… أن نسرق منزل أحدهم في وضح النهار.”
قال هنري:
“يشبه الأمر ما يفعله أتباع السيد سميث.”
أجاب تان بابتسامة صامتة:
“أظن أن زوجتك تشعر وكأنها السيد سميث نفسه.”
كاد إيرن أن يعاتبه، لكنه لم يستطع، لأنه كان محقًا.
عاش ليون في نزل فاخر ملحق بكازينو، دلالة على ثروته التي حصدها بفضل الخنفساء الذهبية.
“هذه هي الغرفة.”
أشار هنري نحو الغرفة، فركل إيرن الباب ليفتحه.
حاول الخادم منعه، لكن هنري أبرز شارة الأمن، فتراجع بهدوء.
“انتحال هوية؟”
“دَع الماركيز يتولى الأمر.”
دخلوا الغرفة، ليجدوا ليون مستلقيًا وسط رائحة عفنة.
فتح عينيه وسأل:
“من أنتم؟ … أنتَ، كنتَ تعيش مع جوديث!”
ثم أضاف:
“ما زلتَ معها؟”
أجابه إيرن ببرود:
“وماذا في ذلك؟”
رد ليون بتعجرف:
“أنا أكبر منك رتبة، كن محترمًا.”
لم يجد إيرن داعيًا للرد. فهو يعلم أن هذا الرجل باع أخته دون ذرة من الضمير.
كان ليون يتمتم بكلمات عن قدرة جوديث على ترويض الرجال، لكن إيرن اقترب منه لإسكاته.
وفجأة بدأ ليون يصرخ:
“هذه الخنفساء اللعينة! إنها تُزعجني!”
ظل يحكّ أذنه حتى سال الدم، بينما كانت الخنفساء الذهبية تنهشه ببطء.
ألقى إيرن رسالة من جوديث أمامه إشعار استرداد دين.
احتوت الرسالة على قائمة مفصلة بكل ما قدمته جوديث: من نفقات، وقروض، وتعويضات عن المقامرات، وحتى المبلغ الذي قبضه من كليف مقابل بيعها.
قال إيرن ببرود:
“حسنًا يا رفاق، اجمعوا كل شيء.”
فتحوا الحقائب الكبيرة، وانتشروا في أنحاء الغرفة.
سحب إيرن حقيبة ثقيلة من خلف واجهة العرض.
كانت مليئة بالنقود الذهبية والفضية المتلألئة.
ابتسم وهو يضعها في الحقيبة.
قال هنري:
“هناك مشروبات نادرة لم تُفتح بعد.”
“أحسنتم.
خذوها أيضًا.”
جمعوا الذهب، والمشروبات، وحتى الملابس الفاخرة من الحرير، ولم يتركوا حتى سبائك الذهب تحت السرير.
وفي النهاية، انتزع إيرن القلادة من عنق ليون، ودفعه أرضًا وهو يئنّ من الألم.
خرج الثلاثة من المنزل محمّلين بالغنائم.
وعندما رأوا جوديث واقفة أمام القصر بوجه يفيض سعادة، ترقّبوا كلمات المديح.
لكنها قالت:
“آه، يا خنفسائي العزيزة، كم أنت مذهلة!”
“…؟”
“كيف تمكّنتِ من جمع كل هذا المال؟ يا لكِ من رائعة!”
عندها أدرك إيرن أن كلمات الثناء… لم تكن لهم.
—
لاحقًا، في منزل جوديث…
كانت جالسة تعدّ الغنائم التي حصلت عليها من منزل ليون.
نقود، عملات ذهبية، أزرار مطلية بالذهب، وحتى قميص فاخر.
قالت:
“هذا القميص مصنوع من قماش راقٍ.
يمكنني بيعه كمنتج مستعمل.”
ثم أمسكت بساعة جيب صغيرة مزينة بجوهرة.
“حتى ساعة؟ منذ متى يهتم المقامرون بالوقت؟ كي لا يفوّتوا موعد الكازينو؟”
دون اكتراث، دوّنت أرباحها الجديدة في دفتر الحسابات.
“ما يقارب ثلاثة آلاف قطعة ذهبية.”
ابتسمت قائلة:
“لقد جمعناها جيدًا، يا أصدقائي الذهب الصغير.”
من كان يظن أن ليون سيكون نافعًا يومًا؟
ثم تمتمت بسخرية:
“الخنفساء الذهبية جعلت حتى المقامرين أثرياء، فكيف غرق الكونت راينلاند في الديون؟”
وهزّت رأسها متذكرة معاناتها بسببه.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ139
“لا بد أنها ثقيلة، دعني أحملها بدلًا عنك.”
“هذا الوزن لا يُشكّل مشكلة، آكان.”
كان شادين وآكان يسيران عبر الساحة في ساعة متأخرة من الليل، كلٌّ منهما يحمل دلوًا في يده.
معظم المتاجر كانت مغلقة، وقد وضع الاثنان دلوَيهما أمام متجر جوديث للعطور.
(يبدو أنكِ غاضبة لأنني لم أظهر بعد أن قلت إنني قبلت بالشروط.)
رأى شادين من بعيد المنديل الأصفر المعلّق على واجهة المتجر، لكنه تجاهله عمدًا.
فالسبب الحقيقي وراء إرساله تلك الرسالة من البداية، لم يكن سوى رغبته في بثّ التوتر في نفس الكاتبة.
رغم أنه أرسل الرسالة إلى جوديث، إلا أن القرار النهائي سيكون بيد إيرن، أو سيتخذ من خلاله. وكان من الأفضل أن تنشب خلافات داخلية.
ما كان يريده شادين ببساطة، هو تعويض الخسائر التي تكبّدها.
بل وربما أراد أن يُلحق أذًى اقتصاديًا بالكاتبة يوازي الألم الذي سببه “أسلوب العزلة” الذي استخدمته ضده.
صحيحٌ أنه فشل في استعادة تيا، لكنه سيحاول مجددًا لاحقًا.
“ما الذي علينا فعله الآن، أيها الكاهن؟”
“رشّه في كل مكان.”
وبدآ بالفعل في سكب السائل الكثيف من الدلوَين على المتجر: على الجدران، والنوافذ، واللافتة، وحتى الباب الأمامي، حتى غُمر المكان بدماء الخنازير التي حصلا عليها من المسلخ.
كان يأمل أن يُحدث هذا ضررًا كبيرًا.
“سيكون من غير العادل أن أفشل وحدي، أيتها الكاتبة.
فلنفشل معًا.”
—
كنت أظن أنني بدأت أستعيد أنفاسي أخيرًا… لكن لماذا يحدث هذا مجددًا؟
وضعت يدي على جبيني وأنا أنظر إلى المتجر الذي بات في حالة من الفوضى.
لقد جمعت ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، وكنت أُخطط بهدوء لما يجب أن أفعله لاحقًا، لكن… ما هذا الذي أمامي؟
عندما تلقيت اتصالًا عاجلًا من هنري صباحًا، أسرعت إلى متجر العطور، وبمجرد أن وصلت، كدت أن أسقط من شدّة الرائحة النفّاذة التي اخترقت أنفي.
تذكّرت في تلك اللحظة الحادثة السابقة التي تركت في داخلي أثرًا مؤلمًا.
وحين استعدت وعيي، وقعت عيناي على كتابات بذيئة ورسومات فاحشة على الجدران، تسبّ عائلة شارتين وجوديث، وتصفهم بأنهم “أنجاس”.
شعرت بدوار وسخونة تجتاح رأسي، وتيبّست مؤخرة عنقي.
“آه… آه…”
تمايلت في مكاني وأنا أُمسك عنقي، نظري تشوّش، وشعرت بانقباض مؤلم في رقبتي.
“تنفّسي… تنفّسي بعمق.”
أمسكني إيرن بسرعة وبدأ يهدئني.
ومع كل نفس عميق، كانت رائحة الدم اللاذعة ترتفع أكثر.
أغمضت عيني بقوة. الجدران الملطّخة بالدماء، والعبارات البذيئة، والنوافذ المحطّمة… بدا المكان وكأن شبحًا سيظهر في أي لحظة.
حتى القلّة القليلة من الزبائن الذين كانوا موجودين، غادروا فورًا بعدما رأوا هذا المشهد المُريع.
“لنُنظّف، ونُبدّل النوافذ.”
رغم أنّ إيرن بدا متفاجئًا بشدّة، إلا أنه حاول أن يكون إيجابيًا أمامي، وقد شحب وجهي حتى صار يميل إلى الزرقة.
“نعم، هناك عددٌ من الأيادي هنا، فلا بد أن نستطيع إنهاء التنظيف بسرعة.”
أضاف هنري من جانبه محاولًا التخفيف.
“أنا أحبّ التعامل مع الأشياء المليئة بالدم.”
قال رايان ببرود، ثم التقط خرقة وبدأ في مسح العبارات من على الجدار.
“انتظر… انتظر.”
كنت ما أزال أتمسّك بإيرن، أضغط على عنقي، ثم رفعت يدي لأوقف رايان.
نظرتُ عن كثب إلى العبارات المكتوبة على الجدار… كانت مكتوبة بخط أحمر، ربما بدم، وربما بحبر أحمر، وتكررت الجملة ذاتها مرارًا.
“لماذا تقرئين أشياء كهذه؟”
حاول إيرن حجب نظري، لكنني أومأت برأسي نفيًا.
“الخط… مألوف جدًا.”
شعرت أنني رأيته كثيرًا من قبل.
الخط ذاته، لا يختلف في أي حرف.
لا يشبه خطي، ومع ذلك بدا مألوفًا بشدة.
حدّقت فيه دون أن أرمش، ثم تمتمت بشتيمة حادّة:
“ذلك الكاهن الحقير…”
وأخيرًا تذكّرت.
إنه نفس الخط الموجود في رسالة التهديد التي بعث بها الكاهن سابقًا!
ارتجفت قبضتاي من الغضب.
“لا تتركني وشأني… بحق الجحيم.”
طلب منك تعليق منديل أصفر، لكنك لم تظهر.
شعرت بأنك تراقبني من مكان ما.
حتى أنني شككت في أنك زرعت جنديًا يترصدني.
لكن لا… الأمر أكبر من ذلك.
أنت فقط تحاول تحطيمي تمامًا.
بل الأسوأ من ذلك، أنت لست مجرد عدو، بل رفيق.
شخص من نفس العالم الذي جئت منه.
(لماذا بحق السماء يفعل هذا؟)
لم أستطع فهم دوافع الكاهن إطلاقًا.
“فلنبدأ بالتنظيف أولًا.”
قلت ذلك وأنا أتنفس بعمق.
في مثل هذه المواقف، يجب أن أتحلّى بالهدوء.
تنفّست طويلاً، ورفعت أكمامي.
“نحن أربعة فقط، ولن ننتهي سريعًا.
علينا أن نطلب المساعدة من القصر.”
“القصر؟!”
اتسعت عينا رايان بدهشة.
فالعائلة المتبقية في القصر ليست إلا الشارتين، بعيونهم العسلية وبشرتهم الداكنة.
الناس يتحدثون أصلًا عن شائعات بأن المتجر مملوك بالشراكة مع الشارتين.
فهل من الحكمة أن أطلب منهم المساعدة علنًا؟
حتى إيرن وهنري نظروا إليّ بريبة.
هل فقدت جوديث صوابها من شدة الغضب؟
كنت أفكر بنفس الطريقة منذ لحظات، قبل أن أرى المتجر على هذه الحال.
(الشارتين هم نقطة ضعفي… لهذا السبب.)
لكنني لن أسمح للكاهن بأن يلعب بي بعد الآن، فقط لأنني استعنت بعائلة الشارتين.
(بما أن الأمر قد انكشف، فلنكشفه تمامًا.)
نعم، الشارتين هم من يصنعون العطور في متجري.
إن كان هذا هو الوضع، فلنواجهه مباشرة.
ومضة زرقاء اشتعلت في عينيّ.
—
جاء كل من ميا وتان وإليور فور أن تم الاتصال بهم، حاملين عددًا كبيرًا من الخِرَق للتنظيف.
الناس في السوق ظلوا يتهامسون وهم يرون أفراد عائلة شارتين يُنظّفون المتجر علنًا.
“إذًا، كان صحيحًا أنهم يستخدمون الشارتين كعمّال لديهم.”
“وهل هذا كل شيء؟ أتعرفون ذلك القصر الملعون؟ إنهم يعيشون فيه!”
“يا إلهي… إنه مخيف. أليس من المفترض أن القصر يبتلع من يدخله؟ كيف لا يزالون على قيد الحياة؟”
كان المارة والتجار يرمقونهم بنظرات مليئة بالفضول، وكأنهم يودّون طرح آلاف الأسئلة، لكن لم يجرؤ أحد على الاقتراب… لأن إيرن كان يتجول في المكان ومعه سيف ظاهر من تحت ردائه.
“هل تناولتم شيئًا؟ ظننت أنكم لم تفعلوا، فجلبت بعض الوجبات الخفيفة.”
وصل كاين مع خدم القصر فور أن سمع بالأمر، وساعد في إعادة ترميم المتجر.
وبفضل هذه المساعدة، عاد المتجر إلى شكله الطبيعي تقريبًا قبل حلول الليل.
إلا أن النوافذ المحطّمة لا يمكن إصلاحها اليوم، فقاموا مؤقتًا بتغطية الإطار بستائر.
في الداخل، كانت رائحة الدم لا تزال عالقة، لكن جوديث أشعلت البخور في كل أركان المتجر لطرد الرائحة الكريهة.
جلس كاين على كرسي صغير بعد أن أُجبر على البقاء لإنهاء التنظيف.
“جلالتك، أنظروا إلى هذا.”
طلبت جوديث من تان أن يُري كاين رسالة التهديد التي أحضرتها من القصر.
“الخط هنا…
هو نفس الخط الذي رأيته في العبارات على الجدار.”
“أجل، يبدو كذلك.
من الصعب تغيير أسلوب الكتابة.”
هذا لم يكن يعني سوى شيء واحد:
“الكاهن دخل العاصمة.
وهو هنا… قريبٌ منّا.”
“لا أستطيع أن أفهم.”
مرّر كاين راحة يده على وجهه.
“أتدركون كم تمّ تشديد الحراسة؟ نُفتش كل الحقائب بدقّة، بحثًا عن أي شيء مخفي.”
ومع ازدحام الناس، تم تقنين عدد الذين يُسمح لهم بالعبور من البوابة يوميًّا.
كما نُشر الجنود على الأسوار لمنع التسلل.
“فكيف تمكن من الدخول إلى العاصمة والقيام بشيء كهذا؟”
“جاء في ساعة متأخرة من الليل… لا بد أنه تجرّأ كثيرًا ليدخل الساحة التي تمتلئ بلافتات المطاردة.”
قال هنري، الذي كان يستمع، وهو يُعلّق على كلام كاين.
“أو… ربما كان واثقًا من أنه لن يُقبض عليه.”
همس إيرن، بينما ابتلع تان ريقه ورفع يده بتحفّظ.
“بالمناسبة، هناك شيء لم أخبركم به.”
تردد تان قليلًا، ثم قال:
“في الحقيقة، رأيت شخصًا يشبه صورة هذا المطلوب، قرب منزل ويلبر، قبل فترة.”
رفع تان ملصق المطلوب وسأل:
“متى أتيت إلى هنا؟”
“ولماذا لم تُخبرنا وقتها؟”
سألته جوديث، فحكّ رأسه بإحراج.
“كانت عيناه زرقاوين.”
كان الكاهن ذا عيون عسلية تميل إلى الأصفر، وهي سمة تدل على نقاء دمه من قبيلة الشارتين.
“الشعر يمكن إخفاؤه بشعر مستعار، لكن لون العينين؟ لا.”
“ربما شخص يشبهه فقط؟”
قال كاين ذلك وهو ينظر إلى تان.
وهزّ إيرن وهنري رأسيهما موافقين.
“بل حتى تغيير لون العينين… لم أفكر أنه ممكن.”
“وأنا أيضًا.”
شعرت جوديث بالأسف على كاين وهو يكرر كلام هنري.
(لا توجد عدسات ملوّنة في هذا العالم!)
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ140
على عكس جوديث، التي عاشت في عالم يمكن فيه تغيير لون العيون بعدسات ملونة، لم يخطر ببال أولئك الأشخاص يومًا أن يغيروا لون عيونهم.
كان الآخرون سيقعون في نفس الخطأ؛ كانوا ليمسكوا بشادين بعد رؤية منشور المطلوبين، ثم يطلقوا سراحه فور ملاحظتهم اختلاف لون عينيه.
قالت جوديث بتنهد قصير:
“لو كان الكاهن قد اكتشف طريقة لتغيير لون عينيه، لما كان من الصعب عليه دخول العاصمة.”
لابد أنه اجتاز بوابات المدينة بكل فخر وثقة.
إن صنع بطاقة هوية مزيفة، وتغيير لون العينين، وارتداء شعر مستعار، والتظاهر بأنك مواطن إمبراطوري، كان كافيًا لخداع الجنود عند نقطة التفتيش.
قالت:
“لو كان بإمكانه تغيير لون عينيه، فعلينا إعادة إصدار منشور جديد للمطلوبين.
إن كنا نعتقل فقط من يشبهه، فسنقبض عليه مجددًا أيضًا، أليس كذلك؟”
تنهد كاين، إذ بدا له ذلك مستبعدًا.
“لكن يراودني سؤال واحد.”
“ما هو، ماركيز؟”
“أعلم أن الكاهن موهوب جدًا ككاهن روحي.
لكنني لا أفهم لماذا لا يستخدم قدراته، وبدلًا من ذلك يهاجم السيدة وإيرن بتلك الطريقة الهمجية.”
“إنه مجنون.”
ارتجفت جوديث.
فالكاهن، من خلال عيني تيا، كان يعرف تمامًا أن إيرن وجوديث يحتفظان بتيا، ورغم ذلك أرسل رسالة تهديد مطالبًا بإعادتها.
لكن الرسالة كانت كاذبة، وما لبث أن نشر الشائعات.
بل وتجاوز ذلك ليُقحم نفسه جسديًا في أعمال جوديث.
لم يكن الأمر يتعلق فقط بأخذ تيا، بل كان يحمل دافعًا خبيثًا، وكأن لسان حاله يقول:
“تبًّا لك أيتها الحقيرة.”
ولم تكن جوديث تفهم هذا الحقد العارم.
قالت:
“لا تغير منشور المطلوبين، يا ماركيز.
لو أعدنا كتابته وعلقناه مجددًا، فسيعرف أننا اكتشفنا أمر تغيير لون عينيه.”
إنه ذلك الرجل الذي استطاع تحويل عينيه من الأصفر الفاقع إلى الأزرق.
ومن يدري؟ ربما يغيرهما لاحقًا إلى الأخضر أو البني.
“فلنتركه يتجول كما يشاء، دون إظهار أي اهتمام.”
لكنهم مع ذلك، قرروا تعزيز الحراسة حول قصر راينلاند والمحال التجارية القريبة.
عاد كاين وقد وعد بزيادة عدد الدوريات، فيما قامت جوديث والبقية، بما فيهم إيرن، بجمع البخور في صندوق الكفارات، ووضعوه في العربة، خشية أن يتسلل أحد عبر النافذة المحطمة ويسرقه.
“ما الذي علي فعله الآن؟”
يجب القبض على الكاهن، وإعادة بناء العمل التجاري.
لكن، كيف يمكن العثور على رجل قادر على تغيير لون عينيه كما يشاء في هذه العاصمة الشاسعة؟ وكيف يمكن إنقاذ مشروع تجاري تلطخت سمعته؟
المستقبل بدا حالكًا كظلام السماء ليلاً.
عادت جوديث إلى القصر وكتفيها مثقلان بالحزن، اغتسلت، ثم عادت إلى غرفتها وفتحت دفتر الحسابات.
“سأستخدم نصف الثلاثة آلاف قطعة ذهبية التي جلبتها إلى ليون لسداد القرض وتخفيض الفوائد.
أما النصف الآخر، فسأخصصه لنفقات المعيشة.”
وبينما كانت تدوّن ميزانيتها، سُمع طرق خفيف على باب غرفتها.
“ادخل.”
فتح الباب برفق وأطل بييتشي برأسه.
“ما الأمر يا سيد بييتشي؟ ادخل ولا تتردد.”
“إذًا، استأذن.”
جلس بييتشي عند الطاولة، تردد قليلًا، ثم وضع كيسًا صغيرًا على الطاولة.
“ما هذا؟”
“هذا ما تمكنت من ادخاره قليلًا فشيئًا.”
“نعم؟ لكن… لماذا تخبرني بهذا؟”
“ألستِ تمرين بظروف صعبة بسببنا؟”
كان بييتشي يرغب في مد يد العون لجوديث، التي لم تتردد في إيوائهم حين لم يكن لديهم مكان يلجؤون إليه.
سقف لا يتسرب منه المطر، غرفة دافئة وسرير مريح، ومكان يمكن للأطفال أن يركضوا فيه بحرية، وتجد فيه الجدات راحة لم يسبق لهن تذوقها.
كان ما قدمته لهم جوديث أكبر بكثير مما تخيلوا أن ينالوه في حياتهم.
اتسعت عينا جوديث بدهشة، وساد صمت للحظة، ثم لوّحت بيديها سريعًا وقالت:
“لا داعي لذلك، يا سيد بييتشي.
ما زلت مدينة لليون، لكني لم أُفلس بعد.”
كانت جوديث معروفة بجمع المال حتى لو اضطرها الأمر إلى انتزاعه من وسط النار، لكنها لم تستطع أخذ مال بييتشي.
فهو، قبل مجيئه إلى القصر، عاش بالكاد ما يكفيه لإطعام أسرته الكبيرة.
وبعد كل هذا العناء، تمكّن أخيرًا من ادخار شيء، وقبول ذلك المال منها أشبه بأكل كبد بعوضة صغيرة.
“آنسة هارينغتون، رجاءً، خذي هذا.
لم يكن بوسع أحد غيرك أن يُجمعه.”
“سيد بييتشي…”
“أليس علينا أن نتجاوز هذه المحنة معًا؟”
دفع الكيس نحوها.
“أعتقد أنني سأعود للعمل في الصيدلية بدءًا من الغد.”
فمبيعات الشموع المعطرة والكريمات المرطبة لن تعود إلى سابق عهدها قريبًا.
لكن بييتشي أراد دعم جوديث، حتى لو اضطر للعمل في صيدلية مجددًا.
“حسنًا، إذًا خذ قسطًا من الراحة.”
نهض بسرعة، خشية أن ترفض جوديث الكيس مرة أخرى.
صرخت خلفه وهو يغادر الغرفة:
“شكرًا لك، سيد بييتشي!”
“ما الذي تقولينه؟”
ابتسم وغادر.
وما إن همّت جوديث بالجلوس مجددًا، حتى جاء طرق آخر.
هذه المرة كانت ميا.
“ادخري كل الرواتب التي حصلتُ عليها.
ليست كثيرة، لكن…”
ميا، سيا، إيلور، رايان، وبقية أفراد العائلة جمعوا مدخراتهم، وجاءوا بها إلى جوديث.
رفضت قبولها، لكن ميا دفعت بكيس النقود إلى أحضانها وهربت على الفور.
“هل يمكنني الدخول، آنسة هارينغتون؟”
ظنّت أنه إيرن، لكن تبيّن أنها تيا، وقد كانت تحمل صندوقًا خشبيًا قديمًا بحجم ساعدها.
“هذه قطعة من حجر الإبرة الذهبية، توارثتها عائلتنا جيلًا بعد جيل.”
عندما فتحت الصندوق، تلألأ حجر ضخم شفاف تداخله إبرة ذهبية لامعة.
“يُقال إن هذا الحجر يجلب الحظ ويطرد النحس، وهو ذو قيمة عالية بين النبلاء.”
أغلقت تيا الصندوق وناولته لجوديث.
“جدتي أعطتني إياه، وقالت لي أن أبيعه وأستخدم المال لسداد الدين.”
“لا… لا يصل الأمر إلى حد بيع إرث عائلي كهذا.”
“رجاءً، تقبليه.
بهذه الطريقة ستطمئن جدتي وأنا كذلك.
فنحن عائلة.”
ثم هربت تيا أيضًا قبل أن تستطيع جوديث اللحاق بها.
جلست جوديث في مكانها مشوشة الذهن.
“ما زلتِ تشعرين بالضعف؟”
دخل إيرن أخيرًا، اقترب منها وهي تحدق أمامها بذهول.
“في أوقات كهذه… من الأفضل أن نشرب شيئًا.
لدي بعض النبيذ من عند ذلك المقامر.”
نظرت إليه جوديث، كان يرتدي رداء الحمّام ويحمل شيئًا غريبًا.
“آه، صحيح، هذا ما طلب الأطفال أن أقدمه لكِ.”
ناولها كيسًا صغيرًا، سُمِع فيه خشخشة عشر عملات نحاسية.
“قالوا إنهم يريدون المساهمة في تسديد دينك.
يبدو أنهم ادخروا من مصروفهم القليل.”
سخنت عينا جوديث فجأة لرؤية تلك النقود المتسخة التي قدمها كايا، ميلو، وفاديم.
“هل سلموك هذا بيدهم؟”
“لا، رمَوه من بعيد وهربوا.
خشوا أن لا ألتقطه.”
أهذا ما تعنيه كلمة “عائلة”؟
بالنسبة لجوديث، كانت العائلة تعني أناسًا يأخذون أموالها دائمًا، ولم يخطر ببالها قط أن يقدم أحدهم يد العون لها.
كان هذا شعورًا غريبًا جدًا.
رغم أن الأرض قد انهارت تحتها، شعرت بأنها لن تسقط إلى ما لا نهاية.
وكأن هناك ثقة خفية بلا سبب بأنها ستتمكن من التمسك بشيء والوقوف مجددًا.
قال إيرن وهو يُمسك يدها بلطف:
“لا تقلقي كثيرًا.
إن اضطررت، سأعود إلى الحلبة.”
من أخبره قبلًا ألا ينطق حتى بكلمة “ساحة قتال”؟
ضحكت جوديث، رغم أن لا شيء يدعو للضحك.
“إيرن، ما رأيك أن تصبح عارض للرسام؟ لن يؤذيك ذلك جسديًا، ويمكنك كسب بعض المال.”
“آه… هذا قليلًا صعب.”
حتى إن عاد إلى فرسان الهيكل، لا يزال بإمكانه أن يكون نموذجًا عاريًا.
يمكنها ترتيب الأمر إن أرادت.
بلع إيرن ريقه بخجل.
“لكن، لماذا تصرين دائمًا على إظهار جسدي للناس؟”
راودته تلك الفكرة المزعجة فجأة.
فعادةً ما يُخفي الرجل جسده عن أعين الآخرين.
حتى بين فرسان الهيكل، لم يكن الجميع يتدربون بصدور مكشوفة.
“زوجتي كانت تنصحني دائمًا بألا أخرج مكشوف الصدر.”
حتى لو تحوّل الأمر إلى مجرد علاقة حب، فإن النصائح تظل كما هي.
ولكن، لماذا لا تُظهر جوديث أي نوع من الغيرة؟
هو يكره النساء اللواتي يُقيدنه، لكن في أعماقه شعر بالحزن لأنها كانت متساهلة للغاية.
“كنت أمزح فحسب.”
آه، إذًا…
أنتِ أيضًا تملكين روح التملّك.
“العائد من الحلبة أكبر من النمذجة، فلا داعي للعار، أليس كذلك؟”
…أوه، هل كان المال هو المشكلة حقًا؟
كان على وشك أن يسأل، لكنه تراجع.
فهذه ببساطة هي جوديث.
وإن كان يعلم، أفليس من الحماقة أن يمنحها قلبه وجسده رغم كل شيء؟
الآن، فهم إيرن تمامًا تلك المقولة المتناقضة:
“من يحب أكثر، يخسر أكثر.”
“على أي حال، فقط أعطني إشارة، آنسة هارينغتون.
لدي كل المعلومات عن الحلبة منذ زيارة سميث الأخيرة.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 14"