نزَعَ إرن ثيابه وشرع بمحاولة كبح النزيف، لكن الدم ظلّ ينساب كلما حرّك ذراعه.
انعقدت ملامح جوديث، مأخوذة بالدهشة والقلق.
“أمرٌ عجيب…”
“وما الذي يُدهشك الآن؟”
“أشعر بدوار…”
ولم تمضِ لحظة، حتى ترنّح جسده وسقط أرضًا، فاندفعت جوديث نحوه بسرعة، تحيط خصره بذراعيها، تسنده بقوة.
“أتراه من أثر السم؟ أم أنك أُنهكت من كثرة ما فقدت من دم؟ علينا الذهاب إلى المستشفى حالًا”
ولحسن الحظ، لم تكن مستشفيات هذه القرية تتطلب بطاقة هوية كما هو شائع في زمننا، مما سهّل الأمر.
كانت جوديث تسانده وهو يخطو ببطء، لم يفقد السيطرة تمامًا بعد، إذ بدا قادرًا على السير وإن بصعوبة، يُخفي ألمه بأنين خافت لا يكاد يُسمع، حتى وصلا إلى تخوم القرية.
“أتعلمين…”
“ما الأمر؟”
“هل من المنطقي أن أتعرض للدغة، وأنزف، وأمشي كل هذه المسافة على قدمي؟”
أتراك تودّ الزحف؟ حدّقت فيه بدهشة، عاجزة عن الردّ.
“سبق وقلت لك إنني أرغب بامتلاك حصان”
“وهل تظن أن لدينا ما يكفي لشرائه؟ أنت أدرى بظروفنا البائسة!”
“وماذا لو انهرت هنا؟”
“ما عساي أفعل حينها؟ بالكاد أستطيع رفع السرج!”
دفعت جوديث خصره براحَتها، وكأنها تدفعه للإسراع.
“هيّا بنا، لا وقت للجدال”
“أنتِ حقًا…”
كتم إرن ألمه، وهمس بمرارة:
“تلك المحاولة لاغتيالي، كانت بسببك. يبدو أنه كان يحمل حقدًا دفينًا”
“كفّ عن التذمّر، أذناي تكاد تنزف من ثرثرتك”
“أنا من ينزف بالفعل”
رفع ذراعه المضرّجة بالدماء ولوّح بها أمامها، لكن جوديث لم تُعرها اهتمامًا، وأشارت إلى مبنى قريب.
“أنظر هناك! مستشفى.
دعنا نُسرع قبل أن تفقد وعيك تمامًا”
شدّت على يده، تقوده برفق، بينما كان يدور برأسه حتى بات عاجزًا عن المقاومة.
—
“ثبت ذراعك قدر الإمكان، وخذ الترياق ثلاث مرات في اليوم”
“حسنًا، سيدي”
خرج الطبيب العجوز من مرقده، وقد أرهقته السنين، ثم بدأ في تضميد جرح إرن، وربط الضمادة بإحكام، ووصف له دواءً مضادًا للسموم.
وبينما كانت جوديث تُصغي لشرح الطبيب، أغمض إرن عينيه للحظة، محاولًا التقاط أنفاسه.
صوتٌ خفيّ بدأ يهمس في أذنه، كأنه وقع أقدام خافتة.
اهتزّ جسده، وكأن ذكريات القتال عادت تطوّقه: رهبة الموت، نداء السيف، حلاوة البقاء بعد الصراع…
ضمّ قبضته بصمت.
“أيها الفتى، لا تعصر يدك كثيرًا، فجرحك قد ينفتح من جديد.
لا تظن أن صِغر سنك يجعلك منيعًا… تِك تِك!”
“…”
لكن الوقت لم يسعفه ليستغرق في أحاسيسه، إذ عاد صوت الطبيب بنبرة متضجرة:
“إن أصيبت الجروح بالتهاب، فسيتضاعف ثمن العلاج، ويتضاعف معه الألم كذلك”
“يتضاعف؟”
فتح إرن عينيه بدهشة، لكن سؤاله لم يكن موجّهًا للطبيب، بل إلى جوديث، التي كانت قد أخرجت محفظتها…
وتجمدت.
(…)
ألم أكن أنا من أنقذكِ؟
أرخى إرن قبضته حين لمح ارتجافة يدها وهي تُخرج النقود.
دفعت تكلفة الليل الثقيل، رغم ارتفاعها، إذ كانت مدينة له بحياتها.
وعندما رأت ذراعه المضمدة حتى الكوع، غمرها شعور مختلط من الامتنان والذنب.
لولا دفاعه عنها، لما أُصيب بتلك الجراح.
“هل أنت بخير، سيدي؟”
“وهل أبدو بخير في نظرك؟”
لا تدري لماذا طفا إلى ذهنها المثل القائل: “كلمة طيبة تساوي ألف يانغ”
امتنانها وندمها تبخرا في رمشة عين.
“على كل حال، أنا ممتنة لأنك أنقذتني”
“وتعلمين ذلك؟ حسنٌ، فكوني أكثر لطفًا”
وما تبقى من امتنانها… تبعثر في الريح.
“أظنني بحاجة إلى بعض اللحم لتعويض الدماء”
“بل الأفضل لك الخضروات، فهي تُطرد السموم”
“أأنتِ جاحدة هكذا؟”
نظر إليها بعينين نصف مغمضتين، بينما تابعت السير بصمت.
وبينما هو يتمتم عن حصان ولحم، كانت تفكر في سر محاولة الاغتيال ومن أرسل القتلة.
وحين وصلا إلى بوابة القصر، تذكرت ما قاله سابقًا.
“عندما هاجمونا، قلت: ‘ألم يعد المحلول فعّالًا؟'”
وقتها لم تنتبه، أما الآن، فقد بدا الأمر مريبًا.
هل فقد الدواء مفعوله؟
“لقد أعطيتني دواءً، أليس كذلك؟ لكني أشعر بنعاس غريب…”
“وكيف تخلّصتِ من الجثة؟”
هل يهذي؟ حدّقت به بحدة.
“انظر إليّ يا عزيزي”
“أهذا ما يُقال لمريضٍ يتألم؟”
راح يتمتم بأسماء وأشياء مبهمة، مما زاد من شكوكها.
متى أعطاها دواء؟ لقد تناولا الطعام معًا، لكنه شرب وحده…
“على الأقل، اشرب بعض الماء”
“ما الأمر، سيدي؟”
“شكرًا، يكفي”
“لكنك احترقت، أليس كذلك؟”
حين التقت عيناهما، انحرف بنظره.
تذكّرت حين ناولها كوب الماء بعد رحيل ليون…
هل حسبته لطيفًا؟ لم يكن كذلك.
“أي نوع من الدواء كان ذاك؟”
“ليس شيء يؤدي الى وفاتك”
“بل ما هو بالضبط؟”
“إكسير الحقيقة”
لا عجب أنني شعرت أن لساني ثقيل…
عبست، مائلة برأسها:
“أعطيتني إياه لأنك شككت بي؟ ظننت أنني متواطئة؟”
لم تتوقع منه ذلك، لكنها فهمت.
إنه حذر بطبعه.
“أتفهمك، لو كنت مكانك، لساورتني نفس الشكوك”
“صراحتك مفاجئة… فاجئيني أنتِ واشتري لي حصانًا. سيكون مفيدًا لك أيضًا”
لوّح بذراعه المصابة، كأنه يتوسل.
“ولمَ تحتاج لحصان إن كنت تمشي بخير؟”
ظاهريًا، لم يكن يعاني من مشي.
فتحت باب القصر، ثم التفتت إليه:
“بما أن ذراعك لا تتحرك جيدًا، سأتكفل بفتح الباب”
تجمد إرن في مكانه من هذا الكرم غير المتوقع.
“… شكرًا جزيلًا”
ممتن للغاية.
سنرى، يا جوديث هيرنغتون…
سنرى.
—
في اليوم التالي.
“أنا عطشان”
رفعت رأسي من فوق ذراعي، بعينين مرهقتين تبحثان عنه بدهشة.
رغم أن لي غرفة خاصة، إلا أنني مذ دخلت غرفة المكتب/النوم، شعرت بعدم ارتياح.
“ماء”
“الكأس أمامك”
“لكن يجب عليّ أن أملأه”
رفع يده المصابة بتنهيدة ثقيلة.
“وماذا لو مرضتُ من رفع الإبريق؟”
على الأقل تظاهر بالضعف! تمتمت بضيق:
“كلما زاد الأمر سوءًا، تضاعف ثمن الدواء”
تنهدت، وتخلّيت عن شمعي المتراكم.
كدت أُقتل بالأمس، ومع ذلك، لم أشعر بالخوف، بل بالإرهاق.
الدماء، الجثث، المستشفى…
ثم العودة.
مشهد الدماء لا يغادرني.
“الجثث، ماذا عنها؟”
“هنري سيتكفّل بها، يعرف أين يأخذها”
حين أخبرتهم أن عدد القتلى أربعة، طلبوا أجرًا جنونيًا.
ارتعشت يداي أكثر مما فعلتا حين كنت أواجه الموت.
رفضت، وقضيت نصف اليوم في تنظيف آثار الدم وحدي، ثم تذكرت الطلبيات المؤجلة.
إن لم أُسلّم الشمع في وقته، سأخسر الثقة.
والثقة هي عصب العمل.
لكنه لم يتركني وشأني. يستغل إصابته ليمطرني بطلباته.
ولو تحرّك بعشوائية، ستتفاقم إصاباته، وتزيد النفقات.
“ها هو الماء”
ملأت الكأس التي أمامه.
“اشرب”
“آنسة جوديث هيرنغتون”
ناداني باسمي الأخير.
عضضت شفتي.
حين يفعلها، أعلم أن شيئًا سيئًا قادم.
“الماء بارد.
أتعطين مريضًا ماءً باردًا؟”
“… جرّبه”
وضعت الإبريق على المدفأة، بدأ يغلي.
سكبت بعضًا منه.
“الآن صار دافئًا”
“بل ساخن.
ماذا لو انسكب عليّ وأُحرقت؟”
هزّ رأسه مستاءً.
“مرهم الحروق باهظ الثمن”
“اتركه ليبرد”
“ولمَ سكبتِه إذًا؟ آنسة هيرنغتون؟”
أخذت الكأس، نفخت فيه، وأعطيته إيّاه.
“بارد جدًا”
حين استعدّ للشرب، تمتمت:
“… ليتني تركتك تموت عندما هدأ كل شيء.
لماذا أنقذتك؟ اللعنة على الوسيط.
لن أسامحه”
“أسمعك… احتفظي بتلك المونولوغات لنفسك… آه!”
سكب بعض الماء على ضماده.
“فعلتِها عن قصد، أليس كذلك؟”
“محض خطأ.
الشرب باليسرى صعب، وكتفي مصاب أيضًا”
ضيّقت عينيّ:
“هل تذكر من كنت تحاول حمايتها حين أصبت؟”
“تشه”
“تشه؟ تشه لمن أنقذت حياتك؟”
ذهبت لأُحضِر الضمادات.
“على فكرة، حياتك مدينة لي أيضًا، أليس كذلك؟”
“الوسيط أنقذني، وهنري دفع المال.
كيف تكونين أنتِ المنقذة؟”
قالها ببراءة، فتجاهلت سؤاله.
“فيما يبدو، فإن سمعك لا يفوّت شيئًا”
___
اعزائي القارئيين، إرن وإيرن نفس الشي لا عبالكم غير شخص 🙏🏻.
التعليقات لهذا الفصل " 13"